تدمير حل الدولتين يقود لخيار الأبارتهايد
نهاد أبو غوش | فلسطين
دولة المستوطنين وعنفهم
اقترن هذا التوسع الاستيطاني، ووجود قوى استيطانية ويمينية متطرفة على رأس مؤسسات الحكم في إسرائيل، بمزيد من الممارسات العدوانية والعنف الذي يمارسه المستوطنون وتشكيلاتهم ضد الفلسطينيين، وتنامي تأثير المستوطنين على أجندات إسرائيل سواء تلك الخاصة بالتعامل مع الأراضي الفلسطينية المحتلة أو تخص المجتمع الإسرائيلي بشكل عام، وكان عنف المستوطنين مدار حديث ونقاش معلن بين وزير الأمن الداخلي عومر بارليف ومساعدة وزير الخارجية الأميركي فيكتوريا نولاند، حيث أقر بارليف بعنف المستوطنين هذا، لكنه جوبه بنقد عنيف من قبل بينيت وأقطاب اليمين والمستوطنين.
ظاهرة عنف المستوطنين ونفوذهم المتزايد، وبالتالي تحكّمهم بخيارات إسرائيل تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة أثارت قلق أوساط عسكرية وامنية نافذة تدرك أكثر من غيرها خطورة هذا المنحى، فقد وجّه ثلاثة جنرالات في الاحتياط هم نيتسان الون وآفي مزراحي وغادي شمني، سبق لهم تولّي قيادة المنطقة الوسطى في الجيش والتي تشمل الإشراف على الضفة الغربية، رسالة لأعضاء الحكومة والكنيست والرأي العام، ونشروها في صحيفة هآرتس بتاريخ 12/1/2022 ، حذروا فيها من المخاطر الأمنية والقيمية والاجتماعية والسياسية على دولة إسرائيل، وقال هؤلاء الجنرالات وهم جزء من حركة “قادة من أجل أمن إسرائيل” التي تضم أكثر من 300 ضابط كبير في الاحتياط، أن عنف المستوطنين الذي يكاد يخرج عن السيطرة، يهدد قدرات الجهات الأمنية ويستنزف طاقة الجيش الإسرائيلي في غير المهام التي وجد من أجلها، ويضر بعلاقات إسرائيل الدولية، ويضعف قدرات السلطة الفلسطينية ويسحب البساط من تحت قدميها ويحول دون تمكنها من القيام بالتنسيق الأمني.
ويرى تسفي بارئيل في هآرتس معلقا على رسالة الجنرالات هذه أن المستوطنين باتوا يديرون دولة قائمة بذاتها وهم يقيمون علاقة كونفدرالية مع دولة إسرائيل، بحيث يحظون بالتمويل والحماية، كما أن في وسعهم إملاء عدد من القوانين على الدولة الكونفدرالية.
وترتفع أصوات المستوطنين وممثليهم وأدواتهم القانونية بالشكوى من أي سلوك فلسطيني يُشتَمّ منه أنه يحاول ممارسة أي نوع من السيادة أو المسؤولية المدنية على الأراضي المحتلة المصنفة (ج) والتي تعادل مساحتها 62% من مساحة الضفة، فقد نقلت صحيفة “يسرائيل هيوم” بتاريخ 18/1/2022 عن مصادر من مقربة من لوبي “أرض إسرائيل” في الكنيست وهو ائتلاف لأعضاء الكنيست من كتل يمينية مختلفة، أنهم قدموا شكوى للجنة الخارجية والأمن عن مساع فلسطينية “لاحتلال” مناطق (ج) ومحاصرة المستوطنات، من خلال عمليات تسجيل الأراضي وبناء منشآت واعتقال بعض سكان هذه المناطق من الفلسطينيين، ونشاطات أخرى مدعومة من تركيا والاتحاد الأوروبي.
إحكام التبعية
ولا تقتصر سياسات إسرائيل تجاه الأراضي المحتلة على الإجراءات القمعية والاستيطانية، فثمة سياسات موازية تجري على الأرض وترمي إلى إحكام تبعية الأراضي الفلسطينية المحتلة لإسرائيل، وسدّ الآفاق امام خيار الدولة الفلسطينية المستقلة. وسبق لنشرة “المشهد الإسرائيلي” أن تطرقت لهذا المحور من خلال مجموعة من المواد المرتبطة بمفهوم “تقليص الصراع”، وينعكس ذلك في الواقع العملي من خلال توسيع صلاحيات الإدارة المدنية التي نص اتفاق أوسلو على حلها في نهاية المرحلة الانتقالية، لكن السنوات الأخيرة شهدت تعزيزا لدور هذه الإدارة، والتي بدأت قبل سنوات بتجاوز هيئات الارتباط الفلسطيني والتعامل المباشر مع المواطنين الفلسطينيين من خلال المجالس المحلية. في الأشهر الأخيرة طوّر مكتب مسؤول الإدارة المدنية المعروف ب”المنسق” تطبيقا اليكترونيا يتيح لكل مواطن فلسطيني التعامل المباشر مع الإدارة والحصول على بطاقة ممغنطة أو تصريح لأغراض العمل أو العلاج أو الزيارة، وتنتشر الدعايات المموّلة للمنسق وهيئة الإدارة المدنية بكثافة على صفحات التواصل الاجتماعي لتعلن عن الخدمات المتنوعة التي تقدمها هذه الهيئة، بما في ذلك الإعلان عن خدمات تنموية وإغاثية وإنسانية كإيصال مياه الشرب ونجدة مصابي حوادث الطرق.
ورصدت عدة جهات فلسطينية في الآونة ارتفاعا غير مسبوق في أعداد التصاريح الممنوحة للفلسطينيين بما في ذلك لمن كانوا يعانون من منع أمني، هذه الظاهرة خلقت فجوات في سوق العمل الفلسطيني المحلي وتحديدا في قطاعات العمالة الماهرة، وذلك ما دفع رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية للحديث خلال اجتماع مجلس الوزراء الفلسطيني في طولكرم أواخر شهر كانون الأول الماضي عن نقص في العمالة المطلوبة، وهو ما ردّه المحللون الاقتصاديون إلى تسرب العمالة لسوق العمل الإسرائيلي في ضوء التسهيلات الأخيرة التي شملت توسعا في منح التصاريح، وتساهلا تجاه تسلل العمال من الثغرات المفتوحة في الجدار.
اللافت أن الطلب الإسرائيلي على العمالة الفلسطينية اتسع ليشمل قطاعات غير تقليدية من بينها قطاع التقنية الحديثة ( الهاي تك) حيث سبق لوزير الدفاع بيني غانتس أن أوصى بمنح ثلاثة آلاف تصريح لعاملين فلسطينيين في هذا القطاع، الذي قال عنه المنسق أنه قد يصبح المحرك الرئيسي للاقتصاد الفلسطيني.
لا تشمل الإجراءات المذكورة أعلاه انتشار مئات الورش والمشاغل في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تشغل آلاف العمال الفلسطينيين لصالح المشاريع الإسرائيلية وتحديدا في قطاعات صناعة النسيج والورش الحرفية، والتي تعفي أصحاب العمل الإسرائيليين من تطبيق قانون العمل بما فيه الحد الأدنى للأجور وإجراءات السلامة.
تساهم مختلف المواقف السياسية والأمنية والاقتصادية تجاه الفلسطينيين في دحر الخيارات السياسية لإيجاد حل تفاوضي يقود إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، ويؤدي بدلا من ذلك إلى تكريس تبعية الفلسطينيين وتهميش دور السلطة أو اختزاله في وظيفتين هما الأمن، وإراحة إسرائيل من عبء التعامل مع الشؤون الحياتية للسكان الفلسطينيين، وكل ذلك يقود بالمحصلة إلى تدمير حل الدولتين وفتح الطريق أمام دولة واحدة لن تكون سوى دولة التمييز العنصري