فكر

النرجسية السياسية والمجتمعية

بقلم : عفاف عمورة | برلين

عَرف العالم ظاهرةً سياسيةً جديدةً أكثر تبلوراً من السابق تُعرَف بــ(نظرية السياسة النرجسية)، أو(نرجسية السياسة)، فعندما تتحوَّل النظرية السياسيّة إلى واقع عملي، فهذا يدلُّ دلالةً واضحةً على أنّها أصبحت حقيقة واقعة، تلك الظاهرة تمثِّل إحدى ظواهر الهوس الإيديولوجي، ويمكن أن تكون السياسة الوجه والمرآة الحقيقية للهوس النرجسي، وما انشغال القائد أو الزعيم بذاته وبهوس العظمة،الذي يمكن أن يصل إلى حدود جنون العظمة، إلا دافع قوي للآخرين لعدم الاهتمام به، بل والاستهزاء به في الغرف المغلقة خوفاً من سطوته وبطشه، وأحياناً بشكلٍ علني عبر وسائل إعلام غير رسمية أو من خلال السوشال ميديا (وسائل التواصل الاجتماعي)، وهو ما يدفعه إلى أن يتحوَّل إلى طاغية مستبد يهدِّد الذين من حوله.. في هذا السياق يمكننا أن نعتبر أنَّ (النرجسية) إحدى أكثر المفاهيم أو المصطلحات المتعلقة بالجانب النفسي انتشاراً وتداولاً في العقود الأخيرة. سواء كان ذلك على الصعيد المحلّي أو الإقليمي أو العالمي، واللافت للانتباه أنَّ مصطلح النرجسية يُستخدَم في مجالاتٍ مختلفة من العلاقات الشخصية والحميمية حتى العلاقات السياسية. من هنا يمكن إجراء دراسات على الأجيال، وإجراء الدراسات المتخصصة التي تناولت دور الثقافات والوعي وأنماط التربية الحديثة والمعاصرة ، لذا بدا واضحاً أنَّ المقاربات تختلف في تفسير هذا الاهتمام الكبير بمفهوم النرجسية ومدلولها، إلّا أنَّ أحد أكثر التفسيرات والتوضيحات رواجاً ،هو التغيّر الكبير في الظروف السياسية والاجتماعية، وتغيراتهما وتأثيراتهما المتعددة.
الجدير بالذكر أنَّ الصحفي والمؤرِّخ الأمريكي كريستوفر لاش Christopher Lasch أستاذ التاريخ في جامعة (روتشسترUniversity of Rochester)، قد ألّف كتاباً بعنوان : (ثقافة النرجسية)، وقد كان من أوائل الباحثين الذين بدأوا الحديث عن النرجسية بوصفها مشكلةً رئيسيةً في السياق الأميركي على وجه التحديد. ومنذ ذلك الوقت، بدأ الاهتمام بها يتضاعف مع تقدّم الزمن.
ولأنَّ علم النفس ليس بمعزلٍ عن حياة المجتمعات وثقافتها وتطلعاتها ونظمها السياسية والاقتصادية القائمة، ازداد حضور النرجسية في الأبحاث النفسية والممارسة الطبية بشكلٍ لافت وكبير. كما تمّ إضافة حالات الاضطرابات الشخصية النرجسية في الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية عام 1980م وما تلاها. فقد تم الحديث عن الشخصية النرجسية كون صاحبها يتمتع بأنانية مفرطرة ، كما أنَّهُ عاشقٌ لنفسِهِ دونَ غيرِهِ، ويرى نفسَهُ أنَّهُ الأجملَ والأبهى والأنضر، وهو يحسب أنَّ الناسَ أقلّ منهُ جمالاً ونضارةً ، لذا يبيحُ لنفسِهِ استغلالَ الآخرينَ، والسخرية منهم وما ينتجون .
لقد اقترح بعض الباحثين بعد ذلك دراسة الفروقات في نسب النرجسية بين الأجيال المختلفة. ومن أهمّ ما أكسب النرجسية زخماً وقوّةً كبيرةً أثار حولها المزيد من النقاش الساخن في الأوساط العلمية هو كتابٌ هام بعنوان (وباء النرجسية) من تألف عالما النفس الأميركيان (كيث كامبل) و(جين توينغي) الصادر عام 2009 م من جامعة سان دييجو وجامعة جورجيا. ومن خلال المتابعة نجد أنَّ نسبةً كبيرةً من الأشخاص يصرّون بقولهم (أنا شخص مهمّ).
في هذا السياق يلعب الجانب الثقافي والمعرفي والاجتماعي دوراً أساسياً ومحورياً في تحديد الهويّات الفرديةِ الخاصّة وأنماط السلوك للأشخاص في المجتمع. هذا الجانب يحظى باهتمام الكثير من الباحثين المتخصصين الذين يَرَون أن تقسيمات الأجيال المتعاقبة ليست المقاربة الأفضل لمسألة النرجسية وحب (الأنا المفرطة)، بل ينطلقون من فرضيّة أنَّ نمط وسلوك الحياة الفرداني والحديث في جميع أنحاء العالم وتحديداً في دول الغرب الأمريكي ـ الأوروبي قد يكون السبب الرئيسي في زيادة نسب النرجسية وطغيان (الأنا) المتضخمة. كل ذلك أدّى إلى صعود الحياة الفردانية وازدياد قيمة المسيرة المهنية للشخص إلى انخفاض مستوى القيم الجماعية بشكلٍ عام ، وصعود القيم الفردية بشكلٍ خاص وهو أمرٌ واضح وصريح ، وهذا ما تحدَّثَ عنهُ علم النفس مبيِّناً الفروقات وحالات النجاح الفردي بين المجتمعات الفردانية (Individualistic) والمجتمعات الجماعية (Collective) .هنا يمكننا القول بأنَّ ثقافة العديد من المجتمعات ليست صلبة بما يكفي . بل هي ثقافات سائلة على حد تعبيرالكاتب زيجمونت باومان Zygmunt Bauman عالم الاجتماع البولندي مؤلف كتاب (الثقافة السائلة) الذي يؤكِّد على أنَّ الثقافة السائلة تتبنى سياسة الإغراء بدلًا من سياسة التنوير والارتقاء بالنفس، وأن تكون نشاطاً مفتوحاً غير محدود وذلك بهدف ألا يتم إشباع الحاجات القائمة ،بل أن تبقى في حالةٍ متواصلةٍ للحاجاتِ الضروريةِ، لكي تمنع الإنسان من الوصول إلى إحساس الرضا عن النفس أو الإشباع الذاتي المنشود. لذا فالثقافة كونها سائلةً هي في تغيير مستمر ، فحتى المجتمعات الجماعية (Collective) قد تبدأ بالتحوّل الصريح والواضح إلى الطابع الفرداني شيئاً فشيئاً، والعكس صحيح تماماً . ويدلّل على ذلك وجود العديد من الدراسات التي أجريت في العديد من دول العالم ، فقد كان للصين دور هام في هذا المجال حيث أجرت دراسة محكَّمة عام 2012م، ووجدت أن نسب النرجسية في تزايد كبير بسبب تغير الثقافة وتبدلها ، على الرغم أنّ جمهورية الصين الشعبية تعتبر مثالاً هاماً جدًّا على البلد ذي الثقافة الجماعية. وهكذا، يبدو أنَّ تغير الثقافات بما تملك من تنوع ،وانزياحها نحو النمط الفرداني أضحى أمراً عالمياً على الرغم من اختلاف نسب هذا التغير وتسارعه في المجتمعات الأخرى المختلفة. ومن المنطقي أن تعيش بلداننا العربية هذه الحالة لأنَّها لن تكون استثناءً في ظلّ هذه التغيرات التي باتت واقعاً على الجميع . لكن بلداننا العربية تدين بالإسلام الذي تُهذِّب تعاليمه الإنسان وتدعوا إلى تطويع الشهوات والرغبات . وهذا سبب كبير لأبعاد انحسار الحالة الفردانية مقارنةً بانتشار وتمدّد القيم الليبرالية ، وانماط الثقافة الحديثة ، والثقافة الفردانية .
لقد ساهمت التربية الثقافية الحديثة وتحديداً في الدول الغربية في خلق النرجسية وتضخم (الأنا) فقد أصبحت أكثر اهتماماً وتركيزاً على بناء الشعور والإحساس بالتميّز والتفرّد في الطفل، وزراعة الإحساس والشعور بالاستحقاق منذ الصّغر، ومحاولة بناء شخصية مستقبلية لا تقبل إلّا الكمال (Perfectionism)، لكي يتمتَّع بامتلاكه قيمةً تنافسيةً في الحياة الجامعية الأكاديمية وسوق العمل الرأسمالي فيما بعد .
معظم علماء النفس يؤكدون أنَّ ازدياد ظاهرة النرجسية هي ظاهرة زمنيّة تتعلق بمراحل حياة الإنسان أكثر من كونها متعلّقةً باختلاف الأجيال وتعدّدها ، فهي تزداد بشكلٍ طبيعي في جميع الأجيال في المجتمعات لدى مرحلة الشباب، لكنها سرعان ما تنخفض بشكلٍ ملحوظ مع تقدّم الإنسان في العمر. ويعزى ذلك للنضوج واكتمال الشخصية والحصول على ما كان يبتغيه في فترة الشباب.بخاصة وأنّ فترة الشباب تكون أطول زمنياً لاسبابٍ اجتماعية وثقافية واقتصادية ، لذا كان من الطبيعي أن تكون نسبة النرجسية و(الأنا) المتضخّمة بشكلٍ أكبر من نرجسية كبار السن والمتقدمين بالعمر .لأنَّ النرجسية التي تعني الأنانية المفرطة وحب النفس هي تعبير عن اضطراب في الشخصية التي تتميَّز بالتعالي والغرور، والشعور الدائم بالأهمية ،والشعور بأنَّ الآخرين دونه .
إنَّ معالجة النرجسية كونها مشكلةً ثقافيةً واجتماعيةً بالدرجةِ الأولى، تمثِّل إحدى مكونات العوامل في نظرية السمات التي تم استخدامها في عدّة استبيانات ذاتية بهدف تقييم الشخصية ، وهي إحدى سمات الشخصيات المركزية الثلاثة في ثالوث الظلام أو الثالوث المظلم (Dark triad) ، وهو من المواضيع الهامة في علم النفس الذي يركِّز تركيزاً كبيراً على ثلاث سمات من سمات الشخصية الميكافيلية ، والنرجسية ، والاعتلال النفسي . وجميعها تدلُّ دلالةً واضحةً على صفاتِ الشخصيةِ الحاقدةِ اللئيمة. فقد أكَّد علمُ النفس التطبيقي ، وعلم النفس السريري ، إضافةً إلى إدارة الأعمال أنَّ هؤلاء الأشخاص يكونون أكثر عرضةً من غيرهم لارتكاب الجرائم والموبقات ، وهم الذين يسببون حالة الضيق الاجتماعي بخاصةٍ إذا كانوا في مناصب قيادية أو إدارية رفيعة . لأنَّه عادةً ما تمثِّل النرجسية (الأنا) المفرطة مشكلةً كبيرةً في علاقاتِ الفرد مع ذاتهِ أو مع الآخرينَ ، باستثناء حالةِ النرجسيةِ الصحيَّة ، لأنّها تختلفُ عن مفهومِ مركزية الذات .
لقد أثبتت العديد من الدراسات والأبحاث المتخصِّصة التي أجريت على عدد كبير من المشاهير، أنَّهم يسجلون معدلات عالية جداً من النرجسية مقارنةً بغير المشاهير . ومؤخراً ظهر العديد من الأشخاص، وتحديداً الذين هم في عمر الشباب، ممّن أصبحوا يُدعَون بـ) الإنفلونسرز(influencer أو)المؤثّرين( في مجال التواصل الاجتماعي .فقد قدَّمت العديد من مراكز الدراسات والأبحاث المتخصصة حقيقة العلاقة بين الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، ونسب النرجسية وتضخم (الأنا) .ووجدت علاقة قوية بين نسب النرجسية المتدنّية وحالات سوء الاقتصاد العامة، مثل الأزمات الخانقة أوالكساد ، وانتشار الفساد والمفسدين . ويفسِّر العلماء ذلك على أنّ النرجسية لا تكون ممكنةً إلّا في حالِ شَعَرَ الفردُ بأنّه غير معتمِد على غيرِهِ لتأمين حاجاتِهِ اليوميّةِ الأساسيَّةِ ، وإلّا فسيكون من الصعبِ جداً أن يحافظ على شعورِهِ وإحساسِهِ بالتميّز والاختلاف في ظل تلك الظروف الصعبة والقاسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى