السلحفاة الغريبة و صناعة القيم

حسن المصلوحي أستاذ فلسفة شاعر وروائي مغربي

يقول سيغموند فرويد: “الطفل أب الرجل”، في عبارة عميقة عمق الكائن البشري الذي وصفه في مواضع كثيرة بكونه “قارة مظلمة”، فما نكونه عند الكبر هو تطور طبيعي لما عشناه في مرحلة الطفولة… لذلك يمكن أن نقول بكل ثقة أنه في البدء كانت الطفولة وستبقى أبدا ما حيينا، في البداية كان الطفل و كانت ألعابه و حكاياته و أحلامه و خياله… من هذا المنطلق البسيط تفرض الطفولة نفسها كمرحلة عمرية بالغة الحساسية والتأثير في كينونة الانسان، ورسم الانسانية التي نريدها. إن الطفولة بلا شك هي الأس الذي تقوم عليه الحضارة…

ومثل كل مهمش في التاريخ تم تهميش الطفل منظورا إليه باعتباره كائنا لا يمتلك قيمة كبيرة، و لا ننكر بأن الطفل العربي هُمش لردح من الزمن في مجال الأدب، لذلك لم يكن يجد من يكتب من أجله أو ما يقرأ باستثناء النزر اليسير ليجد نفسه بين أحضان الحكايات الشعبية التي رغم أهميتها إلا أنها كانت مسؤولة عن خلق عقل ميتافيزيقي مستعد لتقبل الأسطورة و النفور من التناول المنطقي للأشياء…

وحين أتحدث عن الكاتبة والروائية الفلسطينية نزهة أبو غوش، فأنا أستحضر امرأة تحمل في قلبها حضن الأمومة، وحنان المرأة التي جعلت من كل أطفال العالم أطفالها، ولا أدل على ذلك من أقصوصتها الجميلة الماتعة “السلحفاة الغريبة”، قصة أطفال تدور أحداثها حول سلحفاة يعتريها الخجل من شكلها و مشيتها البطيئة، و يغمرها الحماس لتقليد السحلية التي تستطيع التسلق، و دون أن تفكر مليا أو أن تنصت لنصائح أخيها الغيلم تقرر التخلص من قوقعتها، مع غضب شديد من أخيها الذي لم يطاوعها في قرارها. يصادف قيامها بالتخلص من بيتها مرور أطفال كانوا عائدين من مدرستهم باتجاه بيوتهم، ليتناهى إلى مسامعهم صراخها وأنينها نتيجة لهاته الخطوة الخرقاء التي أقدمت عليها. يتدخل الأطفال صحبة أستاذتهم و يجدون حلا للسلحفاة بأن يصنعوا لها بيتا جديدا من الجلد ليعود إليها الاحساس بالأمان بعد أن اعتراها الندم على ما قامت به، و لتخلص الكاتبة في الأخير إلى أنه “لا بيت في هذا العالم يشبه البيت الأصلي”…

القصة لطيفة و بسيطة بساطة الطفولة، كتبتها الكاتبة بقلب طفل بريء يحب الخير ويسعى للفضيلة… و بقليل من التمعن في ما وراء النص يمكن أن نستخرج ما لا حصر له من القيم الانسانية النبيلة التي تقدمها الكاتبة للطفل في هودج الحكي اللذيذ؛ توقفتُ أولا عند عتبة النص وهو العنوان “السلحفاة الغريبة”، بما يحمله هذا الكائن من دلالات الحكمة و الرزانة و التروي، و ربما كان ذلك سببا في الأمد الطويل الذي تعيشه، ربما تكون العجلة/الاندفاع الأهوج سببا في موتنا قبل الأوان !

إن ما يهمنا نحن من هاته القصة التي أبدعت الكاتبة إذ مزجت فيها بين شخوص انسانية وبعض الحيوانات في دعوة صريحة للطفل ليستدمج قيم الانسجام مع الطبيعة عوض النظر إليها من منظور براغماتي أداتي، لعلنا نعود أدراجنا إلى ما قبل هاته الحداثة المقيتة التي حولت العالم إلى مجرد موارد ميتة في يد الانسان، هذا الكائن الذي نصب نفسه سيدا على العالم مذ أعلن ديكارت دعوته العمياء “للتحكم في الطبيعة”، رسالة تجعل الطفل يدرك أن الطبيعة تحس وتحب وتتألم و أنها بحاجة لمساعدتنا كما أننا أيضا في حاجة إليها، أننا شيء واحد… إن ما يهمنا هو الانسان، هو استخلاص العبر لنمكن أطفالنا من استدماج تلك القيم دون أن نلقنها لهم تلقينا… 

تنطلق القصة من تسليط الضوء على معضلة كبيرة نعاني منها، و هي الخجل من الذات وعدم تقبل أنفسنا و تحقيق ذلك السلام وتلك المصالحة الداخلية التي تجعلنا نحب أنفسنا، لكي نستطيع حب العالم، و لست أدري لماذا استحضرت في هاته اللحظة آخر ما قاله سقراط موجها الحديث لصديقه أقريطون:

“آه أقريطون

نحن مدينون لأسكليبيوس بديك

ادفعه له

لا تنسى”

و أسكليبيوس هو إله الشفاء عن اليونان القدامى، فهل كان يقصد سقراط أن موته شفاء و حياته كانت هي المرض، لا و ألف لا، فالرجل كان محبا للحياة مقبلا عليها، و المقصود كان أن موت سقراط بالنسبة إليه شفاء من مرض خطير و هو مرض “نسيان الذات” نتيجة لكلام الناس التافه الذي لا قيمة له (دوكصا)، ومن المؤكد أن سلحفاتنا المسكينة نسيت ذاتها حين حاولت تقليد السحلية، فلا هي استطاعت التسلق ولا هي ظلت في قوقعتها التي ألفتها ! تستحق هاته المعضلة أكثر من دراسة في ظل هذا الوضع الذي أصبح فيه أبناؤنا يقلدون النماذج السيئة تقليدا أعمى. فلربما كانت السحلية أسرع، لكن السلحفاة تمتلك عمرا مديدا. 

قيمة أخرى تزكيها القصة، قيمة التأمل و التفكير و ممارسة النقد الذاتي و التخلص من الميولات الحمقاء التي يمكن أن تودي بنا، يقول سقراط “إن حياة بدون تأمل لا تستحق أن تعاش”، أما الغيلم فمن خلال عدم مطاوعة أخته يعلمنا ألا نقوم إلا بما نقتنع به، بهذا الشكل نعلم الطفل ألا يكون إمعة و أن يكون قراره قرارا حرا نابعا من الذات و ليس من تلقي الأوامر من الآخرين. و أما غضب أخته ففيه رسالة مفادها أن القرارات المدفوعة بالميولات و العواطف غالبا ما تكون كارثية و أن الدوغمائية حمقاء و أن الحكمة تكمن في الموضوعية و التريث قبل التقرير؛ و ما أحوجنا لهذا في عالمنا هذا الذي غمرته الفردانية من كل جانب، فغاب الأخذ بالنصيحة و استحضار آراء الاخرين و أخذها بعين الاعتبار…

كان استدعاء الانسان ليحضر إلى جانب الحيوان أمرا يحمل رمزية بديعة، و أبدأ من الشخصية المحورية و هي “مينا” و هي كلمة عربية و فارسية و تعني المرآة ملونة الزجاج و أما في المصرية القديمة (ميني) فتدل على المؤسس أو المشيد و لعل في هذا ما يمكن أن نستشفه، فنحن مرآة ملونة لهذا العالم، نحن من نحمل مسؤولية التأسيس للقيم النبيلة و بناء عالم يسوده الحب و الجمال، و كم كانت جميلة قيمة التعاون التي تم إدراجها في النص من خلال تعاون الجميع مع السلحفاة المأزومة، إننا أمام قيمة “الغيرية” التي تحدث عنها مطولا عالم الاجتماع الفرنسي “أوغيست كونت”؛ فمثلما نعيش بفضل الغير علينا أيضا أن نعيش من أجل الغير، و هاته مسألة منطقية، ألا نكون أنانيين نرجسيين، و هذا من شأنه أن يجعل العالم مكانا أفضل للعيش. 

تحضر أيضا قيمة الهوية، فحين غابت القوقعة فقدت المسكينة هويتها (ما تكون به هي هي) و تحولت إلى كائن آخر تتلاعب به الريح و تجرحه الأشواك، و في هذا دعوة صريحة إلى ضرورة الانطلاق من الذات كما هي باعتبارها المرتكز للانفتاح على العالم، و أن الحرية لم تكن يوما شيئا مطلقا؛ إننا أحرار بالقدر الذي ندرك به الضرورات و الحتميات التي تحيط بنا، إن الحرية هي التصرف باستقلالية انطلاقا من وضعك الذي فرض عليك، و هاته رسالة مهمة لجيل ود لو يصبح بسرعة الصاروخ و بين ليلة و ضحاها ممثلا مشهورا أو مغنية ألمعية… أحلام بعيدة بعد هؤلاء الشباب عن هويتهم… 

أدارت الكاتبة الحوار بحرفية و سلاسلة، و قدمت للأطفال طبقا معرفيا شهيا دون أن نشعر بأنها حشرت تلك الأفكار بشكل مبتذل (تجديد الأفعى لجلدها)، لتحول دفة النص بعدما استقر في ذهن الطفل وجود مشكلة كبيرة نحو البحث عن حل، و هنا تحضر المعلمة سحر، و كأنها نزلت من السماء، تمنيت لو تم التقديم لهذا الحضور الفجائي الذي لربما يربك الطفل، كأن نجعل المعلمة حاضرة من بداية الحدث وفق حبكة ترتئيها الكاتبة.

حضرت المزحة و روح الدعابة أيضا لتكسر الطابع الجاد للقصة، و حضر معها دفء كبير رافق اكتشاف الحل، فقدر من يبحث دائما كان “أن يجد” و قدر من يسعى لمساعدة الآخرين أن يوفق في ذلك، و هاته قيمة أصبحت نادرة، قيمة المساعدة و ما أحوجنا لغرسها بهذا الشكل التلقائي في نفوس أطفالنا…

اختتمت الكاتبة قصتها بعبارة جميلة تفتح المجال للذهاب بعيدا في التأويل: “لا بيت في هذا العالم يشبه البيت الأصلي” في إشارة صريحة إلى ضرورة التمسك بالأرضية التي نرتكز عليها، فلكي تناطح الشجرة السماء كان لزوما عليها الضرب بجذورها في عمق أديم الأرض، و كأن السمو ابن الأرض التي منها خلقنا و إليها نعود… لتختم القصة بفتح أفق جديد للتفكير، و بإغناء للمخيال عند الطفل عبر التعبير عن بحث بعض الحيوانات عن القوقعة/ البيت التي لربما يجدونها يوما و لو أنني لم أجد الريح سببا مقبولا عقليا لغياب القوقعة، ربما تدحرجها مثلا من أعلى التل كان سببا أكثر إقناعا، لتنتهي القصة بسؤال يتبادر إلى ذهن الطفل “هل سيجدونها أم لا” أليست المعرفة سؤالا يتردد في الأذهان؟

قصة غنية و خصبة و ضاربة في الرمزية من كاتبة متميزة تجيد صناعة الأخلاق و القيم عبر القصص و الحكايات، و من هاته الفكرة أفتح نقاشا آخر؛ ما هي القيم التي نريد صناعتها في أطفال المستقبل؟ أليس حريا بنا أن نفكر مليا في نوع القيم التي تتناسب مع هذا العصر قبل تصديرها للطفل؟ فنقول: نريد قيمة السلام و المحبة، أتساءل هنا: ماذا لو كان الصراع و الهيمنة مفيدان في بعض الأحيان؟ ندعم قيمة التسامح، ماذا لو كانت الجسارة و رد الصاع صاعين لمن أساء إلينا عوض إدارة خدنا الأيسر مسألة نافعة، ماذا لو كانت هاته الأخلاق الجديدة أكثر نفعا لنا و لأطفالنا من تلك الأخلاق التي صنعها الأسياد لعبيدهم كي يجتروها ليظل السيد سيدا و العبد عبدا. و يحضرني هنا كتاب العظيم الألماني فريديريك نيتشه “ما وراء الخير و الشر” الذي يعتبر فيه كثيرا من القيم المقدسة مجرد قيم للعبيد تكرس التبعية و الخنوع، و حقيقة ألمس هذا في كثير من مناهجنا لمرحلة الابتدائي، حيث في الوقت الذي يعلم فيه الآخر  مثلا ابنه الكراهية و الاستعداد للحرب، نعلم نحن أطفالنا السلام و المحبة، سلام من موضع الضعيف فأي سلام ذاك؟ أنا هنا أتساءل و لا أدعي أنني أمتلك أجوبة، أتساءل: لماذا سيكون على السلحفاة أن تقبل بوضعها كما هو؟ لماذا لا نمجد ما قامت به؟ لماذا نعتبرها غريبة؟ أليس أشرف لها كونها فكرت خارج الإطار عوض القبول بالوصاية؟ فكرت، حتى و إن كان قرارها كان مدمرا، على الأقل هي فكرت أن تتحرر في زمن يتم فيه تقديس العبودية، و في هذا رمزية رائعة للتحرر و الانعتاق، مع دعم الفكرة القائلة: بأنه ليس كل تفكير هو تفكير سديد، علينا أن نفكر و نفكر بطريقة سديدة، نفكر وفق منهج مضبوط، و ليس باتباع ما تمليه علينا رغباتنا و شهواتنا…

بالإمكان التوسع أكثر في قراءة هاته القصة الجميلة التي تعتبر هدية مقدمة بعناية للطفل العربي من كاتبة تجيد تقديم الهدايا للقاصي قبل الداني و للصغير قبل الكبير، و هذا القلب الذي ينبض بهذا الشكل من أجل الطفولة يستحق أن نحتفي به و بصاحبته في زمن الأنانية القاتلة و النرجسية الرعناء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى