قراءة نقديّة في تجربة حميد عقبي الشعريّة

بقلم د. دورين نصر
تستوقفني دومًا نصوص حميد عقبي الشعريّة وتجعلني أطرح العديد من الأسئلة، منها كيف السبيل للدخول إلى نصّه الشعري؟ أنلِجُهُ من زاوية عقليّة “محضة”، أم بما تنجلي عنه الطاقة الروحيّة؟ هل أُعمل الحسّ النقدي أو أترك العنان لإحساسي؟
في هذا الإطار، يستحضرني رأي الباحث السوسيولوجي العميد الراحل عبد الغني عماد، إذ يتحدّث عن أهميّة التقاط تلك المزاوجة بين البُعد العقلي والتفاعل الروحي في مقارباتنا. كما يشدّد على ضرورة الجمع بين رهافة الإحساس وتساؤلات العقل().
بَيْدَ أنّ الجمع بين الإحساس والعقل قد يكون صائبًا في النصوص العاديّة، وليس في النصوص الخارجة عن المألوف، التي تستدعي البحث عن أساليب مختلفة في التحليل.
إنّ معايَنتَنا لنصوص المجموعة، تجعلنا نتبيّن بأنّ كلّ قصيدة لها بصمتها الخاصّة، وإن كانت هذه القصائد قد تشكّل في مجموعها العام مسرحيّة واحدة أو فيلمًا واحدًا متعدّد المشاهد، ومتعدّد الأصوات…
والواقع، على الرّغم من أنّ الدراسات لا تزال قائمة بشأن العلاقة بين السينما والشعر؛ إلاّ أنّه إذا انطلقنا من نظريّة اللّغة بالمعنى اللّساني، وما يتضمّن ذلك من مستويات التفكير في طبيعة هذه اللّغة وطريقة تشكّلها، نتبيّن بأنّ “اللغة السينمائيّة” تعتمد صفات قد نجدها في اللّغة عامّة وفي اللّغة الشعريّة خاصّة منها: الاقتصاد، الكثافة، الإيحاء، والانزياح. وهذا ما يوحّد بين أفق التفكير في السينما في علاقتها بالشّعر، والعكس وارد أيضًا.
لاحظوا معي هذه اللّغة السينمائيّة التي تتشكّل في نصوصه الشعريّة. يقول في نصّ ومضة:
ثمّة عشّاق في انتظار اللّحظة
تتشابك أصابعُهم
العشّاق
وحدُهم من يستحقّ هدايا الربيع
ويردف قائلاً في قصيدة زهرة:
“سأكون عند الظهيرة أمام الحانة
ما تزال الأبواب مغلقة.
لن أطلب مكعّبات الثلج لكأس الويسكي
لن أُتعبَ النادلة الجميلة”
وفي قصيدة لا تعكس المرآة وجهي، يقول:
في المسبح
الكلّ يلهو ويأخذ سلفي وصورًا تذكاريّة
ظننتُ أنّي سأنجو من العشقِ
تلك النّادلة أعزتني
سقطت حساباتي
أعود إلى الحانة
كلّ هذه اللّقطات تشحذ الخيال، وتنقلنا إلى عالم الكاتب أو الشاعر، بالتالي، يتحوّل مفهوم الشعريّة إلى لحظة من لحظات تمفصل المشهد واستعماله للصورة السينمائيّة، من خلال لقطة واحدة أو عدّة لقطات متتالية، استعمالاً مجازيًّا، وكأنّ كأس الويسكي، الحبيبة، السيجارة هي الكلمات المفاتيح التي تشي ديوان حميد عقبي. فيكتب كي لا تفقد الحياةُ نبْضَها ويتوقّف قلبُها عن الخفقان.
والواقع، فقد فرضت علينا نصوص حميد عقبي إشكال علاقة السينما بالشّعر، لا سيّما على مستوى قوانين اشتغال الخطاب السينمائي. وفي هذا الإطار تندرج العديد من “الشعريّات الصغرى” (Micro-poétiques) منها: شعريّة “خاصّة” بالحوار في بعض اللّقطات – المفاصل تتجاوز حدود السرد والإخبار والتقديم إلى الحفر في المستويات العاطفيّة والنفسيّة، وهذه بعض الشواهد:
قالت: ألم تلاحظْ وجه الشّبه بيننا
وأنتِ؟.. ألا تشتهين بعضَ اللّذة؟
سألتُ الموتَ
هل عَرَضَ عليكم هذه الرّحلة؟
هل تقمّص دورَ الملاكِ أو الصديق؟
هل الموت فعلاً امرأة شهيّة؟
والأمثلة كثيرة
​الواقع، على ضوء التفاعل النّصّي يمكن أن نفترض أنّ العديد من النّصوص الشعريّة عمومًا، قد استُدرجت بشكل لا إرادي أو محتسب، واستلهمت ما يمكن أن يعتبر منظورًا سينمائيًّا. سأورد بعض الأمثلة التي تتفاعل فيها اللّغة الشعريّة مع اللّغة السينمائيّة عن قصد أو غير قصد:
– لديّ ما يكفي من تبغٍ وخمرٍ
وقليلٍ من الخبز الأسمر
قطعة من جبنةٍ غير مالحة
ملعقة، كأس، منفضة سجائر
على الطاولة
سأضع كلّ هذه الأشياء
– وفي نصٍّ آخر يقول:
ربّما أسرفتُ في الشّراب قليلاً
عند ظهيرةٍ
غروبٌ لا يحملُ الشّفقَ
كأنّه برتقالة متعفّنة
​إنّها جملة مقاطع تذكّرنا بالكتابة التي تستدعي تفصيل اللّقطات رغم النّفس الأدبي الذي يغلب عليها. والواقع إنّ ما يسعى إليه هذا النوع من الشّعر وهو يستثمر الكتابة السينمائيّة أن يرتبط بأفق الحداثة النصيّة، ممّا يوفّر للمتلقّي إمكان التفاعل مع لغة النّصّ مستقلّة.
بهذا تكون السينما قريبة من الشّعر، لكنّها تخلقُ شعريّتها الخاصّة، ممّا يؤكّد أنّ العديد من الأفلام التي عبرت التاريخ الثقافي الطويل للإنسانيّة تتّخذ صفة قصائد يمكن قراءتها ومشاهدتها وكأنّها قصائد تمتلك إيقاعها من خلال أحداثها وبنائها. بين السينما والشعر علاقة، كالتي بين الشّعر وغيره من الفنون، لكنّها سرعان ما تزول عندما يتحوّل إلى سمفونيّة تُشاهد كما تُسمَع، وعندما نتحدّث عن الإيقاع هنا أو هناك، نتحدّث عن شحنة موسيقيّة (La musicalité) قد تقلّص الحدود بين السينما والشّعر.
يبقى في النهاية أن نقول بأنّ حميد عقبي يكتب من أجل الحبيبة، من أجل الحياة، من أجل اللّذّة، من أجل الفرح ومن أجل الألم، وكأنّه مُقتنع أنّ الحركة هي الوجود والسّكون هو الموت. إذ يقول: ألا تشتهين بعض اللّذّة؟ القليل من الأحلام تبعث في الرأس المسرّات. وقد عبّر عن أفكاره وهواجسه بلغة تحكي صورةً وتحكي مشهديّةً، وكأنّ شِعرَه “حُزمة صور”.
*القيت هذه الورقة النقدية في امسية وندوة خاصة لملتقى الحرف العربي ، مساء الخميس الثالث من نوفمبر الجاري بحضور الشاعرة السعودية فايزة سعيد رئيسة الملتقى. وادارة الناقدة اللبنانية د. درية فرحات، مشاركة النقاد د.عاطف الدرابسة ، د.دورين سعد، د.عبدالرحمن الصعفاني، الشاعر صبري يوسف واستضافت المخرج السينمائيوالفنان اليمني حميد عقبي، تجدون تسجيلا كاملا للامسية على قناة يوتيوب صالون ملتقى الحرف العربي وقناة المنتدى العربي الاوروبي للسينما والمسرح .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى