تفاهة وفهلوة
سهيل كيوان | فلسطين
“نظام التفاهة”، هو كتاب للفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو، صدر عام 2017، ترجَمَتْه إلى العربية أستاذة القانون الكويتية، مشاعل الهاجري، وصدر عن دار”سؤال”.
يتطرق دونو في كتابه هذا إلى ما يسميه “نظام التفاهة” الذي بات يغزو كل مناحي الحياة المعاصرة، في الاقتصاد والثقافة والفنون والقانون والسِّياسة، حيث أن السطحية وتنميتها والابتعاد عن ما هو جوهري صارت سمة العصر، تفاهة نلمسها في حياتنا اليومية، حتى باتت مسيطرة على كل جوانب حياتنا، فصار الأدعياء هم الذين يستولون على المشهد الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهم أصحاب النفوذ والتأثير من خلال السيطرة على مفاتيح السلطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ومن وراء الكواليس من جهود حقيقية يبذلونها، ولكنهم يصلون عن طريق الغش والخداع المتفق عليه.
يفصل (دونو) الحياة الاقتصادية في العقدين الأخيرين وكيفية التلاعب من خلال التكنولوجيا الرقمية الذي قد يخسف أسهم شركات ويسبب لها خسائر فادحة بالمليارات خلال أقل من ثانية، مثل شراء فجائي لأسهم بكميات كبيرة أو العكس، فتخسر البورصات أو تربح مليارات الدولارات خلال ساعات دون أن يدرك المتعاملون السبب ومن يقف وراء هذا التلاعب.
يلاحَظ خلال قراءة الكتاب تشابه بين فلسفة ديبو وما أطلق عليه الرسول محمد (ص) زمن الرويبضة، والرُّويبضة تصغير لكلمة الرابض، الذي لا يجتهد فلا يعمل شيئًا ذا قيمة ولكنه ينتهز الفرص، فهو لا يثقف نفسه ولا يتبنّى فكرة جوهرية يدافع عنها ولا يسعى إلى حماية مجتمعه من الغُثاء والضحالة، ويتحيّن الفرص للفت الأنظار إليه، فينشر صورة له مع شاعر أو كاتب أو مفكر كبير في معرض دولي للكتاب مثلا، أو التقاه صدفة في فندق مثلا، أو أن يتحدّث عن أسماء كبيرة دون أن يكون قد قرأ شيئًا لها، مثل عادل إمام في مسرحية مدرسة المشاغبين”: “فين أيام رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وعلي مبارك وزكي جمعة… مين زكي جمعة ده؟” فهو يحفظ عناوين وكليشيهات شعبوية مكرّرة، يتلقفها الجمهور بسهولة، لأنه يريد البقاء على السطح حيث الراحة والكسل. وقد يقتني الموسوعات العلمية والأدبية لتزيين صالون بيته أمام زائريه وليس للقراءة.
في عصر التفاهة يجري تقييم الناس بما يملكون من مال وسيارات ومبانٍ، وما يبذِّرون في مناسباتهم، دون النظر إلى مصدر هذه الأموال، فالمهم النتيجة المادية التي قد تكون على حساب سلامة المجتمع برمّته.
انتشر نظام التفاهة بمساعدة شبكات التواصل التي تمنح الفرص للسَّطحية مثل منح الألقاب الاجتماعية الافتراضية والثقافية “العالمية”، بل وقد تحجب ما هو جدّي وعميق خصوصًا في السِّياسة، فيختلط الحابل بالنابل فلا يُعرف الإبداع الحقيقي من الزائف.
يتحدث (آلان دينو) عن أولئك الذين يتخصّصون في مجالات وظيفية فلا يعرفون غيرها، ويسعون إلى تسفيه المعرفة الحقيقية أو محاولة البحث عنها، فالمهم هي الوظيفة، وهذه سلسلة بشرية تربطها المصالح المشتركة، تدعم بعضها بعضًا بحيث يصبح من الصعب اختراقها أو محاربتها، وبإمكانها أن تسبب الضرر لمن يحاول ردعها أو فضحها، ولا تعترف ولا تُدخِل إلى دائرتها إلا من ينضوي تحت معاييرها من نفاق وتزييف وتفاهات وحرب ضد كل ما هو جوهري، وهي مدعومة من السلطة المركزية والمحلية من خلال التغاضي، لأن السلطة نفسها محلية ومركزية تعيش نفس الحالة من تعويم التفاهة بما يلائم مصلحتها.
تنضوي تحت خانة التّسطيح وتفريغ المحتوى دعوة عضو الكنيست من حزب “ميرتس” غيداء ريناوي-زعبي (أوّل نائب رئيس كنيست عربية) إلى أن تكون لغة اللغة العامية هي لغة التدريس والفصحى لغة ثانوية، وطالبت بتغيير مناهج التدريس بهذه الروح، وذلك في يوم اللغة العربية الذي أقامته الكنيست، وتزعم أن هذا ما يجري بحثه حاليًا في بعض الدول العربية. هذه الدعوة تعني قطع صلة الأجيال الصاعدة من العرب بتاريخها كله، وهذا إمعانٌ في سياسة التجهيل وتعميقها، فكيف سيقرأ الطالب تاريخ أمته وأدبها باللغة العامية؟ كيف سيقرأ ابن خلدون وابن رشد وابن المقفع والجاحظ وابن حزم وطه حسين ونجيب محفوظ وروائع الأدب العالمي المترجمة إلى العربية، وأمهات الكتب العربية، والشعر العربي القديم والمعاصر وحتى القصائد الفصيحة التي تغنيها أم كلثوم! ما الذي يجمع الفلسطيني ببقية أبناء أمّته العربية إذا ألغينا اللغة الفصيحة من قراءة التاريخ والتعلم والكتابة بها؟ وأين سيغدو مخزون الحِكم والأمثال والأحاديث والقصص والفلسفة التي تشكّل تراثنا وشخصيتنا الفكرية؟
الفصحى لا تعني اللغة القاموسية المُقعّرة، بل هي اللغة التي توضح الغامض. العلّة ليست في الفصحى، بل في التدريس التلقيني المفتقِر إلى الإبداع، والبقاء على السطح دون فهم المعنى ومصدر الكلمة المأخوذة عادة من واقع حياة الناس وبيئتهم.
عضو الكنيست غيداء ريناوي-زعبي تسمّي هذه الدعوة “التفكير خارج العلبة”، إلا أن التفكير خارج العلبة يُقصد به الإبداع في توضيح الغامض وتسهيل المعقّد وتبسيطه للوصول إلى الجوهر، وليس الهروب والانكفاء لصعوبة الموضوع أو الجهل به ثم ترهيب الطالب منه، وبالذات في المكان الذي يحاربون فيه اللغة العربية بقانون رسمي لإضعاف مكانة الشعب الناطق بها من خلال إضعافها، بحيث أن أقل ما يقال في هذه الدعوة إنها دعوة سطحية تنتمي إلى فئة الفهلوة والتميّز العابر على حساب التميّز الحقيقي العميق، وهذا ينمّ عن سطحية في استيعاب وظيفة اللغة، وعدميّة قومية وترويج للكسل الفكري، وعدم وعي بأهمية لغة الأم في حياة الإنسان وتطوّره الفكري والعلمي والروحي والعاطفي معها ومن خلالها، وليست كضيف ثقيل عليه.