امرأة داخل علبة من الزجاج.. قصة قصيرة

شوقية عروق منصور | فلسطين

هل تصدقون أنني أعيش داخل علبة زجاج شفافة ملصقاً عليها تنبيهاً وانذاراً يدعى “العمر”!! هل تصدقون أنني حبيسة السنوات والأيام، أحاول الخروج أو تحطيم تلك الجدران الصامتة، البراقة فلا أستطيع، أغرق في شبر من المشاعر.. أحبو فوق أرض الأحاسيس طفلة، لكن تأبى التجاعيد إلا أن تتسلل وتحفر فوق وجهي حفراً وأخاديداً من القهر الصامت .
العمر يزحف كأفعى ملساء، تلدغني بسم الشيخوخة، احتفلت بعيد ميلادي الأربعين احتفالاً خاصاً لم يحضره سوى شبحي الذي ارتسم فوق المرآة المعلقة على جدار غرفتي، أقول شبحي لأن وزني قد نقص، وتهدلت جفوني وخدودي أصبحت كهوفاً تقف وجهاً لوجه مع الزمن .
أربعون عاماً أحملها فوق ظهري، عبئاً مرعباً .. لماذا ؟ لا أدري ؟ ولكن في قرارة نفسي ، في قاع روحي هناك الخوف من الآتي، خوفاً من الأيام القادمة.
أرى السخرية في عيونهم ، في حركاتهم ، في أسئلتهم السخيفة التي يحاولون بها طعني ، لماذا لم تتزوجي حتى الآن؟ وبين المكابرة والغرور أزرع في أرض الثقة والعزيمة ضحكاتي.. أقهقه.. وأجيب بحماس.. هل المتزوجة أسعد مني !! ثم حتى الآن لم أجد الرجل المناسب !! الرجل الذي أره يليق بي !! وهل كل متزوجة هي سعيدة وحققت أحلامها؟ لا أريد الزواج الاجتماعي.. لكي يرضى عني فلان وعلان وأدخل خانة المتزوجات، ثم في النهاية أجد نفسي الضحية، وكبش الفداء لزوج لا يهمه في الحياة سوى كرشه ومعدته وتحضير قمصانه المكوية أو استقبال أهله والترحيب بإخوانه.. إلى هنا كانت تنتهي سخريتي وضحكاتي، ومنهم من كان يقول لي “معك حق” ويؤيد ويشد على قضبان قفص العزوبية الذي أعيش فيه، ومنهم من يضحك علي لأنني لا أستطيع إتقان مهنة التمثيل.. فكلامي كذب مغطى بطبقة من لمعان الكبرياء.
إحدى الجارات تهمس في أذن أمي، أمي تضحك فرحة، أشعر بعلامات الانبساط على وجهها ، تهمس في اذن أبي، تنير ملامح وجه أبي ، تشرق تقاسيمه، أشعر بأشعتها تخترق قلبي، “اللهم أجعله خيراً” زوجة أخي جريئة، قالتها وهي تحاول إخفاء ابتسامتها ” أجاكي عريس ” سقط قلبي – عريس بعد أن فقدت الأمل – لم اجب .. رفعت صوتها .. ” سألتها بلا مبالاة – تصنعت اللامبالاة – من أين هذا “الفدائي” الذي يريد أن يقدم روحه في ميدان أنوثتي المهترئة !!
قالت وهي تضحك : شاب من إحدى القرى المجاورة.. أخلاقه ممتازة، يعمل مزارعاً فهو يملك عدة دونمات.. حالته المادية جيدة .. سألتها وأنا كلي أذاناً صاغية للجواب.. وهل عرف كم عمري؟ أجابت وقد امتزجت كلماتها برحيق البلبلة .. لقد كذبت والدتك وأكلت من عمرك عدة سنوات .
انتفضت !! لماذا تريد والدتي أن تسقطني في شباك الزيف والخداع قبل اللقاء والمصارحة والتفاهم .. إلى هذه الدرجة تريد إذلالي …!!
بكيت من شدة غضبي الذي ركد في داخلي ولم أستطع إخراجه .
في الموعد المحدد لزيارته ،ارتديت أجمل الثياب ، وكنت قد ذهبت إلى صالون الحلاقة وزينت رأسي بأجمل تسريحة تليق بعروس تريد أن تلتقي بشريك العمر، وتسطر معه أول سطر في قاموس حياتهما .
جلس إلى جانب والدته، وأنا كنت أجلس إلى جانب أمي، ووالده جلس إلى جانب والدي، نظر إلي العريس بطرف خفي، وأنا كذلك نظرت إليه وتمعنت في ملامحه يا للسعادة التي تتجلى أمامي وهو تعرج، تقف على قدم واحدة، ملامحه تدل على أنه أصغر مني، هذا الإحساس الحارق أخذ يحتل مساماتي، حاولت طرده وأفرش مكانه الابتسامة وأنا أحمل صينية فناجين القهوة واتوجه الى والدته، تناولت والدته الفنجان وهي تتفحصني، تقدمت منه .. أحاسيسي صادقة لا يمكن أن تكذب.. أنا أكبر منه.. وجهي وتجاعيده الخفية تقول ذلك.. هو أصغر مني، جسمه، ملامحه، نظراته.. جميعها تصرخ في وجهي .
غادر البيت برفقة والدته ووالده، اتفق والده مع والدي على اللقاء مرة ثانية، أمي تبارك لي، والدي يكاد يطير من الفرح، أخوتي يباركون ويرسمون على ملامحهم دهشة المعجزات، وأنا ينبت فوق شفتاي صمت الحيرة، اعتقدوا أنني خجولة، مبهورة غير مصدقة، لم يفتشوا في أعماقي ويمسكوا هذا الخوف النابع من عدم قناعتي .
لا أستطيع التكلم، فالكلام الآن هدم ذلك المعبد المليء بالأمنيات، في الصباح قررت أن أتكلم وأصارح أمي بحقيقة مشاعري، اعترفت أنني لا أستطيع الزواج من رجل أصغر مني.. أنا أكبر منه وهذا واضح من النظرة الأولى.. صعقت أمي، ماذا يهم اذا كان هو راض وموافق؟!! ماذا تريدين.. !! لقد قالوا له إنك أكبر منه بعدة سنوات ولم يهتم ، بل بقي مصمماً.. هذه فرصة لا تعوض ، ولن تتكرر !!
أتكلم.. لا أحد يسمعني.. خائفة من هذه السنوات التي تفصل بيننا ، أخاف من الغد .. من عدم صدقه حين يسقط جدار الواقع! أخاف من أهله، من الذين حوله..!
الآن أنا داخل العلبة الزجاجية، أشعر بعمري كأنه الحبل الذي يلتف حول عنقي، أرى من خلال العلبة الأعاصير والزوابع، أرى نفسي زوجة فاشلة، العجوز التي تحتضن زوجاً شاباً صغير السن، أنا أظلمه وهو يظلمني.. أنا أظلمه بوجدي إلى جانبه وهو يظلمني بقبوله الزواج مني .
أدق جدران العلبة.. لا أحد يسمعني.! وعمري يلوح لي مسافراً في المجهول، قطاراً يسير على سكته بسرعة في نفق الأيام، أسمع لهاثه وضجيجه وصفيره كلما رأيت العريس قادماً لزيارة بيتنا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى