تضاد ثنائيتي حضور العاشقة وغياب المعشوق في ديوان الطروانة الجديد “قصائد مشاغبة “
عبد الرزّاق الربيعي
صدر حديثا للشاعرة الأردنية المحامية جمانة الطراونة ديوانها الثالث الذي حمل عنوان ” قصائد مشاغبة” عن دار يافا العلمية للنشر والتوزيع في المملكة الاردنيّة الهاشميّة، وضم الديوان أكثر من ثلاثين نصا، قدّم لها الشاعر عبدالرزّاق الربيعي، بمقدمة عنوانها” تضاد ثنائيتي حضور العاشقة وغياب المعشوق”.
وسيشارك في معرض مسقط الدولي للكتاب الذي سينطلق الأسبوع المقبل في العاصمة العمانية. ولتسليط الضوء على الديوان ننشر مقدمة الشاعر عبد الرزاق الربيعي اعتزازا وابتهاجا بهذا الإصدار الذي يأتي بعد ديواني الشاعرة الفارسة جمانة الطراونة” سنابك البلاغة” و” قبضة من أثر المجاز”.
منذ العتبة الأولى، والمدخل والإهداء، كعتبات نصّيّة، تمدّ الشاعرة جمانة الطراونة فرشة حريريّة لدخول بيتها الشعري، في ديوانها ” قصائد مشاغبة”، لتمارس شغبها الطفولي، رغم علمها أنها تلعب بنار قد تحرق أصابعها، وحروفها، لكنها وبروح الشاعرة الفارسة التي عرفتها ميادين الفروسية تمضي في سيرها للأمام، بخطى واثقة، حاملة باقة ورد، ورسالة محبّة، لتقود القارئ إلى قلب ديوانها- القصيدة، وتمضي معه في جولة، وحوار متّصل ذي أبعاد صوفيّة، لتصل به إلى أعلى مرتبة من مراتب الوجد، والعشق، وهي تصرّح بذلك تارة، وتخفيه تارات مكتفية بإشارات خفيّة على طريقة المتصوّفة، هذه الثنائيّة: الحضور والغياب هي مادة الحوار الذي تقيمه الشاعرة بين الذات العاشقة، والآخر المعشوق، ويحمل عدّة أنماط تعبيريّة تتراوح بين الواقعية والرمزية، وفي كلّ ذلك تجيد الشاعرة جمانة الطراونة، ” الحوار بما تختاره من مفردات وتراكيب وصور شعرية فاعلة ،كما يقول د. سعد التميمي في كتابه” سيرورة القصيدة وشعريّة المكان” “وغالبا ما يأتي العنوان عتبة نصية تحيل الى دلالة خاصة مرتبطة بموضوع القصيدة مما يساعد المتلقي في تفكيك شفراتها” ولكن هذا الحضور لصوت الشاعرة ،كما يقول التميمي “يقابله غياب حسّي، فهو موجود في ذهن الشاعرة ويستطيع المتلقي الوصول اليه من خلال بنى الحضور في القصيدة، فهو متحقق في ثنايا كلام الشاعرة وفي بوحها عن عاطفتها وتأكيدها لمواقفها التي تحدثت عنها ودافعت عنها بقوة” ومثلما يرى المتصوفة في نظرية “وحدة الوجود” أن صفات الإله الذي ليس له حيز ولا حدود تتجلى بتصرفات الكائنات الحية، فهي تجد هذه التجليات في الحبيب الغائب من حيث إنّ الهدف المطلق لدى شيوخ الصوفية “الفناء في ذات المحبوب”، وذلك لأنّ الحبّ يتجسد في ذات النفس وليس في الأشكال، كما يرى ابن حزم الذي الحب بالنسبة له “اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة، وسر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال،
فليس من المستغرب الّا نجد في شعر جمانة الطراونة شكلا محدّدا لحبيب، وملامح لشخص معيّن، فما نجده صفات رسمتها في مخيّلتها لمعشوق يقيم في الحلم، فيما تحضر الذات الشاعرة بقوّة، وحتى صفاتها، والتنويع على اسمها (جمانة، جمان، جماني) والضمائر
فأنا أنتَ أنتَ مُذْ ألفِ جُرْجٍ
وأنا أنتَ أنتَ حتّى النّهايه
وحروف اسمها على طريقة المتصوّفة :
(جيمي) جهنّمُ حين أغضبُ بينما
(ميمي) ملاذٌ للحبيب الحائرِ
(ألِفي) أمانٌ مثلما (نوني)ندىً
و(التاءُ)توقٌ للوصالِ الطاهرِ
بالوردِ أوَّلَتِ الحديقةُ مشيتي
وأنا أُجَرْجِرُ ذيلَ ثوبي العاطرِ
هٰذي أنا وأنا (جمانة)بنتُ مَنْ
ولدوا ملوكاً كابراً عن كابرِ
لا تتّهمني بالغرورِ فقد ترى
في نفشةِ الطاووسِ حُلْمَ الطائرِ
وفي نص آخر تقول:
عن ألف واحدةٍ أنوبُ فكيف لا
وأنا جمانةُ لا أكافئ أربعَكْ ؟!
وحتى مهنتها المحاماة كما في الإهداء:
لقد خانني قلبي وخيّبَ ظنّي
فأدركتُ أنّ الحبّ أكبرُ منّي
ترافعتُ عنْ كلّ الذين عرفتُهم
ولمّا أتى دوري ترافعَ عنّي
أصلّي صلاتي مرّةً وأَعيدُها
لأنّ الّذي صلّيتُ عنهُ وعنّي
وفي قولها:
يقولون لي هلّا ترافعتِ ؟! قلتُ لا
أبدّدُ وقتَ العشقِ بالأخذِ والرّدِ
والفروسية:
وخيّالةٌ مثلي تفوز إذا اعتلتْ
جوادَ الرّؤى والشعرُ خاتمةُ الوعدِ
وصفاتها الشخصية:
طيّوبةٌ جدّاً أحنُّ وأشفقُ
وإذا غضبتُ فإنّ نابيَ أزرقُ
لي لدغةُ الكوبرا ولٰكنّي إذا
فاضَ الحنانُ برقّتي أتشرنقُ
فلماذا ذكرت صفاتها بكل هذا الوضوح، فيما لم تذكر صفة واحدة للحبيب الذي تناجيه؟ بديهيّا الجواب هو أن الحبيب هو من صنع المخيلة، وهي تنظر للحب نظرة سامية، فهو أكبر منها:
لقد خانني قلبي وخيّبَ ظنّي
فأدركتُ أنّ الحبّ أكبرُ منّي
ومن ملامح نص جمانة الإحالات إلى الرموز الشعرية، والتاريخية والدينية، والأسطوريّة، والأدبية، والثقافية (عصا موسى، ياجوج وماجوج، فينوس، فيروز، العندليب، نازك الملائكة، أبو العلاء المعري،جوليت، عرّار، أشعب) وتوظيف النصوص الشعرية المستلة من تراثنا الشعري الأدبي، ولكنها تعيد تفكيكها وضخها بدماء جديدة تعكس رؤيتها كقولها:
كم يحسدوني على موتي” وأعْذرُهم
في العشقِ يُحسدُ حتّى الموتُ يا ولدُ
لتذكرنا بقول الشاعر العربي:
هم يحسدوني على موتي فواعجبا
حتى على الموت لا أخلو من الحسد
وحين تعود إلى عبارة النفري ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” تضعها في مصهرها الشعري، وتعيد سبكها لتكون:
ضاقت عباراتي لتتسع الرؤى
ما أضيق المعنى عليّ وأوسعك !
وتضع مطلع معلقة امريء القيس في مصهرها ليكون:
ما مِنْ ” قفا نبكِ ” الدموعُ تساقطتْ
لكنْ سنشهقُ مِنْ جِراحِ الفاقدِ
ولا تتردّد في استدعاء جمل من المحكية العامية:
فعد للبحر يا سمكي
“وجاكَ الموتُ يا أشعبْ”
وكما نلاحظ هي تشاغب تلك الرموز، فتخرجها من متحفيتها، وصياغاتها الكلاسيكية المستقرة، وتحاول تطويعها، لتتسع لرؤاها حضور الأنا :
أنا شاهينةٌ لٰكنْ
خلاهُ كطائرٍ أزغبْ
وتقول في نص آخر:
أنا ريم هٰذي الأرضِ في سِحْر طلّتي
على أنّني لو ثُرتُ أشبَهُ بالْفهْدِ
وقولها:
فالجميلاتُ – لنْ أُزايدَ – فرعٌ
بينما الأصلُ لَمْ يُغادرْ جُماني )
مُذْ قيلَ ” هُزّي … ” والبلادُ نخيلُ
ودمي فِدىً للباسقاتِ يسيلُ
هُزّي ..؛ هززتُ قصائدي فتساقطتْ
شعراً وحبلُ مشاعري مفتولُ
فالنخلةُ امرأةٌ ذوائبُ شَعْرِها
ليلٌ وحُمْرةُ خدِّها قنديلُ
إن ديوان الشاعرة جمانة الطراونة ” قصائد مشاغبة” تجربة تفصح عن شاعرة قارئة بشكل جيد للتراث الشعري، تمتلك موهبة، وروحا صافية متوهجة، ومن تتوفر فيها هذه الصفات، فإنها تعد بالكثير