د. جمال فودة | ناقد أكاديمي
عضو الاتحاد الدولي للغة العربية
لا تقف اللغة في الشعر عند كونها وسيلة من وسائل التعبير عن الأفكار والأحاسيس فحسب، بل إن فيها خاصية جمالية متميزة لها أثر عميق في وجدان القارئ، ودور عظيم في إثارة أحاسيسه، ونقله إلى أجواء نفسية جديدة، وقدرة فائقة على مخاطبة روحه وعقله، وهذه الخاصية تكمن في الموسيقى التي تنساب أنغامها ألحاناً ذات دلالة توقظ إحساس المتلقي، وتشعره بالمتعة التي يتذوقها من خلال تجاوب النغم مع الفكرة، وما إلى ذلك من تأثيرات داخلية، ولعل نجاح الشاعر في تحقيق هذه الأشياء يكمن في قدرته على خلق حالة من التوافق بين حركة الأحاسيس والأفكار التي تموج في وجدانه، والحركة التي يموج بها الواقع من حوله.
ولأن “الشعر فن لفظي فهو يستلزم قبل كل شيء استعمالاً خاصاً للغة، وتعد موسيقى الشعر عنصراً مهماً في هذه الشعرية ، يمثل جوهراً للتراكيب والتصوير، وجزءاً جوهرياً في دراسة اللسانيات والعلامات والدلالات” . (1)
والموسيقى في الشعر ليست حلية خارجية تضاف إليه ، وإنما هي وسيلة من أقوى وسائل الإيحاء، وأقدرها على التعبير عن كل ما هو عميق وخفي في النفس، ولهذا كانت الموسيقى إشارة واضحة إلى طبيعة عاطفة الشاعر ونوعية انفعاله الداخلي، ومقياساً لا يمكن تجاهله في تقدير العمل الإبداعي الناجح .
“فكل موسيقى شعرية لا تفجر في الكلمات أقصى طاقاتها الدلالية والإيحائية،ولا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالطاقة الانفعالية التي تثيرها القصيدة، هي موسيقى خارجية مفتعلة، قد تكون جميلة في ذاتها، ولكنها بأية حال لن تكون عنصراً من عناصر البناء الشعري” . (2)
ومن هنا تأتى أهمية الموسيقى التعبيرية في القصيدة الشعرية كأطر موسيقية مرتبطة بالتأثيرات العاطفية الناشئة عن التجربة الشعرية، وتمثل هذه الموسيقى الدور الرئيسي في زيادةالحيوية والقدرة على استقبال الإيحاء ، أو بمعنى آخر تؤدى هذه الموسيقى دوراً مهماً في التعبير والتلقي للشحنات الانفعالية التي هي مجال العمل الشعري.
“فالشعر ليس موسيقى بحتة، بل كلمة ومعنى،والكلمةذات هدف منطقي ومضمون سيكولوجي معاً، والشاعر يدور حول ظلال الكلمات،وتعنيه قوتهالاصدقها، وحتى يمنح تجربته دفقاً وحيوية وإثارة، وينقل ما أثار عواطفه وأيقظ حسه وبث أفكاره ، عليه أن ينتقى الكلمات التي تثير في القارئ والمتلقي حالة سيكولوجية معينة، إلى جانب الصور والعواطف والأفكار ، وعليه أن يوقظ الخيال الخامد من خلال الرواء العذب السلس للأصوات وموسيقى النظم ” . (3)
وهكذا يتخذ الشاعر من الموسيقى التركيبية وسيلة من وسائل الموسيقى التعبيرية، حيث يربط حركة الموسيقى فيها بالموقف النفسي الانفعالي للتجربة ، إذ لم يعد الإيقاع الشعري مجرد ملحق ترخيمي منوط به أداء وظيفة سمعية كل علاقتها ببنى النص الأخرى هي المصاحبة، بل على العكس تماماً ” أصبح الإيقاع هو العامل البنائي المسيطر في الشعر ، والذى يعدل ويكيف بقية العناصر، ويمارس ـ بالتاليـ تأثيراً حاسماً على جميع مستويات الشعر الصوتية والصرفية والدلالية” . (4)
معنى هذا أن الشاعر لابد أن يكون على وعى تام بدلالات الألفاظ وموسيقاها وإيحاءاتها، وتأثيرها إنما يقوم على ما فيها من صوت ومعنى فهي مبنية بناءً مزدوجاً ، إذ تعد الأصوات رموزاً للمعاني ، فلا جرس دون معنى، ولا يتغير الصوت دون أن يتغير المعنى .
“لقد أصبح الإيقاع جزءاً عضوياً في بنية القصيدة التي تتشكل من توترات نفسية في آنات زمنية تواكبها، ويقوم الإيقاع المتغير ـ على حسب تلك الآنات ـ باحتضان المناخات الانفعالية ، وخلق تلاحم عضوي في معمار القصيدة وهندسة بنائها اللغوي”. (5)
معنى هذا أن الشاعر لابد أن يجعل الإيقاع شاملاً يسرى في كل جزء من أجزاء عمله، وفي مختلف نواحيه، فلا يكون الإيقاع في جزء دون آخر، ولا يصب اهتمامه على الجانب الشكلي على حساب المضمون أو يهمل المضمون مأخوذاً بسحر اللفظ ، وإنما ينبغى أن ينصهر هذا كله في بوتقة واحدة، فالموسيقى في النص الشعري ليست وقفاً على الموسيقى الخارجية الظاهرة، بل إن هناك موسيقى داخلية خفية تتوازى معها، وتعطى تشكيلاً خاصاً بكل قصيدة ينسجم مع موضوعها والواقع النفسي الذى يعايشه الشاعر .
والموسيقى الداخلية تشمل العديد من الإمكانات الصوتية كتناغم الحروف وائتلافها، واستعمال المحسنات البديعية واستغلال صدق العاطفة في اختيار الكلمات الموحية والصور الجميلة والأفكار الجيدة .
يدل ما سبق على أن “اكتشاف الإيقاع النصي يعتمد على قراءة لظاهرة الارتباط الوظيفي بين الإيقاع باعتباره بنية، والدلالة على أساس كونها علاقة داخل هذه البنية، إذ لابد من الأخذ في الاعتبار دور الدلالة في توجيه البناء الإيقاعي”. (6)