السارد في رواية “مالا نبوح به” للكاتبة المصرية ساندرا سراج

د. عايدي علي جمعة | أستاذ الأدب والنقد

تقع رواية “ما لا نبوح به” للكاتبة المصرية ساندرا سراج في 174 صفحة من القطع المتوسط، ونشرتها دار “دوّن” للنشر والتوزيع، وقد صدرت طبعتها الأولى في يناير 2018.
يكتنز هذا العنوان دلالات ثرية تتواشج مع علم النفس ونظريات فرويد التي اهتمت كثيرا بالمسكوت عنه وتأثيره الفائق على تصرفات الشخصية وصحتها النفسية.
وقد تكوّن هذا العنوان من خمس كلمات ظاهرة، وأخذ الفعل المضارع/ نبوح مركز ثقل واضح في هذا العنوان، ولأن العنوان يشير إلى المسكوت عنه فإنه يكتسب جاذبية خاصة لأن هذه المنطقة تجذب فضول المتلقين كثيرا.
وحينما يباشر القارئ عملية القراءة ويتفاعل مع نص الرواية يجد فاعلية العنوان في جذب كتل سردية متنوعة تتواشج مع عملية البوح بمكنون القلوب والضمائر.
وقد انعكس ذلك بطبيعة الحال على نوع السارد وما يسرده. فوجدنا ساردين اثنين ينهضان بعملية السرد في هذه الرواية: السارد الأول هو إيلين، والسارد الثاني هو آدم، وهما الشخصيتان المحوريتان في الرواية.
تبدأ الكتلة السردية الأولى بإيلين بعدها ينفرد آدم بالكتلة السردية الثانية، تاركا الكتلة السردية الثالثة لإيلين في حين تأتي الكتلة السردية الرابعة مخصصة لآدم وهكذا حتى الكتلة السردية الأخيرة التي تختص بها إيلين. وبذا تكون إيلين هي من تطالعنا بالسرد في بداية الرواية وتطالعنا بالسرد في نهايتها.
وهنا نجد اسم ساندرا سراج وهي تنتمي لجنس المرأة له دور في منح سلطة الحكي أكثر لإيلين فقد بدأت الرواية بها وانتهت بها.
تدور هذه الرواية حول علاقة حب تربط إيلين من ناحية وآدم من ناحية أخرى، ويتم الزواج بينهما بعد كثير من التوغل في نفسيهما، وإضاءات قوية لماضي كل شخصية منهما، ولكن إيلين تعرف يوم زواجها منه أن آدم له ابن من زواج سابق، ولكنه مات في حادث تسبب فيه آدم، ودخلت زوجته العناية المركزة، وجاءه خبر انتحار زوجته السابقة في يوم زواجه من إيلين. مما يجعل إيلين تصر على الطلاق الذي يتم بالفعل، ولكنها تحمل منه، وتعرف بحملها منه بعد ثلاثة أشهر من الفراق، يوم وفاة أمها، وتجد آدم بجانبها في هذا الحادث الجلل، فتعود المياه لمجاريها، ويتم الزواج مرة ثانية وتنجب منه ولدين والثالث في الطريق.
ما يميز هذه الرواية وجود ساردين محوريين، تعاورا السرد فيها. ولكن بدا أن هناك راويا أعلى منظما للسرد كله، وهو الذي يقدم هذين الساردين. ومن هنا يبدو التراسل بوضوح في هذا الجانب مع رواية “واحة الغروب” لبهاء طاهر التي اعتمدت هذه التقنية تماما، فكان هناك ساردا أعلى منظما للعملية السردية، في حين نهض بالسرد ساردان محوريان هما محمود وكاثرين، وقد بدأ السرد بمحمود وانتهى به، في حين نجد في رواية “ما لا نبوح به” أن السرد يبدأ بإيلين وينتهي بها. وهنا يبدو التناسب مع اسم المؤلف في الحالتين، فبهاء طاهر ينتمي لجنس الرجال، لذا وجدنا محمودا، وهو رجل يبدأ السرد وينهيه، في حين نجد ساندرا سراج تنتمي لجنس النساء لذا وجدنا بداية السرد كانت من نصيب إيلين ونهايته أيضا.
وإذا كانت رواية “واحة الغروب” لبهاء طاهر قد منحت كتلا سردية لرواة آخرين غير الشخصيتين المحوريتين فإن رواية ما لا نبوح به لساندرا سراج اكتفت بهذين الراويين فقط، في مراوحة سردية تتجلى عن طريق صوت كل منهما.
وقد ظهرت إيلين باعتبارها السارد الأول في رواية ساندرا سراج، ودائما ما تبدأ الكتل السردية المخصصة لها بكتابة اسمها ببنط عريض في بداية كل كتلة سردية، ثم يأخذ صوتها سلطة الحكي، متخذا من الضمير الأول “أنا” نسقا معتمدا، فيتم الكشف عن مجاهل موغلة في نفسيتها، ومن هنا فإن السرد يركز بالرحلة على داخل الشخصية أكثر من خارجها. فما يكاد يمر بها حدث حتى وإن كان بسيطا حتى تتحرك كاميرا السرد ملتقطة أثر هذا الحدث على نفسيتها، وفاتحة المجال لقانون التداعي في سردها.
ومن هنا فإن الغوص داخل الشخصية حمل تبطيئا واضحا لحركة الحدث الأساسي في الرواية، وجعل الرواية محملة بشبكة من السراديب السردية كان للاعتراف فيها هيمنة واضحة. ولذا تكثر المونولوجات في سردها بطريقة واضحة، ولا تكاد تخلو كتلة سردية من الكتل السردية المخصصة لها من المونولوج الداخلي.
وإيلين فتاة مسلمة تقول عن نفسها “أنا لست محجبة، ولكني متحفظة في لبسي” الرواية ص 22، وهي طبيبة نفسية تشعر عبر الرواية بأنها تقع في المابين، ولا تكاد تستقر نفسيا على حال، ولكن تأتي عملية الاستقرار والرضا بأقدارها في نهاية الرواية.
وقد ظهر في سرد إيلين لمسات أنثوية لها حضورها في الواقع المعيش على نحو ما نجد في استئثارها تماما بآدم زوجا خالصا، بعد أن جعل السرد ابنه يموت في حادث مروع اعتبر آدم نفسه هو السبب فيه، وعلى نحو ما جعل السرد زوجته الأولى التي شهدت قصة حب مع آدم تنتحر. كما تظهر اللمسات الأنثوية في اختيار اسم آدم نفسه، والتركيز على ثروته الكبيرة جدا، وكأنه جمع كل صفات الرجولة مكتملة في شخصيته من خلال توحد اسمه مع آدم أبي البشر. كما ظهرت اللمسات الأنثوية أيضا في إنجابها الأولاد الذكور وسعادتها البالغة بزوجها وأبنائها.
أما السارد الثاني الذي نهض بعملية السرد في هذه الرواية فقد كان آدم الشخصية المحورية الثانية. وهي شخصية تنتمي لعنصر الرجال، وتتخذ من الضمير الأول أنا نسقا معتمدا في السرد، وهي شخصية تقع في المابين أيضا فأبوه مصري وأمه أوروبية ويعيش في أوروبا وهو غني جدا ولكنه يقع في معاناة شديدة جدا بسبب اعتراف زوجته الأوروبية التي يحبها بخيانتها له فيشك في أن يكون ابنهما من صلبه ويقع له حادث سير وهو يسوق سيارته وفيها ابنه وزوجته فيموت الابن وتظل الزوجة في العناية المركزة، ولكنه يقع في حب إيلين المصرية ويتزوجها. ويظهر بوضوح شديد في الكتل السردية المخصصة لآدم التوقيف السردي من خلال قطع السرد والعودة إلى الماضي. وكأن هناك حوارا دائما بين حاضر آدم مع إيلين من ناحية وماضي آدم مع زوجته الأوروبية وابنه من ناحية أخرى.
وكثيرا ما نجد السارد المنظم لحضور سرد آدم يكتب بالبنط الأسود العريض “آدم” في أول كل كتلة سردية مخصصة له، وبعد صفحتين أو أكثر في نفس الكتلة السردية نجد بالبنط الأسود العريض “آدم قبل ثلاث سنوات”، وفي كتلة أخرى “آدم قبل أربع سنوات” وهكذا. ومن هنا فإن سير الحدث المحوري في سرد هذه الرواية شهد تبطيئا سرديا في الكتل السردية المخصصة لسرد آدم أكثر من الكتل السردية المخصصة لسرد إيلين.
ويظهر آدم غيورا طفوليا، ولكن به لمحات آسرة من الرجولة التي تأسر لب المرأة، فهو من نوع الرجال الذين يمكن الاعتماد عليهم يترك كل عمله في أوروبا وينزل فورا إلى الإسكندرية حينما يعلم بموت أم إيلين ويقف بجانبها. كما أنه يبدو سخيا كريما جدا، فحينما قالت إيلين له بطريقة عابرة وهي تمر أمام إحدى العمارات الفاخرة جدا على شاطئ الإسكندرية بأنها كانت تتمنى أن تعيش هنا، يشتري لها دورا فاخرا في هذه العمارة ويفاجئها به. وكان الغوص بالسرد داخل الشخصية له حضور مهيمن في سرد آدم، مما تراسل مع عملية البوح التي أطلت منذ عنوان الرواية.
وقد ساعد اعتماد ساردين محوريين للسرد في هذه الرواية على كشف وجهتي نظر مختلفتين للحدث الواحد، أو بالأحرى كشف وقع الحدث الواحد على نفسية هذين الساردين المختلفين. ومن هنا فإن هذه الرواية “ما لا نبوح به” للكاتبة المصرية ساندرا سراج انصب اهتمامها على إلقاء الضوء على المناطق الخفية في نفسية الرجل والمرأة حينما يقعان في حالة حب شديد، وكان إلقاء الضوء بطبيعة الحال كاشفا عن بعض الشرائح الاجتماعية في مجتمعنا، وخصوصا شريحة الفتيات الواقعات في الحب وأمنياتهن معه، وذلك من خلال تقنية اعتماد ساردين في الرواية، في عملية مراوحة سردية لهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى