قراءة في رواية ” حجر الألف “.. للكاتب اللبناني عمر سعيد

سعد ديب| ناقد لبناني

أحدث أعمال الروائي اللبناني “عمر سعيد” كتابٌ طازجٌ خرج من بين أصابع الطباعة إلى أيادي مئات القرّاء، عبر النشر الالكتروني، ليوثّق فيه، بعضًا من سير ذاتية منذ العيش في القرية والنزوح الى تركيا بسبب القصف والطيران والحروب، دون إغفال حوادث جريئة من المراهقة، لم يسبق لغيره ان تناولها بهذه الجرأة والصراحة من قبل… من هنا نرى أنها طازجة من حيث القلب والقالب والتاريخ الراهن.


فمنذ اللحظات الأولى يجد القارئ نفسه أمام عدسة تدوّن مشاهد نادرة لم يدركها معظم المقيمين بعد…! فيها المعاناة والمشاهد المؤلمة، بالإضافة الى النكات الطريفة، لنازح في أرض جديدة، وبمواجهة لغة يجهلها، ولكن “شرّ البلية ما يضحك”…!
نعم سيرة، ولكن سيرة شعب عانى ما عاناه من سياسات جائرة، ليبدوَ أمامنا نموذجٌ واضح المعالم عما جرى ولا يزال يجري في ديار أوطاننا، حيث “العضو” عدوٌّ وسلاح تحت خصر فاحش لا يعنيه سوى سوء الأفعال، ولا شيء من الانسانية والرحمة أو الدين والأخلاق، يطوّع المسالمين الأبرياء العزّل، لربطهم بعقد نفسية نهائية مدى العمر… انها سيَرُ مهاجرين لاجئين في خيام البرد والعوز والفاقة، اقتحمت حدقتَي كاتب مدرك امتشق القلم سلاحًا واعتلى رأسُه جبينَ كاميرا تنقّب في وجوه المارّة، من مختلف البلدان، وبينهم مهاجرون من دولنا العربية، عن حكايا واقعية حقيقية، وعن آفاق مجهولة المصائر والمصائب…


من هنا، لسنا أمام رواية، نحن امام مرويّات على عدد الصفحات، تصلح كل واحدة منها لان تكون حدثًا يخبر مجريات الأمور في بيئتنا المشرقية التعيسة، انها تحقيقات صحافية لمن شاء، بل انها وثائق للمنظمات الإنسانية العالمية اذا شاءت…
فور الولوج بين أولى الصفحات يجد المتصفح أنه أمام كاتب وصل أعالي القمم وبقي عندها ولم يحطّ حتى الصفحات الأخيرة…
رغم ذلك، لم ينتقِ أديبُنا “أبطاله” وشخصات رواياته، بل الحياة والصدف اختارتهم ليحتلوا صفحات الكتاب والحدث؛ إنهم مشردون تائهون في بلاد احتضنتهم في شوارعها وأكواخها وحاويات نفاياتها، بعيدًا عن أوطانهم التي ظُلِموا فيها. ولا يترك المتصفّح حائرًا ليحصيَ جنسياتهم.. فهم من بلاد المشرق المتفجر التعيس؛ وبالتالي لم يكن يحتاج لأنّ يعتمد على الخيال بقدر ما يعتمد على قلم وثقافة ومعرفة موسوعية… فهو يستعرض الواقع ويخاطب المقهورين، ويصغي لقصص واقعية مرئية واضحة، سمعنا بها ولكننا لم نعشها كما عاشها فعليًّا. وهذه بعض النماذج…
^^
وثّق في بلاد التهجير بل التشريد صعوبات انجاز المعاملات القانونية في الإدارات الرسمية دون لغة او مترجم.
^^
استمع كاتبنا الى جملة من شهادات النازحين من بلادهم وظروفهم.
^^
رافق احد المنقبين في حاويات النفايات واطلع على أسلوب عيشه، وما يحظى به من مآكل تركها أصحابها للكلاب. وما لبث أحد الكلاب أن نبح نباحًا حادًّا عليه عندما كبر وعرف أنه سارق طعامه…
^^
ليس كل شخصياته من الكبار، بل صادف طفلًا وطفلةً حائرين بسبب جهلهما اللغة التركية عجزا عن الشراء أو اللعب او الدراسة ويرغبان بالعودة الى الوطن.
^^
وها هي بائعة الهوى، ذات الوشم، تحاول اقناعه، رغم افلاسه، ويرفض العلاقة معها…
^^
وأخرى، تحيك الصوف، ذات ساق اصطناعية…
^^
ويلتقي كاتبنا بذاك الشاكي الباكي، الذي طلب منه ان يكتب له رسالة اعتذار من والده المتوفي واليه، رغم الظلم الذي لحقه منه…
^^
يلتقي في نزوحه التركي بضابط عراقي سابق وزوجته المشغولين بتربية كلب، ويسعيان للإبتعاد عن البلاد.
^^
ولم تسلم كيلوتاته المثقوبة من احتلال مكانها في مرئياته الروائية.

ويبدو الكاتب متشرّدًا في بلاد الشرق الواسعة، ينطق بضمير المتكلّم حقًّا ولكنه لسان حال شعوب بكاملها عانت ولا تزال تعاني من الظلم والظلامية من أنظمة عاتية جائرة، لعلّه رمّزها بالتركيز على النظام “الأبويّ” الذي عبّر عنه بنقد الأب ذاته المزواج أربعًا والذي يصف الأنثى وأم الأولاد بأنها غير معصومة ولا يمكنها أن تنظّف… ويوجّه نقده لواقع المرأة في ظل الذكورية الأبوية عبر الزمن…
ويستحسن نقل بعض ما نشره:كانت أمي هي التي تنظّف أبي، وملابسه وتنقي قمل رأسه، وتنظف بيته وأبناءه، وفراشه… ولكنها غير معصومة.(عجبًا) ويضيف: ذلك لأن العصمة مرتبطة بتلك القطعة التي لا يزيد طولها عن عشرين سم بين فخذَي الذكر، ولطالما دخلت المرحاض بعد كثير من الذكور ورأيت ما يخلفونه وراءهم على كرسيّه لانهم يتبوّلون وقوفًا. وحدها الانثى تتبوّل دون ان تترك أثرًا، ولكنها رغم كل ذلك هي ليست معصومة…
وطالما اعتدنا من ناحية الفنون الأدبية ترميز السلطات السياسية وخاصة الظالمة بالذكور، وترميز الشعب والأرض بالانثى، في مختلف التراث الأدبي، فقد أبدع الكاتب بروعة ربط حدث الاغتصابات والقتل والعنف بوصف دقيق لمجريات العنف الذي تسبّب بالنزوح (أو التهجير أو الهجرة) حيث كسر حجرة الأب وخرج متنقّلاً، من لبنان الى سوريا الى تركيا ربما وصولًا الى سالونيك، والتي استغرقت منه سنوات، مشرّدًا، الى أن التقطته، الأنثى التركية (رمز الشعب والأرض) لتنظّفه وتأويه، وتكسوه وتطعمه الى ما شاء الله… وهو الذي يحمل في طياته رائحة منديل الأم الطيبة التي سبق لها ان اعتنت به، وانقذته من براثن الظلم الأبويّ المدمّي… وحفظ بعدها العرفان بالجميل لكلّ الإناث اللواتي إلتقاهن في رحلته الروائية… حتى الأنثى ذات الساق الاصطناعية…
ولم ينتظر كاتبنا المبدع خاتمة مروياته لإطلاق توقّعه بسقوط النظام الأبوي، بل ألحقها باستنتاجات وتحاليل فورية، منتقدًا: عصمة المعلّم، والحكام والأثرياء، والوجهاء والمشايخ وكبار السن والآباء حتى المعلمين… جازمًا: تثبت التجارب ان مجتمعات النظام الأبويّ آيلة الى الزوال، وان مصطلح أبوّة المعرفة بات دلالة على حقبة تتهاوى، ويجزم الكثيرون أن تهاويها يرجع إلى فترة جائحة كورونا التي تهيّئ العالم الى مرحلة جديدة، وفي كلّ شيء، فكريًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا حتى قيميًّا واخلاقيًّا…
لا بل، سرّني (شخصيًّا) كونه تنبأ بأن: النظام الأبوي الذي صمد قرونًا في التاريخ يتهاوى أمام نظام جديد لعلّنا نسمّيه نظام إبنويّة المعرفة، أو النظام الأبنوي… (أي نظام أبناء الأجيال القادمة الجديدة)…
بل ان كاتبنا صاحب بصيرة مستقبلية في هذه الفصول من مؤلّفه ليتحفنا بهذا التنبؤالواقعي، وأراني “شخصيًا” اصطف الى جانبه، سيما وأنني قد سبق لي أن نشرت في المواقع الالكترونية وفي مدونتي (٩-٣-٢٠١٨) نفس الاستنتاجات التي توصل إليها، بقرب سقوط الايديولوجيا الذكورية لمصلحة الذكور قبل الأناث، ومن أجل الوصول الى فكر إنساني موحّد لا تمييز فيه بين الذّكر والإنثى، حيث يتحرّر الرجال من أيديولوجية وفلسفة التحريم التي قيدتهم كما قيدت النساء، وحيث لا يجب على الرجل أن يرجمها بحجر… نقول ذلك لأن الذكورية وقعت في أزمتها العامة، ولم تعد قادرة على الاستمرار بحماية الذكور ولا النساء ولا الانسانية، وهم لم يعودوا قادرين على تحملها، مما سيؤدي الى أن يخضع الرجل عند قدمَي المرأة كي تقبل أن تتسلم قيادة المجتمع وتنقذه من أزماته…الخ.
وهنا لا بد من نشر ما سبق أن أورده من أبحاث دقيقة في كتابه، ذاكرًا: عشائر وعائلات حاكمة ومالكة ونبيلة واقطاعية وباشوية وخديوية. ولم يوفّر سائر الأبوات: أبو البشر وأبو الأنبياء وابو الطبّ وأبو الحرف وأبو الآلهة وأبو لهب وأبو جهل وأبو الكتب… كلّها أبوات آيلة إلى الانهيار…
وأثني على استنتاجك عزيزي استاذ عمر، فقد أصبت لأن هذا النظام بطيء التطوّر، وكثير الحروب، والصراعات.. والثارات، والعداوات والانتقامات والتقاليد المكبّلة… ليس في الشرق فقط !.
وانت القائل يا عزيز: عجائز كلّفوا البشرية ما كلفوه بمبدأ الإدانات والمحاكمات والتوجهات والتوصيات والمقارنات والقياس، حتى بات الأبناء كما لو أنهم في سجن… وهم صنّاع الحياة.
وعلى الأقل، يجب ان ينتشر هذا الكلام على أوسع مدى ليدرك المرء ما سببته حكمة آباء مليئة بالأحقاد والكراهية والتدين الفارغ والعنصرية والعرقية والمناطقية والطبقية… كبدت البشرية ملايين من سنين الانغلاق والتخريب والتدمير والتعدّي والإغتصابات….
واذا اعتبرتُ أن هذا الكلام قمة في إنجازك الأدبي الرائع، ذلك لأنّه نقد وتحليل وتوقّع علميّ منطقيّ، وكحلٍّ مقبلٍ حتمًا لا مناص منه، فقد آن أوان أن تعيش البشرية في سلام… أما ما تبقى من مروياتك، عزيزي، فلا يرتوي قلب المرء وعقله من قراءة واحدة او اثنتين وبين طيّاته جملة عناوين كل منها رواية وحكاية ابداع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى