مرةً أُخرى مع الزهاويِّ جميل صدقي.. نظريات نشأة الكون والأرض
الدكتور المهندس عبد يونس لافي
قبلَ ما يناهزُ الثلاثَ وأربعينَ سنةً، كانت مجلةُ ألف باء العراقية1، قد نشرت لي في عددها المرقم 495، الصادرِفي الخامسِ عشرَ من آذارَ عام 1978، مقالةً تحت عنوان “الزهاوي فيزياويا”. سُئِلتُ حينَها عن السببِ الذي جعلني أكتبُ في هذا الموضوع، وكان من المقربين من يتوقعُ السببَفي قربي من الزهاوي عاطفةً وتعاطُفاً، واكتفى بابْتسامةٍ او إيماءةِ رأسٍ لا يعرفها إلاّي.
لقد كان من الأسباب التي دفعتني الى كتابةِ تلك المقالةِ،أنَّ المجلةَ التي نالت احترام الكثيرِ من القراء داخلَ العراقِ وخارجَه، كانت قد أصدرت مِلَفاًّ عن الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي(1863ـ1936). كان المِلَفُّ مُشتمِلاً على مَناحٍ كثيرةٍ من حياة الرجل، حافلاً بما رواهُ شيوخٌ لهم وزنُهم من أصدقاءِ الزهاوي وتلامذتِهِ، وممن كان على علاقةٍ قويةٍ به لسنينَ طويلة، كالدفتري محمود صبحي، والصراف أحمد حامد، والعمري خيري، والعلوجي عبد الحميد وآخرين، لكنْ على الرغم من مصداقية المِلَفِّفي تناولهِ نشاطاتِ الزهاوي الثقافيةَ، وعلاقاتِه الاجتماعيةَ ووظائفَه التي شغلها إبّانَ الحكمِ العثماني ثم الانتدابِ البريطاني ثم النظامِ الملكي، إلا أنَّهكما أوضحتُ في مقالتي تلك إشاراتٍ خاطفةً متواضعةً ببضع كلماتٍ ملخَّصها أنَّ الزهاوي الشاعر، كان قد تحدث أيضا في العلوم والفلسفة.
ثَمَّةَ سببٌ آخرُ وراء مقالتي هو أني كنت كلما عدت من الجامعة أمرُّ بسوق السَّراي، وسوقُ السرايِ هذا كما يعرفه العراقيون، سوقٌ تاريخيٌّ لبيع الكتب، وهو امتدادٌ لشارع المتنبي الشهير الذي يضِجُّ بالنشاطات الثقافية والمكتبات. وذاتَ يومٍ مررتُ بمكتبةٍ بسيطةٍ في ذلك السوق، نشرت كتبَها ومجلاتِها أرضاً على قطعةِ قماشٍ، وإذا بكتابٍ خطَّهُ الزهاوي بيدهِ تحت عنوان “المُجمَلُ ممّا أرى”. قلت في نفسي دعني أرى ما رأى. تصفَّحْتُ الكتابَ على عجلٍ وإذا به يتكلمُ كلاماً لم أكنْ لأتوقَّعَه من الرجل الشاعر، إنه يتكلم في الجاذبيةِ والدفعِ والمدِّ، والزمانِ والمكانِ وانحناءِ الفضاءِ، والنورِ والبصرِ، والكونِ والمجرّاتِ، ونظريةِ الناموسِ الدوريِّ الأعظمِ كما أسماها هو، والسلمِ والحربِ، والعائلةِ، والحجابِ، والاشتراكيةِ، وجمهوريةِ المستقبلِ، واللذةِ والألمِ، وغيرها من مواضيعَ عميقةٍ كنت أعرف بعض أساسيّاتِ العلميةِ منها. اشتريت المخطوطةَ (بفلاسينَ)^ معدودة، ربما لم تتجاوز الخمسين فَلْسا. لقد اعتبرتُها ـ يا رعاك اللهُ ـ ضالَّتي التي وجدتها، لقيمةِ محتواها، أضف إلى ذلك أنها بخطِّ شاعرٍ عراقيٍّ فريدٍ له بصمةٌ في الشارع العراقيِّ والعربيِّ أواخرَ القرن التاسع عشر وأوائلَ القرن العشرين
قرأت بعضاً من صفحاتِ المخطوطةِ وأرْجأْتُ قراءةَ بقيةِ الصفحات. قراءتي هذه وبما أوتيتُ من علمٍ متواضعٍ مكَّنَتْني من أن أكتبَ مقالتي تلك عندما نُشِرَ الملفُّ وأدركتُ افْتقارَهُ إلى الإفصاحِ عن جانبٍ مهمٍّ امتاز به هذا الرجل.
أرسلت المقالةَ إلى ألف باء فتقبَّلها كادرُها بقبولٍ حَسَنٍ، فنُشِرَت يومَ أول إربعاء بعد الاستلام. أؤكِّد على هذا اليوم لأن الأربعاءَ هو يومُ إصدار المجلةِ طيلةِ سنواتِ عملِها من التأسيس عام 1968، أيام المرحوم عبد الرحمن عارف، وحتى الإغلاقِ في يوم الأربعاء التاسع من نيسان عام 2003، يوم الاحتلالِ الغاشمِ للعراق، إذ أنها كانت قد صدرت ولم توزَّعْ كما هو مُثبَّتٌ في مُدَوَّنات أُخَرى.
تجلّى ترحابُ المجلةِ بما نشره القسم الثقافي فيها إذ كتب في أعلى المقالة ما نصه:” كتب إلينا السيد عبد يونس لافي هذا التعليق على أثر صدور الملف الخاص بالشاعر جميل صدقي الزهاوي في ألف باء. ولقد رأينا في التعليق بادرة جميلة في أن يهتم أحد المعنيين في مجالات البحوث العلمية بقضايا الأدب والثقافة وان يبادر بالكتابة الينا استكمالاً للفائدة واتماماً للمعرفة فيما له علاقة بحياة الشاعر الزهاوي فشكرا. القسم الثقافي” تناولتُ في تلك المقالة، بعضاً مما قاله واعتقد به الزهاوي (الزنديق) كما نعت هو نفسه مستسخفاًّ من كان يلقبُّه كذلك في شيخوخته، بسبب جهره بآرائه الجريئة. والرجل هذا لا يعبأ بالألقاب، فهو المجنونُ طفلاً لحركاته الغريبة، والطائشُ شاباًّ لاسْغراقه في اللهو، والجريئُ كهلاً لمقاومته الاسْتبداد، والزنديقُ شيخاً للسبب الذي أسلفنا، وهذا وصفه في كل مرحلة من مراحل حياته كما أورده هو.
تعرَّضْتُ باخْتصارٍ لآرائه في الكون ومسألة الدفع إذ لا يعتقد أنَّ هناك جذباً في المادة، والزمان والمكان، ثم نظرية الناموس الدوري الأعظم كما سماها، والتي اعتبرتُها شطحاتٍ لا تمتُّ إلى العلم بصلة، وخلصتُ إلى إعطاء الرجلِ حقَّه من الاحترام، لجرأته وثقته بنفسه على الرغم من معارضتي لبعضٍ مما جاء به، وقلت علينا ألا نبخسَ الرجلَ أشياءَهُ، وأن نضعَه موضعاً متميزاً بين الشعراء، إذ جمع بين الأدب والعلم.
إني لأعذر أصدقاء الزهاوي والمحيطين به في ذلك الوقت حينما لم يخوضوا بتفاصيل نظرات الزهاوي الفلسفية والعلمية، اقرّوها أم عارضوها، لأن الصديق قد يخالطُك سنواتٍ دون أن يُحيطَ بكل ما تملك من مؤهلاتٍ، وربما اهتم باليسيرِ ولم يعبأ بسَبْرِغَوْرِ الكثيرِ، وهكذا كان الحال مع أصدقاء الزهاوي. لقد اهتموا بجوانب شعره الذي عكس السياسةَ والمرأةَ وما انطوى عليه أحيانا من مسحةٍ علمية وفلسفية.
كما إني أقدر للزهاوي معاناته لأنه كان يغرد خارجَ السرب أحيانا، ولا يجد بداًّ إلاّ إسقاط ما تنطوي عليه لواعجُه كتابةً، ولذا تجده ينشر بعضَ آرائِه في “المقتطف” التي كانت تصدر في مصر في القرن التاسع عشر تفادياً لمزيدٍ من المضايقات التي تعرَّض لها في العراق بسبب آرائه في الفلسفة والسياسة والمرأة.
بعد هذه المقالة زرت الزهاوي ثانيةً في مقالةٍ لي نشرت عام 2006 في جريدة الخليج الإماراتية، أي بعد 28 سنة من المقالة الأولى تحت عنوان (مع الزهاوي في كونه)2. تعرَّضْتُ في هذه المقالة إلى نموذجٍ للكون كما يراهُ الزهاوي بشيء من التفصيل.
في كلتا المقالتين ذهبت إلى أنَّ نموذجَ الزهاوي للكونِ لا يعدو أن يكونَ من شطحاتِ الخيالِ، مستنداً إلى حقيقةِ أنَّ الإجايةَ عن ماهيةِ الكونِ من حيثُ إنَّه أزليٌّ أبديٌّ أم لا هذا ولا ذاك، هي مشكلةٌ علميةٌ فلسفيةٌ أُشبعت بحثاً ولما تزلْ، وللفلاسفة آراؤُهم وللعلماء، ويبقى الأمرُ في حيِّز التأمُّلِ ومجرَّدِ التفكير، حتى أنَّ التجريبين بما توافر لديهم من أدواتٍ ظلوا عاجزين عن إدراك ما بعد الذي أدركته أدواتهم وما أدركته، لا ريب، قليل.
ذهب الزهاوي في نموذجه إلى أنَّ الكونَ لا يتناهى، وهو مملوءٌ بالأثير، ومن الأثير اللامتناهي تنشأ عوالمُ لا متناهية في أزمان لا متناهية. وهذه العوالم تضْمحِلُّ تارةً لتعودَ أخرى وهكذا تستمرُّ في النشوء ثم التلاشي من الأزل الى الأبد، وهي إذ تتلاشى فإنها تؤولُ الى الأثير الذي نشأت منه.
واستمر في التنظير فقال إنَّ في كثيرٍ من هذه العوالم نظاماً مثل نظامنا الشمسي، يترتب على هذا إن هناك عدداً لامتناهياً من الأرَضين بعضها يُشبِه أرضَنا، وبعضها يشبهها إلى زمنٍ معينٍ ثم يبدأ الاختلاف. ألا وإنَّ من الغرابة بمكان أنْ يعتقدَ أنَّ هناك أشباهاً لنا ولآبائنا وأجدادنا في كل أرضٍ تُشبه أرضنا، وأنَّ ما نعانيه نحن الأبناء وكذلك ما عاناه آباؤُنا وأجدادنا، يعانيه أولئك في تلكم الأرَضين. ثم يذهب أبعد من ذلك ليقول إن من يموت في أرضنا، يولد حالاً في أرضٍ أخرى من آبائه أنفسهم، إلاّ أنَّ الإنسانَ وهو يعيشُ في أرضٍ محددةٍ يجهل أنَّ له اشباهاً في أخرى.
يستمر الرجل قائلا إن (الطبيعةَ) عادلةُ قسمت السعادةَ والشقاءَ بالتساوي، فمن كان شقياً في أرضٍ، فسيولدُ سعيداً في أخرى، ومن كان سعيداً في أرضٍ، فسيولد شقياًّ في أخرى. ثم يقول إن أرضَنا بعد آلاف السنين ستضمحِلُّ في الأثير الذي نشأت منه، كذلك بقيةُ الأجرام في الوقت الذي تكون قد نشات أجرامٌ أخرى في مناطقَ أخرى من هذا الأثير، وربما عادت الأرض نفسها بعد زمنٍ سحيقٍ لتتكون من جديد وننشأ عليها ثانية من نفس آبائنا، وهكذا فإنَّ الإنسانَ خالدٌ، وإنه قد تكرر ويتكرر إلى ما لا نهاية، وما موته إلاّ بداية لحياة جديدة بالشكل والعقلية نفسيهما في أرض أخرى، وربما تكرر إلى الوقت الذي يولد فيه مرة أخرى على نفس هذه الأرض.
ثم تعرضت إلى مسألة الأثير التي استولت على عقل الزهاوي وقلت إن الفكرة كان قد بدأها الإغريق وأظُنُّ أنَّ الزهاوي كان متأثراً بما ذهب إليه الإغريق وربما كان لفلسفة البراهِمةِ من الهنود دور أيضا.
إن فكرة الأثير لها من يؤيدها ولها من يعارضها، وممن عارضها ألبرت انشتين، إذ اعتبر أن إشعاعاً كونياًّ شفافاً يملأ الكون، يكون متجانساً اأو متماثلاً تقريباً، لا يؤثرعلى المادة المغمورة فيه بل لا علاقة له بخلق المادة، وإنما هو في حالة تو ازنٍ حراريٍّ معها.
ثم تعرضت إلى نظرية الانفجار المدوّي الكبير bigbang theory التي تقول بِألا أزليةَ ولا أبديةَ لهذا الكون، وما الإشعاعُ هذا إلا نتيجة ذلك الانفجار. على أن هذه النظرية أيضا لها مؤيدوها ومعارضوها.
إنَّ أرضَنا كما نراها تنبضُ بالحياة لكنَّ ذلك لا ينفي وجود حياة ذكية مهما كان نوعها في العدد الهائل من المجموعات الشمسية، وإنَّه من العسير حاليا أن تحَدَّدَ الأطوارُ التي مرت بها تلك الحياة، وهل هي نفس أطوار الحياة على أرضنا، وما هي حال المخلوقات الاخرى عليها، وهل تتمتع بحياة كالتي على ارضنا، وهل إن هناك اتصالاً بينها، أو إننا قي يوم ما سنستطيع الاتصال بها، أو تستطيع هي الاتصال بنا. أسئلة كثيرة ولكن ليس ثمة من جوابٍ قاطعٍ البتة، على عكس ما كان يُنَظِّرُ الزهاوي.
مع كل التعميمات التي أطلقها الزهاوي دون دليل علمي قاطع، ولم تكن إلاّ تهويماتٍ وربما شطحات، تبقى للرجل سمته الواضحة بين الشعراء في خوضه واقتحامه مواضيعَ تكاد أنْ تكونَ شائكةً في ايامه لدى الوسط العلمي، الذي كان الزهاوي بعيداً عنه كلَّ البعدِ أكاديمياًّ، إلاّ أنَّه كان عنيداً واثقاً جريئاً ولذا نعتُّه في مقالتي بشاعر الفيزيائيين وفيزيائي الشعراء.
^^^^^
^فلاسين: جمع فلس باللهجة العراقية، والدينار العراقي يساوي الف فلسحينما كان للدينار قيمة، وقدتوقف التعامل بالفلس منذعام 1990 ووري الثرى.
إحالات:
1 الزهاوي فيزياويا/مجلةُ ألف باء العراقية/عدد 495، 15آذار عام 1978
2مع الزهاوي في كونه/ جريدة الخليج الاماراتية/ http://WWW.alkhaleej.co.ae/th%2006.html