تجليات المشاعر الوطنية في قصيدة: بلادِيَ عزّي وكنزِي الثمين.. للشاعر التونسي د. طاهر مشي
محمد المحسن – ناقد تونسي
التجربة الشعرية للشاعر التونسي المتمرس – د. طاهر مشي- غنية وحافلة بالعطاء الإبداعي والتنوع الموضوعاتي.. كتب عن الوطن (تونس) وعن الوَجد والحب بأبعاده الإنسانية والحياة والوجدان والقصيدة..
ولكن قبل أن يخوض المرء في الحديث عن صورة الوطن في شعر د. طاهر مشي يجدر به أن يحدد تعريفاً لهذه المفردة التي لم تكن ذات حضور كبير في الشعر العالمي،والشعر العربي(1) كذلك.ويبدو أن بروزها أخذ يطفو على السطح، ضمن فهم جديد، في مرحلة نشوء الدول ذات الكيان السياسي المحدد جغرافياً. «والوطن بالمعنى العام منزل الاقامة،والوطن الأصلي هو المكان الذي ولد به الانسان،أو نشأ فيه.
والوطن بالمعنى الخاص هو البيئة الروحية التي تتجه اليها عواطف الانسان القومية. ويتميز الوطن عن الأمة (Nation) والدولة (Etat) بعامل وجداني خاص،وهو الارتباط بالأرض وتقديسها، لاشتمالها على قبور الأجداد» (2).
ونقرأ في المعجم الفلسفي المختصر، تحت مفردة «الوطنية»، ما يلي : «مبدأ يعبر عن حب المرء لوطنه وعن استعداده لخدمة مصالحه.انها انشداد المرء الطبيعي نحو مسقط رأسه، نحو اللغة الأم والتقاليد الوطنية، واهتمامه بمصير البلاد التي ترتبط حياته كلها بها». ونقرأ أيضا: «ولكن المشاعر الوطنية لا تأتي عن أسباب غيبية، من «صوت الدم» أو «العرق» كما يزعم المنظرون البرجوازيون. فهي تظهر تاريخاً،بتأثير ظروف حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية، ولذا فإن مضمونها يتغير تبعاً لتغير تلك الظروف” وتحضر تيمة الوطن في قصيدة ” بلادِيَ عزّي وكنزِي الثمين.. “للشاعرالتونسي المتميز- تونسيا وعربيا د. طاهر مشي- موضوع الدراسة، بشكل قوي ومهيمن، حيث يحتفي فيه الشاعر بوطنه تونس، ويجعله في قلب الشعر والخيال والتفكير وفي قلب الأحداث، هو المحور المركزي وفي فضائه الأنا والجماعة روحا وجسدا. “
بلادِيَ عزّي وكنزِي الثمين
تغيبين عني وأنت الحياةُ
أراكِ كظِلّي، ..كَكنزٍ مَصونْ
وعند المساء تُوارَى الظّلالُ
وَتبقَيْ بِقلبي ….وَبُبُّو العُيونْ!
وَهبْتُك حُبّى فَلا تهجُرينْ
سأبقى على عهدِ عِشقِي الدّفينْ
وكيف أراكِ فكلّي …حنين؟
فِداؤكِ روحي وعمري الثّمينْ
أخوضُ لأجلكِ أرضِي انتِصارًا
أذودُ؛ لِتحيَيْ وَكُلّي ….يقينْ
طَوَيْتُ أَراضِ وَخُضتُ غِمارًا
سجدتُ إلى اللهِ فَهْوَ المُعين
جثوْتُ على ركبتي في الليالي
وَجُبت الفلاةَ بِقلبٍ حَزينْ !
كذا من جفوني ذرفت الدّموعَ
وشوْقي بأعطافِ صدري سجينْ
رأيتُ المدى … شُموخَ الرّواسي
وعند الوغى صُخورًا…تلينْ
بِبأْس الضَّوارِي أهُدّ الحُصون
فأَغدو بأرضِي كَحِصْنٍ حَصينْ
وأمضي بنَصْرٍ كَشبْلِ الأسودِ
وأبني عليها وفيها العرينْ !
وأتلو تباريحَ شَوْقِ انتِصارٍ
وآياتِ رَبّي …كِتابِي المُبينْ!
وما فرّقَتنْا الأعادي بغدرٍ
فَكُلٌّ على العَهْدِ، صانَ اليَمينْ
بلاديَ عِزّي وَفيكِ اعتِزازي
فحبُّك ينمو بَصَدري جَنينْ !
حينما قرأت هذا النص توقفت عند عتباته المهمة من حيث التشكيل في الصورة والسينوغرافيا والالوان واللغة والمشاعر من جهة،والابداع والتألق والانطلاق في عالم كتابة الشعر..
لغة الشاعرالتونسي اللامع د. طاهر مشي- تتميز بالدلالات المتغيرة (غير ثابته) لوصف الصورة التي تتشابك في ذهنه وخياله، وتعصف لنا صورا شعرية متحركة..لأن الصورة الشعرية وبحجم الشاعرية التي تحملها تكون جوهراً للشعر،كما هي روح القصيدة التي تمتد من اول عتبة الى اخرعتبة لتثبت للقارئ الصلة بين الواقع والتأثير المهم جداً،لذلك تأتي الصور قوية ! كل مفردة لها خصوصية في حواس القارئ وشعوره، لأن فن الصورة مرتبط بمفهوم الفن لدى الشاعر -د-طاهر مشي.. والناقد بطبيعة الحال يبحث عن الجمالي في الصورة وعن التجربة الفنية والحالة النفسية للشاعر.. وأيضا يبحث الناقد في مستويات الشاعر المتميز من حيث كيفية تجددالصورة ونشاتها في فكره وخياله وعكسها للقاريء لأن الحواس وحدها غير كافية بتوصيل ما نصبو اليه،بالاضافة الى بحثه عن الانزياح اللغوي وتحديث اللغة عند الشاعر،وبين الذاتية والموضوعية نتوقف كثيرا، لأن حجم الشاعرية والانزياح اللغوي، وتشكيل الصورة الجديدة، وسعة الخيال والمخيلة وسائل نكتشف بها معايير مهمة لجمالية الصورة الشعرية عند أي شاعر، وهي بصراحة مفاتيح للناقد مهمة لتفكيك اي نص شعري، حتى نصل إلى جوهر النص وجمالياته الفنية..
الشاعر -د-طاهر مشي- لم يأت بالصدفة أبدا إنم هو ثمار تجارب عديدة كادت أن تمزقه لكنه كان قويا من الداخل، حيث يمتلك الذائقة الشعرية ليبوح، يتكلّم ويصرخ.. له الشغف الكبير والمعرفة في حب الوطن، لذلك جعل اهتمامه في الشعر في قلب اهتماماته، وجعله صوته المنحدر من أي مكان يسكنه صوب الوطن .. وليس رجع صدى .
الصوت والكلمة والطاقة التي يمتلكها الشاعر ضمان كبير في تركيبة الصورة وانعكاسا لحياته، وبنفس الوقت انعكاس لمفهوم المكان – الوطن – لأن الزمان ماعاد يشكل شيئاً الآن .. فالذاكرة تعتمد المكان اولا ًثم تخوض في الأزمنة لاحقاً لتثبت من قبل الأسماء كدلالات معروفة للقاصي والداني، ومن اهتم بشأن الأدب والتاريخ .
وهذا التقابل الفني بين واقع الشعر المعيش وبين ركام التاريخ يؤسس لوعي ولاحساس الشاعر في فكره ووجدانه بحب الوطن ومتابعة معاناة الناس..
نص شعري تتدفق منه مشاعر خليطة من قوتين أساسيتين هما الفكر الانساني الذي يحمله الشاعر ونبضات قلب حساس رهيف شفاف،يشكلان قوة نابضة في دعائم النص،وهما في نفس الوقت الجسر الذي يعبر به شاعرنا الفذ-د-طاهر مشي-إلى الانسان القارئ وبالتالي يضيف تفاعلاً عضوياً في المجتمع،وبالمحصلة يتحول النص الى ثمرة جميلة فيها من التكامل الروحي والانساني .فالنص يسري على المذكر والمؤنث بنفس التوجهات،لأن الجميع يعيش داخل الاسوار..أسوار حب الوطن (تونس) وانا هنا بصراحة لا اتساهل في مسؤولية الكتابة النقدية من حيث المحاباة في الاصدقاء،كوني ولسبب بسيط لا أعرف الشاعر د. طاهر مشي-عن قرب أبدا ..انما أعرفه عن بعد لمتابعتي اعماله الشعرية وما يكتب بالفن والادب وهذا من تخصصي أنا ! وقد استحوذ علي هذا النص لأن أسجل له ما يستحق من حق واستحقاق وكنشاط ابداعي له ولتجربته الشعرية الخصبة وفي قصائده المتعددة وهي إبن تونس-مهد الثورات العربية-ابن الشعر وابن السرد والحكايا ومكامن الوعي الجمالي في العلاقة بين السحر في اللغة والشعر وما بينهما من انتاج للوعي المتجدد في فضاء وروح الشاعر السائر على درب العالمية بخطى ثابتة ..
قبعتي..يا شاعرنا السامق..
المراجع :
1-لم تتكرر كلمة وطن كثيراً في الشعر العربي.وفي لسان العرب المحيط للعلامة ابن منظور،وهو معجم لغوي علمي قدم له الشيخ عبد الله العلايلي وأعده وصنفه يوسف خياط ونديم مرعشلي.ورد التعريف التالي لمفردة وطن : موطن: اقليم يتسم بخصائص طبيعية تلائم احياء معينة. بيئة: مكان له ظروف خاصة يستوطنه بعض الأحياء مثل ساحل البحر والغابة والمستنقع. الموطن الأصغر: هو الموطن البيئي الخاص الذي يعيش فيه كائن ما. موطن الأصل : موطن الشخص عند ميلاده.
2- انظر : جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بيروت 1982. ج2 ص 580 .