الأقليات الأجنبية فى مصر المملوكية
خديجة محمد عبد البارى | باحثة في التاريخ الإسلامي- مصر
ظهرت فئة الأقليات الأجنبية بالمجتمع المصؤي في ظل العصر المملوكى سنة (648-923هـ/1250-1517م)، فقد شملت مصر الكثير من الجنسيات الأجنبية المختلفة، فقيل إن عددهم وصل فى القرن ال14 الميلادى إلى 3000 تاجراً مسيحياً أجنبى الجنسية، وكان منهم اللاتيين والرومان والأرمن وهم جنس متعارف عليه منذ الدولة الفاطمية وخاصة فى ظل وزارة بدر الجمالى، وكذلك أقليات من الحبشة، بالإضافة إلى الأقليات المغولية والجراكسة، وقد تمركز وجودهم فى المدن الساحلية وهذا لتسهيل ممارسة أعمالهم التجارية فى مصر حيث كانوا حينها هم المهيمنون عليها، وقد كان لكل منهم قنصل مسؤول عنهم فى جمييع شؤونهم.
وكانت العوامل الداخلية عنصر هام لجذب الأقليات الأجنبية حيث كانت قوة الدولة وبسط سيطرتها ونفوذها داخلياً واستقرار الحكم الداخلي، وتوافر عنصر الأمان قد أعطى فرصة كبيرة لقدومهم إلى مصر، كما كان الاستقرار في أحوال الطرق التجارية البرية والبحرية في أوروبا وأفريقيا وآسيا، وازدهار الطريق البحري التجارى مما ساعد ذلك على جود التجار الأجانب فى مصر.
إضافة إلى ظهور قوى جديدة فضلت المشاركة مع مصر في نواح متعددة، مع ضعف السيطرة البابوية على أوروبا فأصبح الأوروبيون غير قادرين على السفر براً أو بحراً من دون وساطة لهم من قبل المماليك، كما أن العوامل العسكرية التي كانت سبباً في قدوم الأسرى الأجانب إلى مصر واتباع سلاطين المماليك سياسة التسامح الديني والاجتماعي قد ساهمت أيضاً في هجرة الكثير منهم إلى مصر بحثاً عن الأمان والاستقرار.
وقد استفادت مصر كثيراً من الجاليات الأجنبية، ومن ثم قدمت لها كثيراً من التسهيلا ، إلا أنه عندما كان يشن القراصنة الأوروبيون الغارات على السفن والسواحل المصرية كانت الدولة تصادر أموال وممتلكات الأجانب أو يتعرضون للحبس والضرب والإهانة فى مقابل ذلك، بل وأحياناً تصدر قرارات تحدد فيها مدة إقامهم في البلاد، لتتراوح بين أربعة وستة أشهر. وربما يعود ذلك التذبذب في المعاملات إلى حرص كلا الطرفين على الحفاظ على المصالح الاقتصادية المشتركة وتحقيق الربح المادي من هذه العلاقة.
وكان لهؤلاء الأجانب دور في الدولة ، اذ كان لبعض الشخصيات الأجنبية الأوروبية من ذوي النفوذ والسلطة دور سياسي في حل المشاكل بين دولهم والدولة المملوكية كسفراء ونذكر منهم على سبيل المثال التاجر بيلوتي الكريتي، وسكران الجنوي، وجاك كير الفرنسي .
أما عن علاقهم بالمصريين فقد كان الكثير من المشاحنات والمناوشات كلما كانت هناك فرصة للاحتكاك. في حين لعب الأسرى والعبيد أدواراً سياسية مهمة، واستغلتهم الدولة في الأعمال الإنشائية والعمرانية، ووصل بعضهم إلى مستوى سياسي وعسكري قوي، إضافة إلى اهتمام الحكام والناس بالرقيق ذكوراً وإناثاً من الناحية الإنسانية، حيث خصصوا لهم موارد رزق ثابتة. وعلى الجانب الآخر نجد أن بعض الجنسيات الأجنبية ساهمت في تدهور الأخلاقيات العامة، فانتشرت الخمور، والحانات، ودور البغاء، وعادات وتقاليد جديدة على المجتمع، فقد سكنوا الفنادق الخاصة والتى أشرف على بنائها المماليك نفسهم، وكانت على طراز راقٍ يتناسب مع وضعهم فى المجتمع المصرى، وهذا يدل على أن الجالية الأجنبية كان مكانة مرموقة فى المجتمع المصرى وإن كانت أقلية، كما سمح لهم بتناول الخمور فى تلك الفنادق، أماكن إقامة الجاليات الأجنبية من مختلف الجنسيات والطوائف .
وقد أقامت كل طائفة أو جالية أجنبية منهم في أماكن معينة خاصة بها، فأقام الأجانب والأوروبيون في فنادق في الموانئ المصرية، كما كان لكل جالية فندق، ولا يسمح لجالية أخرى بالإقامة فيه، وتمتع ذلك الفندق بخدمات عدة منها وجود حديقة متسعة، ومخبز، وكنيسة، وحمام .
كان المغول من الأقليات الأجنبية الذين سكنوا مصر وقد انعزلوا عن المجتمع المصرى تقريبا فقد توّلوا مناصب عليا في الدولة، وكوّنوا طبقة الحكام والأمراء والأعيان، وقد أقاموا في حي الحسينية، وعاش الأسرى في سجون ومعتقلات، لكنهم تمتعوا بمقدار من الحرية
وهناك أيضاً الجالية الأرمنية التى تعرضت في بعض الأحيان إلى الكثير التفرقة فقد سجنوا فى سجن خزانة البنود، ولكنه في الحقيقة لم يكن سجناً بالمعنى المعروف، حيث سمح بالتزاوج والبيع والشراء، وصنع الخمور وبيعها، أما الجالية الرومية فقد أقامت في حارة الروم .
وقد كانت مسألة العلاقة بين الأجانب والسلطات الحاكمة من ناحية وبين الأجانب والمصريين من ناحية أخرى لها تأثير قوى على الوجود الأجنبي في المجتمع المصري وأوضاع الجاليات الأجنبية، وأحوالها في ظل التدهور الذي حدث في نهاية العصر المملوكي سواء أكان هذا التدهور داخلياً متمثلاً في اهتزاز السلطة الحاكمة، وسوء الأحوال الاقتصادية والثورات المتعددة، واتباعها سياسة تعسفية مع المصريين والأجانب، أو خارجياً متمثلاً في الخطر البرتغالي الذي قضى على الاقتصاد المصري مما أدى قلة وجود الأجانب في مصر شيئاً فشيئاً، وهذا بسبب سوء معاملة السلطات الحاكمة لهم فلم تسمح لهم على سبيل المثال بالتجول في الديار المصرية أو الخروج ليلاً من الفندق، وهذا الأمر يبدو طبيعياً في ظل أعمال القرصنة الأوروبية، إذ كانت الدولة في شك دائم من الأوروبيين.
ونرى من ضمن القرارات التى اتخذها بعض سلاطيين المماليك تجاه تلك الأقليات ما قام به السلطان المملوكى الصالح إسماعيل منع الأجانب من إحضار الخمور فى فنادقهم سنة 744هـ/1343م وقد عارض قراره النائب القائم على أمورهم وقال إن مايحصله من جلب الخمور حولى 40 ألف دينار، وهو مبلغ كبير فترك السلطان الأمر ، ولكن فرض عليهم بعض القيود فلم يسمح لهم ركوب الخيل وإنما سمح لهم بركوب الحمير فقط مثل فئة أهل الذمة ، بينما سمح للقناصل والأمراء من الزائرين بركوب الخيول .
وقد حدث بالطبع الكثير من الإحتكاكات والمُناوشات بين الأجانب وبين المواطنيين أدى ذلك إلى الكثير من الفتن والصراعات مثل ما حدث سنة 727هـ/1326م و سنة 822هـ/1419 م وكان الإنصاف غالباً والتعاطف لصالح الأجانب على حساب المصريين، ومع الوقت صارت سطوة تلك الطبقة أقوى من ذى قبل وصارت متحكمة فى زمام الأمور المالية والسياسية فى الدولة ، كما أن الكثير منهم أصبح جواسيس ضد مصر.
ومما سبق نستطيع استنتاج أن من أهم العوامل التى ساعدت فى وجود فجوة قوية بين طبقات المجتمع المصرى هم سلاطيين المماليك أنفسهم، وعلى الرغم من ذلك نجد كثيرا من الجوانب الإيجابية التى كان لها تأثير قوى على طبقات المجتمع، فقد حاول الكثير من حرص السلاطين على إقامة العدل بين الرعية قدر المستطاع كما حاربوا الظلم والإعتداء وكانت لهم خطوات فعلية تجاه ذلك .
فكانت الأقليات الأجنبية كذلك تعامل بالمعاملة الحسنة كما ذكر خاصة فى الأوضاع الطبيعية فى الدولة، فكان لهم حقوق كثيرة من الجانب الإجتماعى لدولة المماليك، ولكن علينا أن نذكر أن بعض السلاطيين قد قبلوا الهدايا مقابل أن يحموا أحدا على حساب أحد من الراعية فى بعض الأحيان .
كما كانت الرعاية الصحية من أهم الجوانب الإجتماعية التى حظى بها تلك الفئة خاصة أنهم كانوا لديهم الأطباء الخواص لهم ولقد ساوى فيها أيضاً السلاطيين بين العباد كافة، واهتموا كثيراً ببنائها على أعلى مستوى من التقدم والرعاية الطبية، فأنشأوا البيماريستان وجعلوها حقاً للجميع بإختلاف طبقات المجتمع، فأنفقت الدولة الكثير من الأموال فى سبيل ذلك وأوقفت عليها الكثير من الأوقاف لتغطى ما أنفق عليها، مثل ما فعل السلطان قلاوون حيث أوقف عليها بما يعادل ألف درهم سنوياً للرعاية الصحية فقط فشملت كل فئات المجتمع المصرى وطبقاته .
وكانت الجالية الأجنية لديهم المدارس الخاصة بهم، بينما كان المماليك قد تعلموا بشكل مختلف عن باقية الفئات فدرسوا التعليم العسكرى الذى يؤهلهم فيما بعض لخوض المعارك والحروب ويكافئ من تميز منهم بالإمارات والإقطاعات العديدة، وكان السلاطين يأخذون رأى القضاء فى الضرائب المقررة على الرعية من شتى الفئات مثل ما حدث سنة 827هـ/1424م حيث استشار السلطان برسباى قبل أن يفرض الضريبة بعد عقد مجلس جمع فيه ممثلي الأمة ومشايخ العلم والفقهاء فأقروا بعدم جواز فرض الضريبة على الشعب ماعدا ضريبة التجار فأقروا ربع العشر عليهم وعلى أهل الذمة نصفه وأقره السلطان .
كان فى الدولة المملوكية الإجابيات كما كان لديها السلبيات والتى لا يخلو منها حقبة زمنية، وما سبق ذكره يدل على انتشار ظاهرة التمييز الطبقى فى المجتمع المصرى منذ بداية الدولة الفاطمية وحتى نهاية العصر المملوكى فقد كانت التفرقة بين الطبقات والفئات على حساب الأخرى سبب جوهرى فى تفكك المجتمع المصرى وبناء جدار عازل يمنع من تمتع جميع الطبقات بذات الامتيازات.