الحديقة الغدامسية.. شلال فلسفي روحاني
أميرة عبد العزيز | فنانة تشكيلية مصرية
الحقُ أقول لقد شغلتني كثيراً هذه الآية الكريمة، أغرق في بحورها بكل ذرة في كياني وكل ما أوتيت من إحساس وقوة ينتفض منها قلبي وتهفو إلى السماء روحي مُحَلِقة لأعلى كلما قرأتُها أو سمعتها ألا وهي (إني جاعل في الأرض خليفة) إنها الخلافة ومن من ..!؟ من الله – عز وجل -، وأتساءل ودموعي تسبقني هل يوجد في الدنيا كلها أعظم من هذا..!؟ إنه تكريم إلهي تقشعر من هول عظمته الأبدان وتسقط لجلاله العَبَرَات كشلال منهمر.. وهنا الخلافة معنوية روحية هدفها الإرتقاء بفكر الإنسان والتأمل والتدبر بتعب وصدق وحب وشغف ليرتقي بذاته.
إن ماهية وجود الإنسان التفكر والتأمل في الكون وخالق الكون، يأتي عن طريق تزكية النفس وتهذيبها وتنقية الروح ولطالما شغلني موضوع الصوفية بحروفها التي تنبع من خلالها معانٍ تدل على النقاء والصفاء.. السماء الصافية، نقاء الماء، جمال ورقة الزهور وعبيرها ، نقاء وصفاء القلب والروح،…
الصوفية هي أحد الأبواب التي تستطيع من خلالها الوصول بالنفس والروح إلى النظر بعين القلب وتجاوز فكرة الزمان والمكان عن طريق الحب الذي يجعَلُكَ تعبد الله تلذذاً.
ببساطة الحب هو الوسيلة للتقوى والأٌنس بالمحبوب، تعبدُ الله كأنك تراه؛ فالله سبحانه وتعالى أصل ومنبع كل حب، هو الحب بكامل ومنتهى وأسمى وأجلَّ معانيه هو أقرب إلينا من حبل الوريد، ولعل الإنسان الصادق في كل زمان ومكان يبحث دائماً عن ماهية وجوده.
لقد نبع الصدق من الحديقة الغدامسية بما تحتويه من خصائص أدبية وفنية تنفرد بها، فانهمرت من خلالها المتون البستانية وزادت من جمالها وبهائها المحاورات الإلهية، والإشارات الغدامسية والخروج الليبية وصولاً بآخرها وهي الرسالة اليمانية والسيرة الرحمانية.
ربما لا تكفي تلك السطور لكي أُبحر في فيوضاتها اللانهائية من فلسفة وروحانية وحَكي ذو مذاق فريد، دائري متداخل مذهل بديع لرحلة غيبية معنوية ومادية تعبرُ بك إلى متاهات المقامات إنها حديقة ذات مواسم يتضح فيها أنواع المجاهدات من زمن الغيبة ” الذي يتيه فيه إنسان الحديقة وصاحبها بين فضاءٍ شاسع من القلق والحيرة والجهل المعرفي والبكاء وأقاليم الفراق حتى يبلغ منه حد اليأس الكامل “، في تلك اللحظة الفارقة يتجلى – الحق – ” هو الله سبحانه وتعالى بلغة الصوفية.. رؤية الله عز وجل ” إن الإنسان التائه الحائر في تلك اللحظة يقرر عقد عهداً بأن يبني لنفسه وللناس جميعاً حديقة شاملة مقسمة إلى أربعِ وعشرين موسماً، يرحل إليها الإنسان الزارع فيها بكدح وصبر وجَلد موسماً موسماً حتى يصل إلى نهاية المواسم “زمن الخلافة” الذي يُصبِحُ فيه إنسان الحديقة كاملاً حيثُ العدل والجمال والسلام.
ولعلَ إنسان الحديقة يبني لنفسه وللإنسانية كلها معه طريقاً عبر تلك المواسم المختلفة من الحرث والماء والضوء واللغة وصولاً إلى العشق.. إنه بحق كما يُسمى “سفر الخلافة” وكما يطلِقٌ عليه البعض ” كتاب الإنسان “، وأصفه بأنه كتاب لتزكية الروح وتنقيتها وغربلة النفس من كل الشوائب التي قد تشوبها وتُعرقِل وصولها إلى مرحلة الخلافة حيث ” العدل والجمال والسلام “.
إنها رحلة صوفية يكدح فيها مايستروا وبطل الحديقة ليحصد من كدحه وعمله المتواصل بصبر واجتهاد علوما شتى ومعارف جليلة ومن خلال التحاور مع الحق يصل إلى الهدف الأسمى والغاية الكبرى إلى ” العدل والجمال والسلام ” لنفسه ولكل الإنسانية.
يقول أبو الحارث موسى بن إبراهيم مؤلف الكتاب: أنه عَثرَ على مخطوطة للشيخ بلخير الغدامسي ( 1848-1954م ) وهي نص صوفي تعرف من خلالها على صاحب الحديقة وجهاده ورحلاته وتلاميذه، من خلال تلك المخطوطة التي تمتاز بدقتها وبراعتها لغةً ومضموناً وظل يعكف على كتابتها قُرابة الواحد وعشرون عاماً بأسلوبه الذي يدفَعُكَ نحو التفكير بمتعة، اسلوب سردي وشعري متميز وزاد عليه أن النص مذيل بشروح تحتوي على قصص مثيرة للخيال عن الشيخ بطل الحديقة وتلاميذ الزوايا الصوفية المعاصرة وهيامات ووساوس المريدات.
مضى إبراهيم موسى قرابة الواحد وعشرين عاماً من التحقيق والتخيل والمراجعة المستمرة لِيُظهِر الحديقة الغدامسية بأبهى صورها، وارفة الظلال يفوح منها عطر من زهور الأدب والفكر الفلسفي وإبداع ومتعة السرد القصصي وبإنحياز تام للإنسانية وبلوغها قمة الرقي عن طريق سبر التاريخ المعرفي للروح العربية الإسلامية.
الرحلة التي تاه فيها صاحبها بين فضاء دائري من القلق والحيرة والغيبة، ولكن بعد كدح شديد تجلى له الحق، يظهر ذلك التجلي من خلال محاورات إلهية حتى يصل في نهاية موسم الحديقة عبر الخير والحق والجمال والسلام للإنسانية إلى موسم الخلافة بإبداع سردي متفرد على شكل مواقف تشرح كيفية المجاهدة والمكابدة الروحية للشيخ بلخير الغدامسي بطل وصاحب ومشيد الحديقة.. إنها الغيبة والرحلة الطويلة والطريق إلى الحق والبلاء العظيم للوصول بروحانية وشفافية إلى الحق.
وجديرُ بالذكر أن إبراهيم موسى كاتب الحديقة كان منفتِحاً على فنون أخرى غيرَ السرد القصصي ” كفنون الشعر والحوار المسرحي ” كما أبحرَ في روحانيات واستشراقات شرقية وغربية موثِقاً بذلك عالمياً وتاريخياً من خلال انفتاحه على ثقافات متعددة وثَقَ بها عالمية النص الصوفي.. إن الحديقة الغدامسية بنيان متسق إنها عمارة مكتملة في بنيانها هي مجموعة كتب في كتاب واحد محكمة لغةً ومفردات ورموز.
يروي إبراهيم موسى أنه إنتهى من الحديقة الغدامسية عام 2020 في هيئة هي أقرب إلى التمام وأغناها وأحسنها ترتيباً ومراجعة وتزيد مقدار الضعف ونصف الضعف عن نسخة بيروت التي عرفها الناس وتداولوها، فيها زيادة عظيمة في المعاني والنصوص والطبعة الأولى الكاملة، أطلقَ عليها ” طبعة التسليم ” لأنه أسلم هذه الأمانة الفكرية والعهدة التراثية إلى القارئ التاريخي، ونعم الكاتب هو الذي يحافظ على أمانته الفكرية ويُقدِر قيمة الكلمة..!
هذا الكتاب يحتوي ست جهات للنص تتمايز وتتصل ببعضها البعض بإختصارهي:
المتون البستانية: وهي بدن الكتاب وفيها زمن الغيبة ومواسم الحديقة الأربعة والعشرون، ورحلة الشيخ وجهاده الإنساني وتجلياته وبين سطورها عالم من الفكر المتقد والسرد الساحر.
المحاورات الإلهية: هي مقولات بآخر كل موسم متصلة في هيئتها بالمتن البستاني، كلام يتلقاه القلب من لدن الحق ويكون علامات وأنوار كاشفة على الطريق.
( المتون البستانية والمحاورات الإلهية هما أصل وبدن الكتاب الغالب ولا ينفصلان عن بعض ).
الإشارات الغدامسية: هي تجليات مفردة في آخر كل موسم زيدت عليها زيادة لاحقة في الوقت ولا شك أنها من أصل المخطوطة أيضاً، ويوضح ذلك أمين الشيخ وراقم الحديقة الخطاط آخمدو بن سالم فيقول: ” عندما اشتدت الحُمَّى بشيخي آخر ليلة يشهدها معنا وكنت قد فَرغتُ من الكتاب أول الليل، فطلب الدواة وفيها ثمالةُ من الحبر وجعل يهذي ويقول: ” إسمع واكتب هذي في آخر موسم كذا حتى أتمم المواسم جميعاً، فقال: ’هذه إشارات القدوم عليه من موقفي هذا بغدامس يا آخمدو’ ، فبكينا وعرفنا أنه لا يشهد معنا صلاة الفجر، رحمه الله رحمة واسعة “.
الشروح الليبية: ليست من المخطوط في شئ، بل زيدت على هامش هذه الطبعة في واطئة الصفحات التي فَتحَ الله بها على إبراهيم موسى محقق النص ومن معه من الشيوخ وأصحابه من أهل الطريقة في ليبيا حال قراءتهم للحديقة ومراجعتها في حلقات الذكر والحضرة والدروس العلمية في الفترة ( 1999- 2011 )، وتحتوي على تجليات وأسئلة وفتوحات لعلها تفيد القارئ وتزيد من فهمه للمخطوط.
ثم يليها الرسالة اليمانية: عنوانها الكامل ” الرسالة اليمانية في أول عمار غدامس البهية “، ليست متصلة بالحديقة إنما هي نص آخر صغير للشيخ عبد الرحمن ورثه الكاتب عن أبيه الحاج علي بن إبراهيم بن منصور ببادية سرت التي حلَّ بها الشيخ الغدامسي زائراً عام 1940ميلادية، شارحا في سياق آخر الكتاب حكايته مع الشيخ عبد الرحمن وكيف تعرف عليه وعلى جم أدبه وفكره.
وآخر جهات النص السيرة الرحمانية: وهي سرد زمني متسلسل جعله الكاتب لحياة الشيخ منذ ولادته حتى وفاته، فيها أسفاره ومجاهداته، وكتبه ورسائله التي خرجت من رحم كل بلد حل به، يظهر فيها مدى اتساع أفق الشيخ وانعقاده بالعالم وانخراطه بالخلق وهمومهم وصولاً بتحقيق المخطوطة وطبعها ونشرها في البلاد الليبية أولاً ثم في ديار المنفى الإفريقي فالعربي فالأوروبي.
وفي بيان لموسى وتعليق له فيها ” أن الخلافة أرضية تُؤتي بالمباشرة لا بالتفويض، وتثبيت المحبة بين الخلفاء العاملين من كل مذهب وطريق ووصلهم بالحق الشامل بالمجاهدة والمحاورة “.
وأخيراً وليس آخراً سوف يظل الحب هو الشغف الأول بل والأساسي للوصول إلى الجمال والسلام والعدل وكل القيم النبيلة الإنسانية – (الله محبة) – عندما تريد معرفة ماهية الأشياء إعرفها بالمجاهدة عن طريق الحب، وحينما تصل إلى مرحلة العشق تكون وقتها فقط تستحق لقب خليفة الله بحبك للعالم كله وتوقير كل عناصر الطبيعة لأن الله هو خالِقُها.