نبي المسلمين والعرب [1] للدكتور عبد الرازق السنهوري

تحرير : د. أحمد حسين عثمان – دكتوراه المقارنات التشريعية ، كلية دار العلوم جامعة القاهرة.

مقالات تراثية لعلماء القانون عن الإسلام ورسوله

للنبي عليه السلام حرمة في نفس كل مسلم ، بل في نفس كل إنسان يحترم الإنسانية ، ويحترم من يعمل لخيرها . وهذه الحرمة تولد في قلب من يهم بالكتابة عن هذه الصفحة النقية الجليلة من صفحات الإنسانية شعورا تمتزج فيه الهيبة بالحب وبالجلال .

ولقد طابت مني جمعية الهدايا أن أكتب في نبي المسلمين والعرب . فوقفت بين الرهبة والواجب ، ثم أقدمت على كتابة هذه الكلمة مختلسا بعض الوقت وسط ما يشغلني من العمل وقد حددت قبل أن أبدأ الكتابة، المعاني التي أحببت أن أتقدم بها إلى القراءة فجوانب الكتابة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) متشبعة منوعة، تزدخر بالمعاني، وتزدحم بالأفكار وهو، منذ صعد الرفيق الأعلى، موضوع شهى للاقلام ، ومجال متسع للتحليل والوصف .

أردت أن أضع أمام القاريء مسائل ثلاثة:

(أولا) أن النبي عليه السلام هو نبي المسلمين والعرب، وقد اخترت هذا المعنى عنوانا للمقال .

(ثانيا) أن النبي عليه السلام كان بشرا مثلنا، بل لعل أروع ما في حياته من جلال وعظمة هي تلك الصفحة التي تريه لنا بشرا، يخضع لنواميس البشرية، ويجري على سننها .

 (ثالثا) أن هذا الدين الذي أتى به النبي عليه السلام هو دين الأرض كما هو دين السماء. بل لعله بالوصف الأول أقرب إلى العقل البشري : وأنفذ إلى قلب الإنسان .

أما أن النبي (ﷺ) هو نبي المسلمين والعرب ، فقد أردت بهذا أن أقول أنه لم يبعث إلى العرب وحدهم، بل بعث إلى البشر كافة. ثم هو بعد ذلك عربي من صميم بني عدنان، فالنبي العربي وقف في حجة الوداع، منذ ثلاثة قرنا ، يخطب الإنسانية وهي لا تزال واعية لقوله حتى اليوم، ولا يزال يرن ذلك الصوت الكريم الذي يقول: “ألا لافضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي، على عربي، ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود، إلا بتقوى الله. إن اكرمكم عند الله اتقاكم ألا هل بلغت” نعم ، وأحسن التبليغ وهو، إذ ذاك، يرى بعين الغيب أركان الدولة الرومانية، وأركان الدولة الفرنسية ، تنهار وتنقض ، ويعلو فوق هذه الأطلال بناء على شامخ يكاد يسامت السماء، هو بناء الدولة الإسلامية الجديدة ، دولة لا تعرف الجنس ولا تعرف الألوان، فالعجمي والعربي والأحمر والأسود، عندها سواء . ولكن هذه الدولة وضع أساسها نبي عربي، وارتفعت على اكتفاء العرب فللعرب أذن أن يتقدموا إلى الإنسانية بهذه الصفحة البيضاء ، فهم أول من قالوا برابطة البشرية، وهدموا الحدود والحواجز ما بين بني البشر ، وأقاموا أساسا لعصبة أمم حقيقية لم ينجح الغرب في إيجادها حتى الآن .

أما أن النبي (ﷺ)كان بشرا مثلنا ، فهذا ما أكده لنا في عبارات صريحة جازمة، وهذا ما نقرأه في القرآن واضحا لا لبس فيه ولا ابهام .ومعنى أنه كان إنسانا هو أنه اكن يخضع لما تخضع له البشر من سنن ونواميس . ولو أنك استعرضت سيرة النبي عليه السلام ، لوقفت أمام كثير من صفحات هذه السيرة النقية الطاهرة ، لا تستطيع تفسيرها إلا على أساس أنه كان إنسانا يخضع للعواطف البشرية ، وما تزدخر به من حب وكره ، ورضا وغضب ، وثبات واضطراب ، وقوة وضعف، وأمل ويأس ، وإقدام وإحجار . وهل ترون معي أيها المسلمون جميعا ، بل أيها البشر جميعا ، لو أن النبي (ﷺ) كان ملكا من السماء أكان يقع من نفوسنا البشرية موقعه؟ إن عظمة النبي الحقيقية هي في أنه إنسان مثلنا ، يخضع لما نخضع له من العوامل النفسية وظروف البيئة . ومع ذلك يسمو ، فيتغلب بقوة نفسه ، وهي نفس بشرية، على مالا نستطيع نحن أن نتغلب عليه ثم يسمو، فيقهر بعظمة نفسه ، وهي نفس بشرية ، ما ننهزم نحن أمامه .خذوا جبريل والنبي هذا ملك كريم وهذا نبي عظيم فلو أنبئتهم أن جبريل نظر إلى إمرأة جميلة فلم تقع من نفسه شيئا ، واعتصم منها أكنتم تندهشون؟ اكنتم ترون في هذا ما يدل على عظمة نفس وقوة وإرادة ؟ كلا فجبريل ملاك من السماء لا شأن له مع البشر ولكن إذا أنبئتم أن النبي (ﷺ)نظر إلى أمرأة جميلة بعين الرجل؛ فأثرت المرأة في نفس الرجل ولكنه اعتصم منها ، اما كنتم ترون في هذا دليلا على قوة الارادة وعظمة النفس؟ لماذا نحاول إذا أن نخفي أقوى ناحية في عظمة النبي – عليه السلام – وهي ناحية البشرية فنسبغ عليه ثوبا من القدسية يكاد يخرجه عن أن يكون إنسانا مثلنا، ويكاد يجعله آلة تحركها يد الله، فلا تتحرك إلا إذا حركت؛ وليس لها إرادة ولا وعي؟ كلا أيها الناس، فالنبي رجل منا، تركه الله إلى نفسه، بعد أن أيده بروح من عنده، وأنزل عليه وحيه، فقام بعمل وأخذ يبني ويشيد، وهو في عمله وفي تشييده ينفذ وحي الله، لكن بيده ويلبي كلمة الله لكن بقوته، ويمكن لدين الله، لكن بجهوده .

بقى أن الإسلام دين الأرض كما هو دين السماء. فالإسلام لا يبشر بنعيم الآخرة وبجنات عدن تجري من تحتها الأنهار فحسب بل هو يبشر أيضا بتاج كسري وإيوانه وعرش قيصر وسلطانه يبشر بالأرض تدين لسلطان المسلمين. ويستخلف الله فيها من عباده الصالحين. “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات. ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم. وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم. وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا” فالمسلم له عين إلى الأرض وعين إلى السماء . يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا . ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا .

والإسلام دين القوة . بقدر ما هو دين العطف والرحمة . مائة تغلب الفا . ثم مائة تغلب مائتين . ولا يرضى الله عن المائة التي تغلب المائتين إلا بعد أن يصفها بالضعف . فالمسلم القوي يعدل عشرة . هذه هي القوة المادية . وأما القوة المعنوية فقوة العقل وقوة الخلق . فالمسلم يطلب الله منه أن يجيل عقله فيما حوله . وأن يتدبر خلق السماوات والأرض وأن يتدبر خلق نفسه . وأن يؤمن عن تفكير . وأن يجعل العقل المرشد الهادي الذي لا يضل ” إن في خلق السماوات والأرض . واختلاف الليل والنهار . والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس . وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض . لآيات لقومن يعقلون ” والمسلم لا يتم إسلامه حتى يكون قويا في خلقه . والإسلام هو دين ” الصابرين والصادقين والقانتين . والمنفقين . والمستغفرين بالأسحار “دين” الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا ” . دين ” الذين لا يشهدون الزور . وإذا مروا باللغو مروا كراما ” . دين ” عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا .وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ” . دين ” للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله . لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف . تعرفهم بسيماهم . لا يسألون الناس الحافا ” . اليس الإسلام هو دسن الرجولة الحقة ؟ بلى . وقد بعث النبي ليتمم مكارم الأخلاق .[2]      

الإحالات والمراجع

[1] مقال في مجلة الذكرى (التي كانت تصدرها جمعية الهداية العراقية ” نشر في عددها الصادر سنة 1936 بمناسبة المولد النبوي الشريف .

[2] إن اعجاب السنهوري بشخصية رسولنا صلى الله عليه وسلم وتعلقه بسيرته يظهر في مواضع كثيرة من مذكراته المنشورة في كتابنا بعنوان ” عبد الراوق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية ” ويكفي أن نشير إلى أهم هذه المواضع في الكتاب المذكور ويخيل القارئ عليه وهي ما يلي :

1- المذكرة رقم ( 72 ) التي كتبت بمدينة ليون في 23/3/1923 ص 71 يعنوان ” رد على من تهجم على سيدنا محمد ” .

2- المذكرة رقم ( 134 ) التي كتبت بندينة باريس في 10/11/1923 ص 130 بعنوان ” دراسة السيرة النبوية ” .

3- المذكرة رقم ( 271 ) التي كتبت بمدينة القاهرة في 13/7/1942 ص 206 بعنوان ” الاعجاب بالنبي صلى الله عليه وسلم ” .

4- المذكرة رقم ( 300 ) التي كتبت بمدينة دمشق رفي 5/2/1944 ص 222 بعنوان ” أمله في أن يكتب سيرة المصطفى ” .

5- المذكرة رقم ( 317 ) التي كتبت بمدينة دمشق في 4/4/1944 ص 238 بعنوان ” خمسة كتب يدعو الله أن يمكنه تأليفها ” .

6- المذكرة رقم ( 337 ) التي كتبت بمدينة القاهرة في 15/6/1947 ص 253 بعنوان ” انسانية الرسول صلى الله عليه وسلم ” .

7- المذكرة رقم ( 388 ) التي كتبت بمدينة القاهرة في 15/ 5/1954 ص 283 ” الدعاء ” .

ويظهر من هذه المذكرات أنه كان يأمل في أن يتمكن من كتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وخاصة المذكرة رقم ( 300 ) التي كتبها في دمشق في 5/2/1944 وكذلك المذكرة رقم ( 317 ) التي كتبها في نفس العام في دمشق أيضا بتاريخ 4/4/1944 وفي كلا المذكرات يعلن عن نيته في أن يكتب سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم . 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى