المفارقات المتقابلة في كتاب “رنين القيد”
فراس حج محمد| فلسطين
تتألف المادة الأصلية لكتاب “رنين القيد” من 28 نصاً ذاتيا حول معاناة كاتبها عنان الشلبي داخل عدة سجون من سجون الاحتلال، وتمتد إلى عشرين عاماً، بدأت عام 2002، عام الاعتقال، وانتهت في 11/5/2022 وهو تاريخ اغتيال الصحفية شرين أبو عاقلة، وقد التزم في الكتاب بإيراد الأحداث حسب تسلسلها التاريخي ووجوده المكاني، ولذلك شكلت هذه “النصوص” معاً ملامح من سيرة ذاتية اعتقالية تخص صاحبها أولا وأخيرا وتدور حول ذاته ومعاناته، وقلّما أحال القارئ إلى أحداث كبرى. كما يفعل كتّاب السيرة في العادة.
وهذا الكتاب من الكتب التي صدرت مؤخراً وفيه تصور نفسي ذاتي عن أحد أبناء الحركة الأسيرة المناضلين، وهو من ذوي الأحكام العالية، وينتمي إلى جيل من الكتاب الأسرى الذين ولدوا في السجن كتّاباً، وكان لتجربة الاعتقال أثرها الكبير في تشكيل وعيه بأهمية الكتابة، وتنطلق من هذه “الحاجة الماسة لابتكار طرق إبداعية ينجح عبرها هذا الأسير في خلق جسور أثيرية تبقيه على تواصل ولو شحيح مع عالمه الذي سلخ عنه”.
ومع أن الكاتب في المقتبس السابق يتحدث عن غير الكتابة إلا أن الكتابة تأخذ هذا الدور أيضاً، ولذلك يحرص على أن يكتب تجربته الخاصة بإمعان نظر ليكون “على تواصل مع عالمه الذي سلخ عنه”، وما غير الكتابة لها هذا التأثير، وهذه الفاعلية؟ هذه الفاعلية التي يجدها الدارس في كل ما أنتجه الأسرى من كتب، فما الجديد إذاً في هذا الكتاب ليكون مختلفا عن غيره من كتب الأسرى؟
دائما أسأل نفسي هذا السؤال بعد قراءة أي عمل من أعمال الأسرى، وخاصة الأعمال النثرية، فما أتوقعه أجده في رسم معالم السجن والسجان، ومعاناة الأسير وزملاء الأسر، ولا يكاد يجد القارئ اختلافا بين أسير وأسير في رسم هذه العوالم، فالعالم هو نفسه، ولا اختلاف إلا في تنويعات التصوير والقصّ وحرارة التجربة؛ لأن التجربة واحدة، ويكاد يكون الأسرى ذاتهم ينطلقون من وعي فكري ولغوي ونقدي واحد، يجعل كتاباتهم متشابهة إلى حد التطابق أحيانا في الأفكار، وفي طريقة التعبير عنها، ومع كل ذلك إلا أنّ “ميزة” خاصة تميّز كل عمل عن غيره، هذه الميّزة قد تكون مخفية أو ظاهرة، وفي حالة الأسير عنان الشلبي في كتابه هذا جاءت مستقاة ومستلّة من عموم كتابه، ولا تظهر إلا بالمزيد من التأمل، لأنه كتب “حكايته” وروى “قصته” على طريقته الخاصة، ومنطلقا من وعي بالذات وأهميتها قبل الوعي الوطني والإنساني والديني، وبناء على ذلك فإن هذا الوعي الذاتي الخاص المقترن بصنع المفارقات الحادة أهم ما يميز نصوص الأسير عنان الشلبي.
تبدو المفارقة واضحة منذ العنوان الذي اتخذه للكتاب؛ فجعل الرنين مضافا إلى القيد بتركيب لا يحمل إلا الوجع والمرارة، فالرنين صوت يطلق على سجع الحمامة الحزين الهادئ، وعلى صوت الصياح والبكاء، وهو أيضا صوت المعدن، أو صوت الوتر، فإذا ما اقترنت كل هذه المعاني مع القيد، أصبحت التسمية ذات فاعليات متضادة في دلالتها كتركيب إضافي، يصنع مفارقته الموجعة، قد يعني الحزن مع الهدوء كسجع الحمامة، وقد يعني البكاء والصياح أيضا، وما يدل عليه من اضطراب ووجع وألم وحسرة وفعل خارجي التأثير عكس الحزن الهادئ، وكلا المعنيين ظاهر في الكتاب، فللصوت هذه الدلالة النصية المتعاكسة، فثمة حزن هادئ يتسلل إلى أعماق النفس، وثمة معاناة كبرى لها أوجاعها القاتلة كذلك. وعليه، فإنّ هذا الكتاب ناضح بالتجربة الإنسانية، إذ يحضر الوطن والسجن كخلفية للأحداث التي تضيء عليها النصوص.
ويختار الكاتب لأفكاره اللغة السهلة الدالة على تلك الأفكار، وخاصة الجانب الوجداني منها، سواء المتعلقة بالذات وما يخصّها، أو بالآخر وما يتعلق به، وقد انعكست هذه الثنائية الضدية في هذا التقابل بين الآنا والآخر، فيعمق الفرق بين المحتل وأدواته القمعية، وبين الضحية وأدواتها في النضال ومواجهة تلك الأدوات والأساليب القمعية، وكانت أكثر من كونها “مقاومة بالحيلة” إلى مقاومة بالقوّة وبالفعل، وتوظيف كل ما هو متاح وممكن لهذه المقاومة، لتبرز المفارقة الثانية التي يبني عليها المؤلف كل نص من نصوص الكتاب، وما آلت إليه النصوص معاً في تشكيلها كتاباً مطبوعا يحتوي بين دفتيه عناصر هذه المفارقة، هذه المفارقة التي لم يخلُ منها أي كتاب من كتب الأسرى الإبداعية، كأنها الفلسفة العامة التي تحكم إبداع الطرف المقهور المغلوب على أمره الذي يشعر بالاضطهاد، وتأبى له كرامته الإنسانية والوطنية الرضوخ لإرادة من يمثل هذه الأدوات القمعية القاهرة.
صحيح جداً أن لكل أسير قصة وحكاية- كما يكتب المحامي الحيفاوي حسن عبادي في مقدماته عن كتب الأسرى، وأعاد تأكيده في مقدمته لهذا الكتاب- هذه الحكاية لا بد من أن يحكيها الأسرى، بعيدا عن صورة الخلفية التي يتأطر من خلالها إبداعاتهم النثرية، وتمتد أحيانا إلى الشعرية، وربما انعكست أيضا على تكريس الأسرى جهدهم في الأبحاث العلمية لدراسة ظواهر الاعتقال وقضاياه، كما فعل الأسير الكاتب أمجد عواد على سبيل المثال في كتابه البحثي، ذي الطابع الأكاديمي “دراسات من الأسر”.
حقق الأسير الكاتب عنان الشلبي في هذا الكتاب “رنين القيد” هذه المقولة “لكل أسير حكاية وقصة مختلفة”، هذه الحكاية ساعد الاحتلال على تشكل جانب منها، أما الجانب الآخر فهو الجانب البعيد عن الاحتلال والمتعلق بحياة الأسير وأحلامه وأسرته، وانكساراته وآلامه، وعلى الرغم من بُعد الاحتلال عن هذا الجانب إلا أنّ له يداً خفيّة في صنعه، بوصفه قدرا لا ينفك عن العبث بمصير العائلة الفلسطينية جميعها، وليس الأسير فقط، ما يجعل الأسر قضية “اجتماعية” و”عائلية” وليس قضية سياسية ونضالية فقط، وهذا ما استطاع عنان الشلبي تأكيده في نصوصه هذه.
هذا الجانبان المشار إليهما أعلاه واضحان جدا فيما كتبه عنان في هذا الكتاب؛ فالصورة الأولى لعنان هي صورته أسيراً، وهذه يتشابه فيها مع كل أسير، حتى ليكاد يكون كل كاتب منهم ناطقاً بمعاناة الجميع، ولا اختلاف إلا في ترتيب الأحداث، وحرارة السرد وانفعالات الكاتب ذاته، وأسلوبه الذي يختاره، فعنان كما غيره تحدث عن التعذيب وعن العزل الانفرادي وعن التحقيق وعن معاناة الأهل في الزيارات، وعن الشوق واللوعة والحنين، وعن إضراب الأسرى، لكنه لم يتعمق كثيرا في هذا الجانب، فلم يكن ظاهراً على حساب المعاناة الشخصية، وحسناً فعل، فقد وضع نفسه في هذا الكتاب ضمن سياق الحركة الأسيرة في المعاناة، لكنه كان معنيا بإبراز قصته وحكايته هو في الدرجة الأولى، ليتمحور الحديث حول الذات ومعاناتها الفياضة بالمشاعر، ولتبرز الصورة الأخرى للأسير عنان الشلبي.
الصورة الثانية- إذاً- هي تلك الصورة التي جعلت حكايته المفتتة على (28) نصاً سرديا، ذاتيا، أشبه بالسيرة الذاتية، ينحو فيها منحى المقالة كأسلوب كتابي، وبالتالي يختار عنان أسلوبا مغايرا لكثير من الكتاب الأسرى الذين يقبلون على الرواية ليكتبوا قصتهم، وليهتموا بعالم السجن المادي والروحي، أما عنان فكان تركيزه على الناحية العاطفية الذاتية وهو يتحدث عن أمه وإخوته وأخواته وبنات أخته وعميه الراحليْن، وأصدقائه، وفرحته بهم؛ وقد استطاع أن يهاتفهم في حضرة أمه، ويشاركهم، ولو وجدانيا أكلة مقلوبة، كما كانوا يفعلون قبل أن يحدث ما حدث من تشتت بفعل عوامل متعددة، كان الأسر واحدا من أهمّ أسبابها، ولكن المفارقة التي تحدث أن يكون الأسير والمعتقل سببا في إعادة وصل الأيام الخوالي، ولم يفت الشلبي أن يلتفت إلى هذه المفارقة: “حزنتُ لأن هؤلاء الأصدقاء بالكاد يلتقون معاً، أو حتى يتواصلون مع بعضهم البعض، وفرحت لأن مبادرتي هذه أعادت لمَّ هذا الشمل الذي فرّقته الأيام بأعبائها”.
في هذه الصورة تحضر التفاصيل الإنسانية الصغيرة والهامشية للإنسان العادي، لكنها ذات دلالة نفسية كبيرة لدى الأسير، فمعاناة الأم الممتدة لعشرين عاماً كانت مختلفة في تفاصيل معاناة الأمهات، هذه الأم التي كانت تعرّض نفسها للأخطار من أجل زيارته، رغما عن كل شيء، ولم يمنعها من الزيارة إلا قوانين الاحتلال الجائرة والمرض اللئيم المقعد لها عن هذه المهمة البطولية في نظر ابنها الأسير عنان.
للأم في هذا الكتاب مساحة عاطفية كبيرة، بدءا من الاعتقال وأسبابه، وما جر ذلك من معاناة، ومن ألم نفسي وتعذيب ضمير للأسير ذاته، فيعبر عن هذه المفارقة المحزنة، إذ كيف يفكر باستشهاده في يوم عيد الأم ليهديها هدية مميزة؟ هذا شكّل أمرا لافتا في إحداث المفارقة التي تحدث عنها في الكتاب، وتعتمد هذه المفارقة على ثنائيات لا حل لها، وربما لا نجرؤ على أن نصرّح بها. فهل فعلا هي هدية تفرح الأم بها عندما يستشهد ولدها؟ لا أعتقد ذلك، لكن الأسير لا يفكر بعقل أمه وقلبها، وإنما أراد أن يقدم لها شيئا يجعلها فخورة به. وهل استشهاده بطريقة “رائعة”- على الرغم من أنه فخر لأي أمّ- علامة مميزة تجعلها فرحة بهذا الاستشهاد؟
تبلغ هذه المفارقة قمتها عندما يتحول هذا الهاجس إلى مأساة كبرى، تلاحق الأم والابن مدى الحياة، فبدلا من الاستشهاد، يكون الاعتقال لمدى الحياة ما جلب لكليهما المعاناة الأبدية، وجعل يوم عيد الأم ذكرى سيئة في ذاكرة الأم تنفر منها بشدة، ومنح الأم يوما لذكرى سيئة مختلفة ومناقضة لما عليه باقي الأمهات؛ إذ أمست الذكرى كما يقول الشلبي نفسه “بالنسبة لأمي مدعاة للحزن الأخضر، وفرصة للبكاء والحسرة، ومناسبة تستعيد بها أعمق أوجاعها، وكأني أحلت يوم عيد الأم يوماً للحداد بذلك الرحيل المستمر وذلك الوجع المتجدد والمتعاقب كربيع لا تزهر به الزهور والشقائق إلا لتذكّر أمي بالفقدان اليانع”.
هذه المفارقة الأساسية التي شكلت وعي الأسير، وجعلت هذه الحادثة تسير فيه نحو العاطفة والانفعال في الكتابة الذاتية عن عالم الأب والأم والأخوة والأصدقاء، إذ تجعله هذه الحادثة مدانا أمام ضميره الأخلاقي كونه قد سبّب عذابا لأمه، كاد الأسير يعترف بهذا الذنب الذي جعله ينغرس في الصورة الأخرى، الذاتية، وتبهت صورة السجن وعوالمه القاتمة.
لهذا فقد جاء الكتاب مختلفا في حقيقته ودلالاته، وكاشفاً عن الضعف الإنساني للأسير عنان، هذا الضعف الذي قابله بقوة لافتة في مواجهة السجانين بكل السجون التي مكث فيها، وفي كل التحقيقات التي تعرض لها، وفي كل المواجهات مع السجان منفردا أو مع الأسرى، وخوضهم إضرابا عن الطعام لمدة (42) يوماً متتالية. كأن عنان الشلبي في هذه الصورة يرسم صورة أخرى تقوم على المفارقة والاختلاف بين هشاشته الإنسانية أمام ضعفه العاطفي وقوته وصلابته مع سجانيه، وهو بذلك يرسم صورتين أخريين متعارضتين له، يعبّر من خلالهما عن مفارقة بليغة دالّة ذات بعد إنساني أولاً، قبل أن تؤشر نحو البعد الوطني في مقارعة محتل مغتصب لا يرحم أمّا ولا أبا ولا طفلا صغيرا، وكان على استعداد أن يغتال صحفيّة جهارا نهارا أمام عين الكاميرا، فيعبّر الشلبي عن هذا الحدث بهذه المفارقة المحزنة الموجعة “وثقت هذه المرة رحيل الحياة عن الشهداء، وثقت رحيلها كسبق صحفي وكخبر عاجل هزنا بقسوته”، فأي مفارقة أعظم من هذه المفارقة التي تشكلت باغتيال شيرين أبو عاقلة، ووثقها “عنان الشلبي” في كتابه “رنين القيد”؟