لعنة ” المجال الحيوي” بين الإمبرياليات الشرقية والغربية

توفيق شومان | مفكر سياسي وإعلامي لبناني
أعادت الحرب الدائرة في أوكرانيا نظرية ” المجال الحيوي ” إلى واجهة الإهتمام الفكري والسياسي والميداني ، ولتفتح باب النقاش واسعا حول أحقية الدول العظمى أو الكبرى بفرض مفاهيمها ومصالحها وما تعتبره متطلبات أمنها الإستراتيجي على الدول الأقل شأنا وقوة .
رغم طغيان الحروب على تاريخ البشرية وتعدد أسبابها وأنواعها، إلا أن تبرير الحرب التوسعية وزيادة مساحات دولة كبرى وقوية ، بذريعة توفير الحاجات الأمنية والغذائية، تعود إلى العالم الألماني فردريك راتزل (1944 ـ 1905) الذي استقى مصطلح ” المجال الحيوي ” من كتاب ” أصل الأنواع ” لتشارلز داروين، ففي كتابه ” الجغرافيا السياسية ” يقول راتزل إن الدولة تشبه الكائن الحي، من حيث التطور والنمو ، وحين تبلغ كمال قوتها ونموها تتطلع إلى أراضي الآخرين لضمها بهدف الحفاظ على وجودها وقوتها .
هذه الذريعة لإستخدام القوة وتبرير الغزو والتوسع ، سيتحدث عنها أدولف هتلر بإسهاب وإطالة في كتابه “كفاحي” ، ومما يقوله ” إن حدود الدول من صناعة البشر وتبديلها يتم على أيدي البشر ، وبالنسبة لألمانيا فالطريقة المثالية التي يمكن اتباعها تقوم على إحراز مدى حيوي في القارة الأوروبية بالذات ، والشرط الأساسي للوصول إلى مستوى الدول العظمى هو في إحرازها المدى الحيوي الذي يؤمن لشعبها مقومات البقاء ، ذلك أن الإنتصارات العسكرية تكون سهلة على الدول ذات المدى الحيوي الضيق ” .
وبالإعتماد على هذه التبرير النظري ، اجتاح الجيش الألماني بولندة في الأول من أيلول / سبتمبر 1939 ، وتلا هذا الإجتياح اجتياحات أخرى ، أفضت في النهاية إلى نشوب الحرب العالمية الثانية التي سقط في قبور كوارثها وأهوالها عشرات ملايين القتلى .
وتحت ظلال التبرير إياه، خرجت الولايات المتحدة الأميركية بعد اكتمال قوتها الإمبريالية في الحرب الكونية الثانية لتتحدث عن نظرية ” أحجار الدومينو ” التي لا تفترق قيد أنملة عن نظرية ” المجال الحيوي ” بل إنها تعبير متجدد لها ، فالولايات المتحدة اعتبرت أن سيطرة الشيوعيين على دولة ما في منطقة معينة ، ستؤدي إلى سقوط دول أخرى في المنطقة ذاتها تحت النفوذ الشيوعي ، وبذلك يتهدد المجال الحيوي للولايات المتحدة ويتهدد معه أمنها الإستراتيجي، وبناء على ذلك ، كان التدخل الأميركي في فيتنام والهند صينية في عام 1964، وكذلك في الطرف الجنوبي من القارة الأميركية ، وفي العالم قاطبة ، وهذه النظرية ، كان كشف عنها الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور في خطاب تاريخي في الأول من نيسان / ابريل 1954 ، قال فيه :
” إنظر لأحجار الدومينو واطرق على أحدها ، وانظر ماذا سيحدث للحجر الأخير ، حتما سيسقط بسرعة كبيرة ، في حال تخلينا عن فيتنام وسيطر الشيوعيون عليها، فذلك سيؤدي إلى انتصار الشيوعيين في لاووس وكمبوديا وتايلاند والهند واليابان والفليبين وإندونيسيا و أوستراليا ونيوزيلندا، وعواقب ذلك على العالم الحر ، لا يمكن حصرها وتقديرها “.
بطبيعة الحال لم يكن الشرق الأوسط ولا المنطقة العربية بعيدين عن نظرية ” أحجار الدومنيو” وما اعتبره الأميركيون ” مجالهم الحيوي” ففي السادس من كانون الثاني / يناير 1957 جاء عنوان الصفحة الأولى لصحيفة “الحياة ” اللبنانية الذائعة الصيت آنذاك ، كالآتي ” إيزنهاور لن نسمح ببلشفة الشرق “وفي التفاصيل ما يلي” أدلى الرئيس ايزنهاور ببيانه المنتظر عن سياسته والمعروف بمبدأ ايزنهاور بصدد الشرق الأوسط ، وذلك في رسالة وجهها إلى مجلسي الشيوخ والنواب ، طلب فيها إعطاءه سلطة مسبقة لإستخدام الجيوش الأميركية في الشرق الأوسط إذا وقع اعتداء عليها “.
وثمة منعطفان تاريخيان في ذرائع وسياسات الولايات المتحدة و” مجالاتها الحيوية ” لا يمكن إغفالهما ، الأول يتمثل في محاولات إسقاط نظام الرئيس فيديل كاسترو في كوبا عام 1962، والثاني يتعلق بإسقاط النظام الديموقراطي في جمهورية تشيلي عبر انقلاب عسكري دموي أطاح بأهم رموز “الإشتراكية الإنسانية ” الرئيس المنتخب سلفادور الليندي عام 1973 ، والعودة إلى تلك المرحلة ، تنطوي على فائدة إنعاش الذاكرة :
ـ في عام 1962، اندلعت أزمة ” الصواريخ الكوبية ” بسبب اعتبار الولايات المتحدة أن كوبا تدخل في نطاق مجالها الحيوي ، ووقف العالم آنذاك على حافة يوم القيامة جراء اقترابه من احتمالات نشوب حرب نووية ، وعكست صحيفة ” الحياة ” في الثالث والعشرين من تشرين الأول / اكتوبر1962 مخاطر تلك الأزمة بهذا العنوان ” فرضت أميركا الحصار الحربي على كوبا ” ونقلت ” الحياة ” ، عن الرئيس جون كيندي قوله في خطاب عاجل موجه إلى الشعب الأميركي ” إن تكديس الأسلحة الروسية في كوبا غدا ذا طابع هجومي ، وأميركا ستمنع أية سفينة تحمل أسلحة هجومية إلى كوبا ، وأن أميركا تعتبر إطلاق أية قذيفة على أي من دول أميركا اللاتينية اعتداء من الإتحاد السوفياتي على أميركا نفسها، وهذا الإعتداء يقتضي ردا انتقاميا ضد روسيا نفسها “.
ـ في عام 1970 ، وصل سلفادور الليندي إلى سدة الرئاسة في جمهورية تشيلي عبر عملية انتخابية مشهودة ، وبما أن الولايات المتحدة ترى في تشيلي موقعا من مواقع مجالاتها الحيوية ، عملت على تأليب قطاعات الإقتصاد ووسائل الإعلام على الإتجاهات السياسية والإصلاحية للرئيس الليندي فصووره شيطانا ، وفي الحادي عشر من تشرين الأول / أكتوبر 1973 قاد الجنرال اوغيستو بينوشيه بالتعاون مع وكالة الإستخبارات الأميركية (CIA)‏ انقلابا عسكريا دمويا أدى إلى مقتل الليندي ، وقال الإنقلابيون العسكريون إنه انتحر ، وفي اليوم الثاني بعد الإنقلاب ( 12 ـ 10 ـ 1973) خرجت صحيفة ” نيويورك تايمز ” متبنية ازعومة الإنتحار ، وجاء عنوانها الرئيس وفق المضمون التالي :
Allende out, reported suicide Marxist regime in Chile falls in armed forces’ violent coup  
في المقابل، لم تكن السياسات الخارجية السوفياتية ـ الروسية طوال الحقبة الحمراء ، سوى وجه آخر لتطبيق مفهوم ” المجال الحيوي ” ، وإلى آخر النماذج التوسعية في المرحلة الشيوعية والمتمثلة بإجتياح أفغانستان عام 1979 ، هناك نموذجان فائقا السوء، الأول في هنغاريا والثاني في تشيكوسلوفاكيا ، وخلاصتهما على الشكل التالي :
ـ ” ربيع بودابست ” : في الثالث والعشرين من تشرين الأول / اكتوبر 1956، شهدت جامعات وشوراع العاصمة المجرية بودابست احتجاجات صاخبة على تردي الأوضاع الإقتصادية المترافقة مع قبضة سلطوية غليظة وعنيفة ، وإثر ذلك جرى تعيين إيمري ناج رئيسا للوزراء ، فتماهى مع مطالب المحتجين ، وعمل على تشكيل حكومة متعددة الأطياف السياسية وأتاح هامشا واسعا للحريات العامة وتجاوب مع دعوات المحتجين للخروج من حلف ” وراسو ” وإعلان المجر دولة حيادية على غرار النمسا ، إلا أن هذه المطالب رأتها موسكو ضربا في مجالها الحيوي ومسا بأمنها الإستراتيجي ، فأعلنت النفير العام وأرسلت دباباتها المدعومة جوا إلى بودابست في الرابع من تشرين الثاني / نوفمبر لإسقاط النظام الجديد المخالف لتوجهاتها ، وهذا ما حدث بالفعل ، إنما بعد سقوط آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى وتهجير ما لا يقل عن 200 ألف شخص إلى الخارج ، وبعد سنتين تم إعدام ايمري ناج بتهمة ” الخيانة العظمى “.
في كتاب ” ثورة هنغاريا ” الذي صدر في نيويورك عام 2006 ، وشارك فيه اريش ليسينغ، المصور الذي عايش عملية اجتياح بودابست ، وجورجي كونراد الروائي من اصل هنغاري ، تفاصيل مرعبة عن عمليات الإعدام الميدانية التي نُفذت بالثائرين على سلطة الكرملين ، وهي المشاهد نفسها التي تكررت في تشيلي عقب الإنقلاب الأميركي على سلفادور الليندي.
ـ ” ربيع براغ ” : بين الأعوام 1957 و1968 ، تولى أنطونين نوفوتني منصب رئاسة الدولة في تشيكوسلوفاكيا ، غير أنه كان الحاكم الفعلي للبلاد منذ عام 1953 لكونه الأمين العام للحزب الشيوعي المتفرد بالسلطة ، وفي مطلع العام 1968 كانت الأحوال المعيشية في تشيكوسلوفاكيا قد انحدرت إلى منزلق خطير ، فتنحى نوفوتني عن السلطة على مضض ، فخلفه ألكسندر دوبتشيك ، وعلى عجل قام الأخير بتنفيذ مجموعة من الإصلاحات الإقتصادية والسياسية من ضمنها التساوي بين المكونين الوطنيين في بلاده ، أي تشيكيا وسلوفاكيا ، وأعلن عن انطلاق ” طريقة خاصة للإشتراكية في تشيكوسلوفاكيا .
لم يرق هذا الأمر لموسكو ، فقررت اجتياح تشيكوسلوفاكيا بالتعاون مع أعضاء آخرين من حلف ” وراسو ” في العشرين من آب / أغسطس 1968 ، ولما انتهت العمليات العسكرية كان دوبتشيك في موسكو قد غدا معتقلا ، وجرى إجباره على توقيع معاهدة عسكرية قضت بإلغاء الإصلاحات مقابل انسحاب الجيوش الحمراء من البلاد ، ولكن مع تجدد الإحتجاجات في آذار / مارس 1969، دفعت القيادة السوفياتية دوبتشيك إلى الإستقالة من موقع الرئاسة ، ليصار إلى تعيينه سفيرا في أنقرة لسنة واحدة ، ومن ثم جرى استدعاؤه ليتولى الإشراف على إدارة الغابات في مدينة براتيسلافا عاصمة جمهورية سلوفاكيا الحالية . من رئيس للجمهورية إلى مشرف على إدارة الغابات والسبب : المجال الحيوي .
في القارة الأسيوية ، خطت اليابان منذ آواخر القرن التاسع عشر نحو التدحرج إلى نظرية ” المجال الحيوي ” ، فبطشت كما بطش غيرها من الإمبرياليات بجيرانها وجوارها، فكانت الصين أولى ضحايا البطش الياباني في عام 1895 ، وسبقتها كوريا عام 1894 حين غزتها اليابان ، وحين حاولت روسيا القيصرية التصدي للتوسع الياباني الإمبراطوري ، هزمتها اليابان في حرب العام 1905 ، مما دفع الطرفان إلى صياغة حدود متفق عليها للمجال الحيوي لكل منهما في عمق الصين وفي آسيا العميقة .
ومع تنامي القدرات العسكرية اليابانية ، والنهضة العلمية والإقتصادية ، وارتفاع عدد السكان في العشرية الأولى من القرن العشرين الماضي ، راحت اليابان توسع مجالها الحيوي على إيقاعات الشعار القائل ” آسيا للأسيويين ” ، فرسخت نفوذها في الصين عام 1905 ، وتوسعت في منشوريا في عام 1931، وفي عام 1937 هاجم اليابانيون مدينتي بكين وشنغهاي ، واحتلوا تايوان ، وبحلول العام 1938 كان نصف الأراضي الصينية تقريبا تحت السيطرة اليابانية ، وفي عام 1941 اجتاحت اليابان الفليبين واندونيسيا وفيتنام وماليزيا وسنغافورة وبورما .
عن المجال الحيوي الياباني ، يُنسب إلى وزير الخارجية اليابانية الكونت ايشي قوله في عام 1915 ” : لا تطمئن اليابان إلى وجود جيش صيني قوي ، ومن حق اليابان أن تقلق من قوة اقتصادية صينية ناشطة سوقها المحلية حوالي 400 مليون شخص وأكثر “.
هنا سؤال : ماذا تقول اليابان عن الصين الحالية ؟
في الختام ما يلي :
بصرف النظر عن ملايين الضحايا البشرية التي خلفتها كوارث نظرية ” المجال الحيوي ” شرقا وغربا ، قد يكون مهما التفكر والتأمل بالآتي :
ـ شعوب أوروبا الشرقية التي أخضعها الإتحاد السوفياتي لنفوذه طوال سبعة عقود ، تميل نحو الليبرالية ولا تستسيغ السياسة الروسية ، وتهرب إلى حلف “الناتو ” لتحتمي من موسكو .
ـ شعوب اميركا اللاتينية التي اكتوت بالأنظمة العسكرية التي رعتها الولايات المتحدة ، ذو نزعة يسارية لا تنفك تعمل على الخروج من هيمنة واشنطن ، وفي أغلب العمليات الإنتخابية يفوز يساريون مناوؤن للولايات المتحدة .
أليس في ذلك مفارقة ؟
هي دعوة للتأمل قد تحتاج نقاشا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى