النخيل.. شجرة طيبة وكلمة طيبة

محمد عب العظيم العجمي | كاتب مصري
خلقنا إلفا للطبيعة، وطبعت إلفا لنا، فأيما حطّ الإنسان رحله في طرف من أطرافها يجدها مستقبلة مهيئة مرحبة، قد أعدت له من أسباب الحياة ما يحفظه، كالأم قد عرفت وليدها واستعدت لقدومه، ثم تودعه حين يولي وجهه شطرا آخر من أرضها.. وهكذا فلا يسخط على جمالها إلا ساخط محجوب قد حيل بينه وبين ما منُّ الله به من تذوق الجمال وتلمسه وتنفسه؛ فهي مصوغة لأجلنا من “كل زوج بهيج”، ومن ” حدائق ذات بهجة “، ومن “زرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد”، ومن “الزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه”.

وقد أمرنا أن نستوقف العقل، وننعم النظر في هذا الجمال المخلوق لأجلنا “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميع” ونستملي في الثمر وينوعه “انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه”.
ومنها .. هذه الشجرة الأليفة المألوفة منذ وفدت علينا في بساط الأرض أو وفدنا نحن عليها، كريمة جوادة، لم تأل عطاء أو تمنع رفدا “تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها”، لم تبخل يوما أو تشح على منكر فضلا عن مقر، ولم تستعف من جبلة العطاء رغم سخافات البشر، فاستطالت بفروعها وأخلاقها أن تدانيهم، وسمت بثمرها تحفظه من أيدي كل عابث أو طامع، واستقلت بنفسها في عالم سماوي يطل من عليائه على دنيا البشر؛ لا تخالطهم في بشاعتهم إلا أن يعتلوا امتدادها فيغنموا من ثمرها، وتغدق عليهم من بسطها، فلا تضن بلذيذ أو جميل؛ غير أنها تأبى إلا أن يسمو إليها من أردا أن ينال من ثمرها.
هذا الحارس الرابض منذ عهد بعيد، القابض على روح الفضيلة، والحافظ لعهود الفطرة الطيبة التي لا تبدل ولا تغير، ولا تمنع، بل ترمى بصخر فتلقي بأطيب الثمر، وليس لها من الاختلاط في عالم البشر إلا فقط أن تعطي وتسمو.. فقد جبلت على السمو والكبرياء والعطاء، واستنكفت عن الصغائر والتوافه، وآلت على جنسها أن يبقى قابضا على مُثُل الفضيلة، وأن يحيا شامخا ما دامت الحياة نابضة بداخلة، فإذا ما حالت عليه صروف الزمان وتسلل خط الوهن إلى أوصاله، ودب في عروقه دبيب الشيخوخة، وأصغت روحها إلى نداء الفناء، واستسلم هذا الجسد الضخم لحتميات المقادير، ألقى من عل جسده الواهن، وارتمى محتضنا تراب الأرض التي منها خرج و بها استطال، وعليها اتكأ عمره وحياته، فقدم بقيته للعطاء والمنفعة كما قدم من قبل ثمره وعرجونه طائعا راضيا.
هذا النموذج الأشم الذي يشرفه القرآن العظيم بأن يضرب له أروع المثل ـــ ويا له من شرف ومثل ــ شجرة طيبة وكلمة طيبة.. الثابتة الأصل السمية الفرع المكثرة العطاء، المنضودة على موائدنا زاهية ناصعة في رمضان وغير رمضان، والطعمة السائغة الطاعمة في أسفارنا ومقامنا، الرائعة الملمس والمطعم والمخبر والجوهر، الممتدة الأثر في الناس في الألفة والتراحم والتواد، الوارفة الظلال البهية الجمال، الجيدة للقانع والمعتر، والغادي والرائح طالما مر بظلالها.
هذه الشجرة الرابضة في بيداء العرب منذ فجر التاريخ أو قبل أن يكون التاريخ، ترقب من بعيد، مشاركة لهم في الكرم والجود شاهدة لهم أو عليهم في الشجاعة والفصاحة، والفظاظة والجهالة، تفيض على أكثرهم تمرا وطعما ولا تنظر حظا لها منهم، إلا أنهم لم يكونوا لينكروا جمايل الجود ونبل العطاء وقد امتازوا بالوفاء حتى وفَّى بعضهم لشيبه أن يفارقه لو يعود إلى الشباب فقال:

خلقت ألوفا لو رددت إلى الصبا

لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
فكيف الوفاء لهذا الصاحب والأم والحارس والحافظ، الذي لم يغيره تقلب الزمان، ولا يزيده لهيب الصحراء، ولفحات الهجير، ورسف الرمال، وقسوة الريح، وشح الماء، وقسوة الحياة إلا استواء في الثمر، وحلاوة في المذاق، وثباتا في الأرض، وإصرارا على البقاء، وإمعانا في العطاء، وتفيئا في الظلال، وطيبا في الذكر.. فهل ينسى العربي ذلك وهوالوفي؟.
يقول زهير:

وهل يُنبت الخطيّ إلا وشيجُه

وتنبت في منابتها النخل
وهذا دليل على كرم الأصل وطيب الفرع حيث تأبى النخل أن تنبت إلا في أرضها ، ومنابتها التي ألفتها ،كما تصنع الرماح من أعوادها المعروفة المعدة لها خصيصا.
ويقول ابن الرومي:

ألذٌّ من السلوى وأحلى من المنُّ
وأعذب من وصل الحبيب على الصدَّ
انظر كيف جعلها ألذ من وصل الحبيب وهو الذي لا يعدل به وصل، بل أكثر من ذلك وهو الوصل بعد الهجر .. فأي عذوبة تلك وأي مديح؟!!
وأما أبونواس فيقول: مشبها لها بالقلائص (النوق)كما يشبهها في عطائها الثمر بالنوق حين تدر لبنها على أكف الحالبات، وهذا إمعانا في الجود والكرم.

كرائم في السماء زهين طولا

ففات ثمارها أيدي الجناة
قلائص في الرؤوس لها فروع تدر على أكف الحالبات
ولما أقضت الغربة مضاجع (صقر قريش) في الأندلس وآلمته عذاباتها، لم يجد من يستأنس به من وحي بلاده إلا هذه النخلة العربية الأصيلة، فبعث من يحملها إليها من بادية العرب، فأقامها، ثم يراح ينشد لها شعرا يتأسى به عن غربته، ويقول:
نشأت بأرض أنت فيها غريبة

فمثلك في التقصاء والمنتأى مثلي

وأما في مصر.. فتاريخ وصحبة وحكايا، وقد صحبت تلكم الشجرة النيل والحقول، موفيا أحدهما لصاحبه هذا الزمان المديد، يطوفون بالقرى والنجوع، يمرون على هذه الجباه المتعرقة، والقامات المنطوية المحدودبة، والبساط المتقلب بين الأسود والأخضر كل حين، والطبيعة حين تقول كلمتها كل صباح للطير والنسيم، وتعزف نشيدها في أذن الرائح والغادي.. ويرون المدائن التي تلتهم الجمال والخضار يوما بعد يوم، وتبيد بيدها القاسية هذا القلب القروي الخضر، فتتلاشى عفوية الفطرة، وتستبدل بمدينة الأسمنت والخشب، والحضارة والتعب ــ على حد قول نزار ــ وتغيض سذاجة القرية في زحام المدينة وضجيجها، وتستبدل الغمرة بالفطرة؛ فلا يرثى لها الإنسان، ولا يأسى على ماض له تولى.. إلا النخيل حيث يبذل حياته راضيا، حين تزهق من حوله حياة القضب والزرع والشجر، ويأسى النيل فيسيل باكيا هذا الخضار المسجى، وهذا الجمال الموؤود، لا بذنب إلا أنه أتت عليه تصاريف الأقدار وحتميات التغيير.
هذه الرحلة الزمنية العميقة بين النيل والنخيل، وهذا الشجن الوفي والعشق الأبدي في الصحبة، حتى ترى النخيل يميل من عليائه فيعانق صفحة الماء في النهر أو يكاد، ويغمس أطرافه في مياهه وكأنه حين استشعر حلو مذاقه في الجذور، فهام طامعا ان يشبع أطرافه وأغصانه من حلاوة الماء وبرودته، وما أشبه هذا الشوق بحال موسى عليه السلام في الطور، فأخذته لذة المناجاة فاشرأب يطلب الرؤية زيادة في الشوق، وطمعا في الحب “أرني أنظر إليك”.
وتراه كأنه أراد أن يظلل بعريشه صحفة هذا الماء لتسيح رطبة بالغة باردة، تروي العطاشى، وتستقي الظمأى، وتبرد كل ذي كبد حرة ، ومهجة مشققة من لهفة الانتظار.. هذه الألفة لا يرقى لقدرها أو صحبتها ووفائها من الإنسان إلا قليلا، فإن وده يتغير، وصحبته ما تكاد تتشوب أو تتعكر، أو تستبدل بجديد فيه مصحلة أو منفعة.. لكن تظل قصة هذه الصحبة ملحمة في تاريخ المصريين، لا تخلو منها الحكايات ولا الأغنيات ولا الشعر ولا الأمنيات.
يغني محمود حسن اسماعيل مع عبدالوهاب للنيل والنخيل في (مسافر زاده الخيال):
سمعت في شطك الجميل

ما قالت الريح للنخيل
يسبح الطير أو يغني

ويشرح الحب للخليل
وأغصن تلك أم صبايا

شربن من خمرك الأصيل
فياترى .. ماذا قالت الريح للنخيل؟!! وما هذا الحديث الذي ما زال مضطربا تارة، وساكنا تارة، وهائما أخرى؟! حديث الريح والنيل والنخيل!!
وهل تستمر قصة هذا الوفاء بين الريف والنيل والنخيل ممتدة مع الأغنيات والأمسيات، أم يأتي عليها ما أتى ما قبلها، من تلكم المدنية الحاقدة المفرقة، التي لا تعرف العهود ولا القيود، ولا عرفت مذاق الصحبة مع التاريخ والأيام، ولا عناق الأحبة ومطاولة الألفة، وكرامة المعاشرة، ووفاء الخليل للخليل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى