مسرحة القصيدة في ديوان: مسافات الماء وجرار المعنى للشاعر مسلم عباس الطعان

أ.د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

 إن الشاعر الحديث (مسلم الطعان)  يهدف إلی أن تکون قصيدته إبداعاً بکراً ,و من ثم فهو شديد الحرص علی أن ينظر إلی الوجود من زاوية لم يسبق لأحدٍ قبله أن ينظر إليه منها،  وأن يعالج هذه الرؤية الخاصة بطريقة فنية متفردة, في داخل نصه الشعري يبني مسرحا جماليا متخيلا, وعلى الجمهور ان يكتشف لعبته الدرامية, وشخوص مسرحه الخاص هذا, هي ليست شخوص المسرح التقليدي, بل هي قصائده بصورها, ولغتها ,ومعانيها, ويبقى الشاعر هو مؤلف النص, ومنتجه ومخرجه ,والمحرك الوحيد لخيوط مسافاته, فنراه يقول:

فصل مسافاتي أول: ما قالته النخلة عن خجل التين

وانا اقلم اغصان الحكمة

قلت لنفسي :

تجري سريعا

عليك ان تملئ جرارك

     بالمعنى …!

اشار الي بسعفة نخل

كانت ترقص فرحا بين يديه وقال :

  • كثيرا ما كنت تردد:

للنخل حديث اخر

  • قلت : بلى
  • من انت ؟ وكيف لمت بذلك ؟![1]

ومن هنا تکتسب القصيدة الممسرحة خصوصيتها ,و تفردها، و لا تکون مجرد تکرار لما سبق قوله مئات المرات بطريقة أخری, ويمكننا القول ان لكل شاعر طريقته الخاصة في التفرد والخصوصية التي تتميز بها قصيدته الشعرية الحديثة ,لتكون مؤثرة في المتلقي, وقد عبر شاعرنا الطعان عن هذه السمة المميزة في قصائده , فنراه يقول :-

  • حدثني الآن عن:
  • ما قالتهالنخلة عن خجل التين

                             –  ما قالته النخلة عن خجل التين؟

كيف عرفت بان النخلة وضعت في اذني

شيئا من أسرار التين؟![2]

اتجهت القصيدة الحديثة عند الطعان ضمن مشروعها في استئصال كل ما هو زائد وخارجي, وغير شعري الى قلب الشعر مباشرة من دون وسائط أو محطات, وبذلك تخلصت من الكثير من الأسباب التي تزيح ثلاثة أرباع الشعر خارج دائرة الشعر, ولا تعده شعرا, وتوجهت الى نبض الشعر, وجوهره, وفضائه الحقيقي [3], استطاع الطعان أن يعطينا ثنائية الفرح, والحزن,وثنائية التمني, والترجي, من خلال استخدامه الفاظ  رومانسية رقيقة معبرة عن حب الشاعر للمراة الحبيبة وهي تقنية جديدة استخدمها الشاعر الطعان في مسرحة القصيدة الحديثة لديه, من خلال الشخصيات ,والحوا, والزمان, والمكان وهو اسلوب جديد ينفرد فيه في كتابة قصائده الشعرية, فهي تتقدم مباشرة إلى تشغيل الفعل ,وإطلاق كيميائه, والى بؤرة الحركة في المشهد, وتفعيل طاقتها الإنتاجية كاملة, وتقتصد كثيرا في التشكيل إلا بالقدر الفاعل المشترك الذي يسهم في حسم جوهر العمل لصالح  شعريته, إذ الشعر في نشاطات الحركة الشعرية, وفعالياتها ها هو المعني أكثر من أي شيء آخر.

وعلى مستوى إفادته من تقانات القص ومخرجاتها السردية, فإنه يعمل بمعطياته, ويتجاوزها إلى مجال أرحب, وأكثر حيوية هو ما بعد القص إذ تغيب السردية الظاهرة لصالح سردية باطنية تعمل بإمرة  الشعرية [4],فنراه يقول :-

وهو يجر بحبال خطايا العطش رأى رجلا يتأبط كتابا

يجري منه ماء المسافات

قال له : – آن لك أن تملا جرارك

بالمعنى

– من يمطر الغيمة العاطلة؟!

قالها

واختفى خائفا :

بين خفايا الخيوط المبعثرة

من بعثر خيوط الخطايا

وطاطا رأسه

أمام عواصف جيوش العطش ؟![5]

إن القصيدة الحديثة الممسرحة تتكلم انطلاقا من مركزها البؤري المشع ولا تقول من المحيط ,والاطراف, والطبقات البعيدة, بطريقة توحي, وتوهم بأن الكلام قادم من لسان المركز الشعري المنتج, تدخل قصائد الشاعر الطعان فضاء القصيدة  الجديدة, وهي تحاول التخلص من الارث الثقيل لهيمنة, الأنا الشاعرة, وتراكماتها, وازماتها, وتتقدم على نحو أكثر عمقا وصفاء وصيرورة, وخصبا, بعد أن بددت الكثير من ممكناتها من خلال ظهورها المستلب في الحقل الشعري, الأنا الشاعرة بأنموذجها التقليدي المهيمن [6], فالابداع في القصيدة الممسرحة عند الطعان  هي القدرة على ابتكار شيء لم يوجد سابقا ,ويعتمد على مواهب الشاعر مسلم الطعان المبتكر, ومعلوماته, وخبراته دون أن نهمل محيطه الخارجي الذي يخلق المنبهات, والإيحاءات التي تربط بين قدراته الداخلية الذاتية ,والبيئة المنشطة لتنمية ما فكر به أو ما حاول خلقه, عند ذاك يخلق النص إن كان المبدع كاتبا أو شاعرا, فإن نظر إلى ماحوله كان خياله وهما شد به ذاته الشاعرة, وما يحيط هذه الذات[7] , فنراه يقول :-

فصل مسافاتي ثان: جرار الجمر المبجل

وهو يحور جرار الجمر المبجل

قال متحدثا عن سفر الأناشيد :

هم يكتبون الأناشيد

وأنا أسال الطين :

عن موسيقى الماء

كيف ارتفعت لم المسافة ؟![8]

   فالشاعر الطعان  قد يبلغ القمة من خلال الربط او التشبيه لأن الأشياء يختلف بعضها عن بعض ويشبه بعضهاعن بعض, والشاعر يربط بينهما, فإن اشتد الشبه أو العلاقة انعدمت الثناية وإذا استشرى الخلاف انعدمت الرابطة, أداته التي تبرر صنيعه هو منطلقه الذي يسمو على منطق العقل, منطق المعنى القائم على بنية رمزية واحدة باعتبار أن المعنى نشاط إنساني رمزي أداته اللغة الموصلة بين الأنا,                                                                                                                                                                           والآخر, فنراه يقول :

– لو ان في يدها يدي

لنزفت الحاني:

على رصيف تمردي

وشربت من نبضي 

ثمالة محنتي

وسكبت احزاني

بشدو منشد [9]

إن تنوع الأداوت الفنية التي يستخدمها الشاعر, و طريقة استخدامه لها، و لميل القصيدة الحديثة إلی أن تکون کياناً متفرداً خاصاً، أصبح بناء  هذه القصيدة علی قدر من الترکيب, والتعقيد يقتضي من قارئها نوعاً من الثقافة الأدبية, والفنية الواسعة, والشاعر الطعان مثقف  ثقافة عربية  من خلال اطلاعه على الدواوين الشعرية للشعراء الكبار, فضلا عن اطلاعه على القرآن الكريم ,والسيرة النبوية المباركة, و على الثقافة الغربية عن طريق الترجمة,او اللقاء المباشر بكبار الشعراء ,والنقاد

وقد تحتوي القصيدة الحديثة على الوزن, والقافية, وقد تكون خالية منهما ,المهم يحتاج الشاعر في هذه المرحلة الى التركيب الدقيق للمفردات والتراكيب الشعرية , وكذلك يحتاج إلى الثقافة الآجنبية ليطلع على قصائد, وأشعار شعراء من الغرب ليقلد, او يحاكي البعض منهم كما فعل ذلك شاعرنا شوقي عبد الأمير, فنراه يقول :-

فصل مسافاتي ثالث: ويسالونك عن حزني

كان حزينا جدا

قلت له

  • اقرافي وجهك من وجع مر

بالله عليك اخبرني

فانا ابصر قافلة من أوجاع

جبلت من ذات الطين الهاطل

جمرا غجريا يبحث عن معنى

حدق مليا في مسافة عيني وبكى

بحرقة موجوع وسار بضع خطوات

فوق خشبة مسرح حزن النص وقال

ويسالونك عن حزني[10]

 لم يكن حضور النص الآخر عند الطعان مصادفة او نتيجة عرضية لقراءات متنوعة او معارف متعددة استقاها من خلال حياته ,بل كان جزءًا لا يتجزأ من عالمه الشعري, والشخصي معا, لهذا كان استدعاؤه لنص الآخر مبنيا ليس على حب الاستدعاء او الاستيحاء, بقدر ما كان يجد على الدوام بينه وبين من يستدعي نصه اهتمامات ادبية او سياسية أو دينية مشتركة ,مع وعيه للفروقات الجوهرية بين زمنه من جهة وبين الآخر من جهة ثانية, بل ان الشاعر الطعان كان على وعي أن القصيدة الحالية معنية بربط اختيارات الشاعر الفردي الخاص بتراث تاريخي,فكان من المناسب أن يكون هذا التعبير عن هذا الاختيار, مرتبطا بتراث ادبي,وتناص ديني مع القران الكريم.

المراجع:

[1] ديوان   مسافات الماء وجرار المعنى : مسلم عباس الطعان : 80 

[2] م0ن : 81 

[3] ينظر الفضاء التشكيلي لقصيدة النثر :126 

[4] ينظر الفضاء التشكيلي :126 

[5] ديوان مسافات الماء وجرار المعنى :74

[6] ينظر الفضاء التشكيلي :126 

[7] ينظر استرداد المعنى دراسة في أدب الحداثة :103 

[8] ديوان مسافات الماء وجرار المعنى : 89 

[9] ديوان مسافات الماء وجرار المعنى : مسلم عباس الطعان :6 

[10] ديوان مسافات الماء وجرار المعنى : 91 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى