جِنين عاصمة المقاومة
نهاد أبو غوش | فلسطين
إنها ليست أكبر مدن الضفة ولا أكثرها أهمية روحيا أو سياسيا أو اقتصاديا، ولكن هذه المدينة الكنعانية القديمة التي يزيد عمرها عن أربعة آلاف وخمسمئة عام، كانت وما زالت الأكثر استعصاء وتمردا على مخططات الاحتلال، والأبرز في سيرة الفداء والمقاومة، ليس في الأسابيع والشهور القريبة فحسب، بل على امتداد قرن من الصراع مع المشروع الصهيوني. وعلى عكس ما يوحي منظرها الهادىء الجميل، واسمها المستمد من الجنان والحدائق الوارفة، كانت جنين وما زالت شوكة في حلق المحتلين.
وكما كان متوقعا، شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي صباح السبت 9/4/2022 هجوما خاطفا ودمويا على مدينة جنين ومخيمها، ما أسفر عن استشهاد الشاب أحمد السعدي الذي نعته حركة الجهاد الإسلامي بوصفه واحدا من عناصر الجناح العسكري للحركة في هذه المحافظة التي طالما وصفتها إسرائيل بأنها عاصمة “الإرهاب الفلسطيني”.
جنين ومخيمها كانا محلّ تحريضٍ مستمرّ طوال الليلة الفاصلة بين عملية تل أبيب الفدائية وبين اجتياح المخيم، وادّعت السلطات الإسرائيلية أن هدف اجتياحها كان “أخذ المخططات الهندسية” لمنزل منفذ العملية الشهيد رعد حازم توطئة لنسفه جريا على عادة قوات الاحتلال، بالإضافة لاعتقال والده ( وهو عقيد متقاعد) المتهم بالتحريض. لكن ادعاءا كهذا لا يصمد أمام الوقائع العملية، إذ لا يمكن لهدف ذي طبيعة فنّية مزعومة أن يستدعي حشد كتيبتين إحداهما من قوات النخبة التابعة للواء “غولاني”، والثانية تابعة للقوات المستعربين الخاصة المعروفة باسم “يمام”، وأن تخوض الكتيبتان مغامرة محفوفة بالمخاطر وسط غابة من المسلحين، وتحت إشراف مباشر من الجنرال كوخافي رئيس هيئة الأركان. كل المؤشرات تثبت أن إسرائيل ترمي إلى تحقيق جملة من الأهداف أبرزها طمأنة الجمهور الإسرائيلي الذي بات يشعر بفقدان الأمن الشخصي، واستعادة قدرة الردع المتدهورة، ثم توجيه رسالة للسلطة بأن عليها وقف المسلحين وكبحهم وإلا فإن إسرائيل سوف تتولى هذه المهمة بنفسها بكل ما ينطوي عليه ذلك من إضعاف للسلطة وإحراج لها أمام جمهورها الفلسطيني، علاوة على أن إسرائيل دأبت على تنفيذ عمليات كهذه من باب الانتقام، وتكبيد الشعب الفلسطيني ثمن دعمه للمقاومة واحتضانه لها، ولعل المثال الواضح على ذلك هو عملية “كاسر الأمواج” والتي تمثلت في اجتياح بعض أحياء وقرى جنين قبل أيام، وأدت إلى استشهد فلسطينيّيْن أحدهما فتى في السابعة عشرة من عمره، وإصابة العشرات ممن تصادف وجودهم في طريق القوات الغازية.
التحريض على جنين ومخيمها لم يبدأ مع عملية الشهيد رعد في تل أبيب، ولا حتى مع العملية المشابهة التي نفّذها الشهيد ضياء حمارشة في منطقة بني براك، بل تشير الإحصائيات إلى وقوع اكثر من 15 اشتباكا مسلحا في محافظة جنين منذ بداية العام الجاري، ما أدّى إلى استشهاد 12 فلسطينيا على الأقل من محافظة جنين وحدها، من دون احتساب شهداء المحافظات الأخرى.
ومع استمرار التحريض، اتخذت سلطات الاحتلال سلسلة من العقوبات الجماعية من بينها منع فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948 من دخول جنين، وإغلاق المعابر التي تربط جنين بالداخل، وتجميد مفعول تصاريح العمال والتجار، وهذه العقوبات مرشحة للتوسيع كما هي عمليات الاجتياح الخاطفة والاغتيالات مرشحة للاستمرار، لكن أوساطا عديدة تحذر الحكومة الإسرائيلية من المبالغة في الإجراءات العقابية لأنها سوف تستدرج ردود فعل مؤكدة، وقد يمتد لهيب التطورات ليشمل غزة ومقاومتها وسائر أراضي الضفة الفلسطينية والمناطق المحتلة عام 1948 في تكرار لنموذج هبة أيار ومعركة سيف القدس التي جرت في مثل هذه الأيام من العام 2021.
فما الذي يجعل جنين إذن مركزا للمقاومة الفلسطينية المسلحة على امتداد تاريخها، وهي ليست أكثر من قرية كبيرة لا يزيد عدد سكانها عن خمسين ألفا، وعدد سكان المحافظة عن ربع مليون؟
من الصعب الحصول على جواب قاطع بهذا الشأن، صحيح أن لكل من المدن والمناطق الفلسطينية الأخرى نصيبها من المقاومة والتضحيات، إذ يكفي أن يلفظ المرء اسم “غزة” حتى يقترن الاسم بكل معاني الصمود والمقاومة الأسطوريين، وكذلك لكل من مدن القدس والخليل ونابلس وغيرها من مدن الضفة إسهامها الملموس وغير المنقطع في مسيرة الكفاح الفلسطيني. لكن مجموعة من العوامل المترابطة قد تساهم في جلاء الأمر، فجنين هذه المدينة التي تقع في أقصى شمال الضفة وسط سهول فسيحة بين جبال نابلس جنوبا وجبال الجليل شمالا، ارتبطت بعدد من المحطات الفاصلة في تاريخ النضال والمقاومة أبرزها أنها كانت الميدان الذي خاض فيه القائد الشيخ عز الدين القسام معركته الأخيرة ضد قوات الاستعمار الإنجليزي في أحراش بلدة يعبد القريبة حيث استشهد وعدد من رفاقه عام 1936. ومن جنين خرج الشيخ المجاهد فرحان السعدي أحد ابرز قادة الثورة والذي أعدمته سلطات الانتداب البريطانية عام 1937 وهو في الثمانين من عمره ما يذكر بإعدام الشهيد والقائد الليبي عمر المختار. وفي صانور القريبة استشهد القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية عبد الرحيم الحاج محمد في آذار 1939، وعلى أرض جنين وفي محيطها دارت المعارك الطاحنة التي شارك بها الجيشان العراقي والأردني خلال حرب العام 1948 حيث لا زالت مقابر الشهداء حاضرة كأبرز معالم المدينة حتى اليوم.
وحديثا، كانت جنين ساحة لأبرز المعارك والمواجهات بين قوى المقاومة وجيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الانتفاضة الثانية حيث وقعت معركة مخيم جنين التي مرت ذكراها العشرون قبل أيام ودارت رحاها على امتداد 15 يوما في نيسان /2002، حيث استشهد 58 فلسطينيا بين مقاومين ومدنيين، وتكبد فيها الجيش الإسرائيلي أكبر خسائره منذ الاحتلال حيث قتل 23 جنديا بينهم 13 قتلوا في يوم واحد وأصيب العشرات من جنوده بجروح بعد أن دمروا المخيم وهدموا 465 منزلا بشكل كامل و800 منزل بشكل جزئي، وفي تعقيبه على نتائج العملية اعتبر وزير الدفاع آنذاك شاؤول موفاز الثمن مقبولا مقابل القضاء على “عش الدبابير”.
ومن جنين ومخيمها خرج المناضلون الستة أبطال عملية الهروب البطولي من سجن جلبوع في أيلول 2021، والذين تحولت عمليتهم إلى حافز كبير لتعزيز خيار المقاومة والتحرر الذاتي ولم ينل من هذه القيمة إعادة اعتقالهم والتنكيل بعد أيام من تحررهم الأسطوري.
من الأمور التي تضفي طابعا مميزا على جنين طبيعة القوى السياسية وتشكيلاتها العسكرية المتواجدة في محافظة جنين ومخيمها بشكل خاص حيث سادت روح العلاقات الوطنية الوحدوية والتعاون المشترك على امتداد معارك الانتفاضة وحتى الآن، ولعل الحضور الوازن لحركة الجهاد الإسلامي (وهي حركة تركّز على مقاومة المحتل وتنأى بنفسها عن الانتخابات التشريعية والبلدية والنقابية ومختلف أشكال التنافس الداخلي) وكذلك حركة حماس، والتعاون الوثيق بين مناضلي الحركتين وفصائل منظمة التحرير ما جعل لجنين ومخيمها طابعا وحدويا فريدا، بل إن هذا الواقع المميز بات يستقطب المقاتلين المطاردين من المحافظات الأخرى، خصوصا مع ضعف سيطرة السلطة الفلسطينية وهو ما كان محل تدابير وإجراءات إدارية عدة من بينها تغيير قادة الأجهزة الأمنية.
ومن الأمور التي تُميّز جنين أيضا ذلك التداخل والتشابك بين الأراضي المحتلة في العام 1967 وتلك المحتلة في العام 1948 والمنتشرة في شمال المحافظة وغربها، كثير من القرى المحسوبة على محافظة جنين ومن ضمنها مدينة أم الفحم وقرى وادي عارة وكفر قرع، وقعت ضمن أراضي 1948 بسبب خطوط الهدنة التي رسمت في العام 1949 بشكل اعتباطي وليس بناء على نتائج المعارك، هذا التقسيم أدى إلى تقسيم عديد القرى والعائلات الموجودة على جانبي الخط الأخضر مثل قرى برطعة وطورة وباقة وبلدتي أم الفحم وعانين المتجاورتين وهما تضمان نفس العائلات والحمائل، وفرض على سكان الداخل حمل الجنسية الإسرائيلية بينما يحوز سكان الضفة الهوية الفلسطينية المقترنة بالحرمان من الحقوق السياسية والمدنية كافة، ولا شك أن مرأى القرى والبلدات السليبة والمهجرة منذ العام 1948 يفاقم من شعور القهر اليومي الذي يعيشه ابناء هذه المحافظة التي كانت وما زالت معقل المقاومة .