كتاب: ” عالم ما بعد كورونا ” تعليق ومراجعة
الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام | الجزائر
في هذا العالم المتغيّر المتقلّب، الذي تتسارع فيه الأحداث فوق سرعة الضّوء بتداعياتها، التي تترك آثارًا كبيرة في حجمها عميقة في مؤثّراها، مع وجود عجز كبير في كثير من النّاس في فهم مساراتها، وقصور شديد في إدراك مراميها، وتقصير أشدّ في فقه مآلاتها.. لنقص في الوعي، وضعف في الثّقافة، ووهن في المعرفة، ونأي شنيع عن حسن التّفكير، فضلا عن حسن التّدبير، وبُطءٍ فظيع في مسايرة الأحداث، وبُعد سحيق عن تقويم الواقع المعيش..
في هذه الحال المزرية نحتاج إلى تحريك الوعي، ونفض الغبار عن الكسل العقلي، وردم الفجوة بين الإنسان والمعرفة الضّروريّة والعلم النّافع، وإيقاظ النّاس من الغفلة المميتة والغفوة القاتلة. . لكنّ الله الرّحيم الكريم يقيّض من يقوم بهذا الدّور الكبير، في محاولة تجاوز هذه السّقطات، والابتعاد عن هذه المزالق، وتحرير العقل من الخمول والوهن والخور، وتحريك القلوب بمشاعر سليمة من الدّرن والرّين؛ لتنهض النّفوس فتفهم الواقع المعيش أوّلا، ثمّ لتتحرّك فتقوم بما يجب فعله لتوقف نزيف الانحدار والانكسار والاندحار، ثمّ لتحسن التّفكير في المسير وتجيد التّدبير في المصير، وتنظر نظرات جادّة في المآلات.
من هؤلاء الرّجال الذين سخّروا حياتهم؛ فكرهم وقلمهم ومساعيهم.. لخوض معركة الوعي الكبيرة الممتدّة الدّكتور الشّاب الحيوي النّاشط الدّؤوب طه بن إبراهيم كوزي خرّيج مدرسة الأستاذ الدّكتور محمد بن موسى بابا عمّي، من حيث التّكوّن والتّخرّج على منهجيّة التّفكير والحفر في القضايا والمسائل.. المنفرد بمنهجيّته في معالجة القضايا الفكريّة، والمستجدّات العامّة في الحياة اليوميّة..
له في هذا المجال إسهامات كثيرة، تأليفا وتحريرَ مقالات وإلقاء محاضرات وإشرافا على دورات تكوينيّة، وظهورا في وسائل الإعلام المختلفة الجزائريّة وغير الوطنيّة.. هو بحقّ أحد رموز التّفكير المنهجي الموضوعي التّحليلي في الوقت الرّاهن، نرجو له مزيدا من التّألّق والتّفوّق والتّأنّق في هذا المضمار الممتدّ الذي لا يمضي فيه ويثبت ويواصل إلاّ من كانت له قوة في التّفكير وزاد معرفي كبير، وثقافة واسعة متنوّعة، ومنهجيّة سليمة في البحث، وملكة في العرض والتّحليل والنّقد وصناعة الأفكار، ودربة في الصّياغة الرّصينة والمتينة والمناسبة للكتابة في الموضوعات الفكريّة التي تحتاج ملكة أدبيّة للتّبليغ.
آخر ما قرأت له كتابه: ” عالم ما بعد كورونا، لعبة الأدوار وخريطة العالم الجديد”. من العنوان نقرأ شخصيّة الرّجل الفكريّة العميقة المعاصرة الموضوعيّة، ذات الرّؤية المستقبليّة الواضحة.. كما نقرأ نموذج الشّخصيّة المتابعة للمستجدّات والمتغيّرات ومحاولة سبر أغوارها ونبشها ونفشها وبثّها.. للكشف عن الحقائق التي تختزنها وتتحرّك بمقتضاها في تسيير العالم الجديد. فالعنوان هو سمة الكتاب كما يقول ابن سِيده. ويرى بارت (R.Barthes) أنّ العناوين أنظمة دلاليّة، سيميولوجيّة تحمل في طيّاتها قيما أخلاقيّة واجتماعيّة وايديولوجيّة..
هذه القيم الكبيرة نجد لها وجودا في كتاب ” عالم ما بعد كورونا..” فقد غاص الكاتب بفكره ووجدانه وأدواته المعرفيّة والفنيّة في أعماق الأحداث التي نتجت عن جائحة كورونا، وبيّن بالعرض المركّز والتّحليل المستفيض أسباب ظهور الوباء وسيرورته وتبعاته، والمقتضيات التي دفعت به في ساحات تحرّكات النّاس وسكناتهم، وقدّم تصوّرات لبعض ما أحاط بهذا الوباء، من عوامل صاحبته، وبيئات انتشر فيها، وطريقة تعامل النّاس معه، بين مستسلم للواقع المعيش، وراضخ لمفعول الكوفيد، وبين رافض لتقبّل فكرة وجود وباء بالصّيغة التي رُوِّج له، أو وُصِف به أمامه، وحذّر منه، ومتحوّل إلى رفع لواء الدّعاية أنّ ما يحدث مؤامرات، القصد منها تنفيذ مشروعات خاصّة، وحمل العالم المستضعف أن يزداد رضوخا وركوعا وخنوعا وخشوعا وسكينة له..
في تحريره لفصول الكتاب اجتهد في ربط الأحداث المتسارعة فيما بينها، ووصلها بوقائع وواقعات وتصريحات ولقاءات ومناورات سابقة على مرحلة الجائحة بسنين عديدة، واستنتج منها أمورا كثيرة مهمّة.. كما شفع عروضه وتحليلاته بمقولات لمفكّرين وسياسيّين ومنظّرين.. ومشوّشين ومتطفّلين على المجال..
لم ينسَ نفسه في خضمّ الأفكار التي انهالت عليه كالوحي (المسموح به للبشر) وانثالت تغمره إلهاما كصنع المبدعين، وفي عمق المشاعر التي تداعت عليه كما تفعل بالهائمين فيها.. لم ينسِه كلّ ذلك أن يرتبط بعنوان الكتاب، ويبقى وفيّا لما يدعو إليه وما ينتظره منه، وهو بيان رؤاه ونظراته المستقبليّة لما بعد كورونا، وكيف يكون العالم في وجهه الجديد المتجدّد المتمدّد، سلبا وإيجابا، فقدّم رؤيته في وجوهٍ أو مظاهرَ، تمثّلت في: تقرير لحال حَتْمًا تكون، وبسطًا لبعض الأمور بناء على معطيات، وعرضا لأسئلة وإشكالات حضاريّة تنتظر العالم لينظر ويبحث فيها، واستعدادًا وترقّبا للمفاجآت والطّوارئ.. وغير ذلك.
لم يكن قصد الكاتب – حسب نظري وقراءتي لمضمون الكتاب – تقرير حقائق، أو توحيه النّاس وجهة معيّنة، قد يفهم منها حملهم على تبنّي رؤاه وأفكاره ونظراته.. بل ما يهدف إليه هو إيقاظ الضّمائر، وتحريك العقل، ونزغ المشاعر، واستفزاز النّفوس، وتوجيه الأنظار إلى التّأمّل في الواقع وما يدور فيه، واستشراف المستقبل بالأدوات المطلوبة، والوسائل الضّروريّة، والخروج من حضيض الغفلة والسّذاجة في النّظر إلى الأحداث، والضّحالة في تفسيرها، أو الهروب إلى الأمام بعدم مواجهتها بالتّفكير السّديد، والتّصرّف الرّشيد، والعزم الشّديد.. فقد وجّه نداء خاصّا وتنبيها محدّدا للمسلمين، يستفزّهم ويستنفرهم ويثيرهم.. ليتحسّسوا موقعهم في خريطة العالم ما بعد كورون، إن كانوا موجودين أصلا قبل الجائحة التي اجتاحت كلّ شيء في القيم والمقوّمات والأحاسيس والمشاعر والتّفكير والتّدبير.. بالجملة يريد الكاتب أن يخوض الجميع معركة الوعي الواجبة للخروج من دوائر التّخلّف والتّبعيّة بأوسع نطاقها ومجالاتها، والاستلاب والعيش على هامش الحياة.
ما يميّز ما حرّره الدّكتور طه..:
1 توفّره على معلومات دقيقة من مصادر موثوقة ذكرها.
2 امتلاكه لمعارف متعدّدة، أعانته على النّظر الشّامل والعرض الدّقيق والتّحليل المستفيض والاستنتاج الواقعي.
3 حسن قراءة الأحداث، وحسن فهمه لسيرورتها وتطوّراتها..
4 الصّياغة الأدبيّة المكينة، التي جمعت بين حسن السّبك والاقتباس من الآثار العلميّة والأدبيّة بخاصّة القرآن الكريم.
5 جمع الكتاب في تحبيره بين السّرد العادي، وشرح معلومات علميّة والحوار والقصّ والنّجوى والحديث الدّاخلي. جمع بين القصص الواقعيّة وما يسخو به الخيال والعصف الذّهني، لنقل الخواطر وبثّ المشاعر، وتوضيح الأفكار، ومرافقة القارئ ليصل به إلى الهدف المنشود من الكتابة.. هذا التّنوّع هو الذي أعطى الكتابَ نكهة خاصّة، وخصّه بجاذبيّة متميّزة.. بهذه المميّزات تحصل الفائدة من التّعبير والتّصوير.
6 حرّر الكاتب فصول كتابه بلغة معاصرة في كلماتها ورموزها ومصطلحاتها، ونحت كلمات تجمع بين التّقيّد بِسَنن اللّسان العربي، وتوظيف كلمات غير عربيّة مع المحافظة على مضمونها علميّا. هذه اللّغة المختارة التي تثبت وفاء الكاتب لمقوّمات اللّغة العربيّة ووفاءَه لعصره في آن واحد.. هذه الأصالة والمعاصرة تجمع حول كتابه أنصارَ اللّغة العربيّة، وأصحابَ التّجديد في الخطاب، وأنصارَ التّخصّصات العلميّة والميول الأدبيّة..
كتاب ما بعد كورونا: لعبة الأدوار، وخريطة العالم الجديد.. ثلاثيّة خطيرة –بشقّيها السّلبي والإيجابي – عرضها الكاتب على النّاس جميعا بصدق وإخلاص وموضوعيّة، وحلّلها بمنطقيّة، ومن منطلق فكري عميق..
هل – بعد قراءتنا الكتاب – نعي ما قال لنا الكاتب؟ هل نفقه أدوارنا الحقيقيّة في المشهد الحضاري؟ هل نحن مستعدّون للتّغيير نحو الأحسن؟ هل نقنع أعداءنا أنّ مخطّطاتهم أضحت واضحة مكشوفة، فنحن لها نجهضها، ونقوم بالعمل على بناء أنفسنا وتشييد صروحنا على أسس صحيحة وعُمُد متينة وأصول ثابتة ومبادئ راسخة.. فنخرج بمخطّطات حقيقيّة عمليّة..؟ هذا ما نرجوه بعد قراءة كلّ فصول الكتاب قراءة واعية فاحصة نافذة ناقدة..
مقدّمة الكاتب توضّح الهدف من نشر فصوله ومقالاته.. فمن بين ما جاء فيها: “… يحمل هذ العمل في طيّاته حوارًا داخليّا عن طبيعة الحياة التي تستقبلنا في (عالم ما بعد كورونا). وليس من سؤال يحيّرني اللّحظة هو الآتي: ما التّحوّلات والتّغيّرات التي طرأت عليك وعليَّ ونحن نُخلِدُ إلى حجر صحّي ليليّ صارم؟ وما الذي تغيّر فيك وفيّ بعد أشهر من (التّباعد الاجتماعي)، و(النّقاش الفكري) بين أنصار المؤامرة المبيّتة في أحداث كورونا؟ وبين مناصري فكرة الوباء والجائحة التي لم تتخلّف يوما عن البشر، حسب نظرهم، مذ عرف الطّاعون والجذري وباءً وجائحة؟
هل تغيّرت حياتنا (في عالم ما بعد كورونا)؟ وهل (قواعد اللّعبة) التي كانت تحرّك حياتنا الاجتماعيّة، والعلميّة، والسّياسيّة، والفكريّة هي نفسها دون مساس؟ أم أنّ (لحظة كوفيد 19) عبثت بخريطتنا النّفسيّة والاجتماعيّة، وغيّرت في الذّوق البشري والمزاج الإنساني إلى الأبد؛ حيث لم يعد بالإمكان أن نعود القهقرى في التّاريخ…” (ص: 9، 10).
على كلّ واحد منّا أن يجيب نفسه بنفسه.. إنّ قراءة الكتاب يساعدنا على ذلك. نسأل الله أن ينعم علينا بالفهم العالي والفقه الصّحيح والوعي السّديد.. إنّه وليّ التّوفيق والسّداد والرّشاد، فهو ذو العرش المجيد فعال لما يريد..