الظاهر والباطن قراءة في قصيدة (لقاء في الطريق) لـ جليلة رضا
د. جمال فودة | عضو الاتحاد العالمي للغة العربية – كاتب وناقد من مصر
أولا – القصيدة
أي المشاعر في الدماء تدفقت
حين التقينا بعد هجر مؤلم
///
وأبى السلام أبيته من قبل أن
يدنو يمر عليّ غير مُسلم
///
وكذا تشابه في الخصام شعورنا
كأمس في وصل وحب مفعم
///
أعطيته ظهري وكم ملك الذي
في الصدر من قلب توهج بالدم
///
ووقفت صامتة أحرك في يدي
مفتاح بيتي أو أساور معصمي
///
وخشيت أن أرنو إليه وطالما
أغرت عيني في سماه المظلم
///
ورجعت حتى لو تلمس إصبعي
لهويت فوق الأرض كالمتحطم
///
كم أمنيات عربدت في خاطري
لو أنني حققتها لم أسلم
///
فلو استطعت علي الخدود صفعته
ثم انثنيت بقبلتين على الفم
///
ولو استطعت سخرت منه, شتمته
وركعت فوق خطاه كالمتندم
//
يا أنت لا تغتر لست ملومة
أهواك حب الأم لابن مجرم
إن تذوق النص الأدبي يتوقف إلى حدّ بعيد على فهم دلالات الكلمات –في مستواها المعجمي-، بوصفها وحدة لسانية ذات إشارات أولية داخل الخطاب غير أن دراسة الكلمات في حدّ ذاتها لا تمثل شيئاً في فهم العمل الأدبي، بل إن هذا الفهم لا يتمثل الاّ في العلاقات بين الكلمات، أي في وحدات اللغة، وهي بدورها تقوم على أساس التسلسل بين التراكيب التي يخلقها النحو بإمكاناته الواسعة ، ولا يقدّم التركيب مثل هذه الرؤية الدلالية التي تعمل على تقريب أبعاد النص إلى ذهن المتلقي إلاّ من خلال الوقوف على التواشجات النوعية التي يتم بها تشكيل النص، إذ “إن الطريقة التي يتم بها تركيب بنية النص هي التي تمنح النص قيمته التعبيرية والإيحائية.
وفي (لقاء في الطريق) تشكل بنية الاستفهام بتراكماتها الكثيفة بنية أسلوبية تنتج دلالات إيحائية تتخطى المستوى السطحي للتراكيب؛ إذ توزعت على ثنائية الحضور والغياب، أما على صعيد الحضور فإن الاستفهام كغيره من أساليب الطلب يأوي الباث فيه إلى إسهام المخاطب الذي يتحول من مجرد متلقٍ إلى طرف مشارك، ولعلّ الحضور السياقي للآخر من أبرز مظاهر المتقبل في الناتج الدلالي.
إنّ الحضور السياقي في هذه الأبنية يتوجه إلى (أنت) ويرتد إلى (أنا)، وقد سيطر هذا الأخير على نسق الحضور في النص، وربما يعود السبب في هيمنة هذا النمط إلى أنّ الشاعرة كانت في فورة الغضب توجه الخطاب إلى الآخر، وما هــذا الانكسار إلا تعبيرٌ عن مواقف من الماضي الذي تحطمت فيه ملامح تحقيق المرامي الغائبة فانكسرت أمواج الأمل على صخور الحاضر، ومن ثمّ فقد “تبلورت الصراعات الذاتية الانطوائية متفاعلة مع الصراع الخارجي ممّا ولّد ثنائية تقابلية أنطقت الشاعرة بصريح التناقضات ومرير الاعترافات.
أي المشاعر في الدماء تدفقت؟ ولعلّ هذا الاستهلال يمثل مفتاحاً شعرياً يلخص ملامح النص الدلالية من خلال التوتر الذي يحدثه ذلك الأسلوب القادر على إثارة المخاطب وتحريك ذهنه. وبتأمل النص وجدنا الشاعرة تتكئ على الكناية بوصفها عنصراً بيانياً يؤدي المعنى أداء غير مباشر، على نحو قولها:
(أعطيته ظهري) (كناية عن الإعراض الظاهري فقط)، و(وقفت صامتة أحرك في يدي مفتاح بيتي أو أساور معصمي) كناية عن التوتر والصراع الداخل وتضارب المشاعر. وقد اتخذت تقنية المفارقة طريقها إلى أبعاد الدلالة في وجود الكناية، حيث تقوم المفارقة على الجمـع بين المتناقضين أو المتنافرين دلالياً على مستوى السطح، والتناقض سمة بارزة في النص، لأن الشاعر تظهر عكس ما تبطن، وتبدو في صراع دائم بين المفروض والمرفوض، وثمة حشدٌ هائل من المفارقات في القصيدة أسهم في إثراء بنية النص، كما في قولها :
وخشيت أن أرنو إليه وطالما
أغرت عيني في سماه المظلم
وقولها:
فلو استطعت على الخدود صفعته
ثم انثنيت بقبلتين على الفم
وقولها:
ولو استطعت سخرت منه، شتمته
وركعت فوق خطاه كالمتندم
إن نمط المفارقة هنا يصف حالة من، التناقض بين المدلول الشكلي الظاهر، والمدلول النفسي الخفي، غير أن العلامة التي توجه القارئ إلى التفسير الصحيح هي السياق، ومن خلاله يمكن القول بان الدلالة العميقة لهذا التناقض الدلالي هو تجسيد لحالة التيه والضياع والشتات وفقدان القدرة على التفكير والتعبير!
إنها المفارقة الكبرى التي تعكس لنا صفحة نفسٍ تفيضُ بالألم الممتع، لأنها تجرّعت مرارة الحزن ماضياً، ولا تقوى على نسيانها حاضراً.
ومن اللافت في بناء النص استخدام الشاعرة بنية الشرط كوسيلة من وسائل التضافر الأسلوبي الذي يجعل من العمل الإبداعي عملاً مترابطاً متماسكاً، مما يكسب دلالة النص قوة ونماءً، فالشرط علاقة تجمع بين جملتين ـ لكل منهما تركيبها الخاص ـ لإنتاج جملة واحدة ذات دلالة معينة لا يمكن الوصول إليها بواحدة من جملتي الشرط، لأنه يعلق الجملة الثانية بالجملة الأولى.
ويظهر لنا نمط تعدد الشرط وتعدد الجواب في النص، كما في قول الشاعرة:
(لو تلمس إصبعي لهويت فوق الأرض كالمتحطم) ، و ( لو أنني حققتها لم أسلم) ، و (لو استطعت علي الخدود صفعته ثم انثنيت بقبلتين على الفم)، و (لو استطعت سخرت منه, شتمته وركعت فوق خطاه كالمتندم) ، ولاشك أن تعدد الشرط و تعدد الجواب يؤدى إلى اتساع إطار الجملة و امتدادها ،ففي المقطع السابق تعددت أداة الشرط ” لو ” ومن ثم تعددت جمل الشرط ، و إن جاء الجواب خاصاً بكل شرط على حدة إلا أن الجمل جميعها ( الشرط و الجواب ) تمثل دفقة شعورية واحدة في جملة شرطية ممتدة يمكن التعبير عنها بمد جملة الشرط و تتابعها : ( لو تلمس إصبعي ، لو أنني حققتها ،فلو استطعت علي الخدود صفعته ، ولو استطعت سخرت ) ، ثم يأتي الجواب لمجموع جمل الشرط التي ترتبط أجزاؤها بعاطفة داخلية تعكس حالة الشوق المتدفق والدمع المنساب على قلب ينصهر حنيناً إلى لحظة وصل يهتدى فيها لعشه القلب الشريد ، فتبرأ الجراح و ُيطلق الجناح من قيد الأشواق .
ولا شك أن الحركة الناجمة عن تعدد الشرط وتعدد الجواب حركة رأسية تمتد في بنية النص كالشرايين مما يوفر للدلالة تماسكها ووحدتها، كما يعد هذا النمط من الشرط مظهراً من مظاهر التضافر الأسلوبي.