مرايا العرب في إسرائيل مهشّمة
المحامي جواد بولس | فلسطين
بعد أن نجحت الوزيرة أييلت شاكيد، شريكة رئيس الحكومة نفتالي بينت في حزب يمينا، بتمرير قانون المواطنة، الذي بموجبه ستخسر آلاف العائلات الفلسطينية فرصة لمّ شملها والعيش في حالة استقرار انساني، صرّحت، بنشوة المنتصرين: “لقد انتصرت الصهيونية والعقل السليم” وأضافت موضّحة، في مقابلة صحفية نشرتها على صفحتها، أنها لا تريد أن تتطرق إلى مسألة التصنيفات أو فيما إذا كانت تعتبر أعضاء حزب ميرتس صهاينة أم لا، فالقانون في أساسه، “يدافع عن الأمن وعن الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، ويجب ألا نمارس أي “غسيل للكلام”، فللقانون توجد كذلك موجبات ديموغرافية.. وذلك كي نمنع تجسيد حق العودة بشكل زاحف”.
إنها تتحدث بوضوح وبإصرار، كممثلة شرسة لليمينية الدينية الصهيونية التي يسعى دهاقنتها إلى إحكام سيطرتهم على مقاليد الحكم والتسيّد في الدولة.
تعدّ شاكيد، في قاموس السياسة الدارج والواقع الإسرائيلي الحالي، حليفة للدكتور منصور عباس وإخوانه في القائمة الموحدة، الذراع السياسية للحركة الإسلامية. ورغم تطرّف شاكيد السياسي لا نراها تقسو عليهم؛ لا بل إنها تبدي، حتى وهي تشيد بانتصارها الصهيوني الظافر ، تفهّمها لموقفهم الصعب، لأن القانون من ناحيتهم “ليس سهلًا”، كما قالت في تلك المقابلة.
بالرغم من ذلك كان تصرّف قائمة الدكتور منصور إزاء مبادرة الوزيرة شاكيد متوقعًا؛ لا بل نراه، هذه المرّة أيضًا، مدافعًا عن بقائهم في الحكومة، وذلك على الرغم من تبعات القانون الكارثية على إخوانه العرب والمسلمين، ومشيدًا بإنجازات قائمته، ومتحدّيًا خصومه الحركيين الإسلاميين والحزبيين السياسيين؛ وذلك كما كتب قبل أيام على صفحته حينما أجاب مَن ساءلوه: “لماذا يا منصور ما بتفرجينا عضلاتك وبتسقط الحكومة ؟” قائلًا: إن “أسلوب العضلات لا يجدي نفعًا. الحلول تأتي بالتأنّي والحوار والاقناع بأسلوب واقعي وعقلاني. فبعد أن ننتهي من هذه المرحلة سنعرض على أبناء مجتمعنا ما أنجزناه بالحقائق والأرقام.. وندعو الآخرين أيضًا أن يعرضوا ما أنجزوه بسياساتهم وأساليبهم خلال هذه المرحلة، ليكون أبناء مجتمعنا كافةً حكَمًا بيننا”. إنّه يتحدث بلغة القائد الجديد الواثق من أن ما يفعله وإخوانه في الحركة يلقى قبولًا بين عامة الناس، وبأنّ مستقبل حركته السياسية سيكون زاهرًا، لأن المواطنين العرب، هكذا يصر، قد عافوا الخطابات السياسية التقليدية وشعاراتها الفارهة، ويريدون حصصهم من موائد رحمة الدولة ومؤسّساتها؛ وهو من أجل تحقيق ذلك يعمل وسيبقى يعمل من داخل الحكومة.
يعتقد البعض أنّ ما يقوم به قادة القائمة الاسلامية الموحّدة لا يستحق المتابعة ولا النقاش؛ فهذه حقبة سوف تمسي قريبًا مشهدًا من تاريخ عابر وستنتهي فصولها كنثار هش منسيّ، وستطوى وكأنها لم تكن. ومع أنني أتوقع مثلهم، كما قلت في السابق، بأن فترة “زواج المنفعة” القائم حاليًا بين القائمة الاسلامية الموحدة وباقي مركبات الحكومة الإسرائيلية، سوف تنفد ضرورياته قريبًا؛ إلا أن التجربة، كما زوّدونا بها، ستترك وراءها آثارًا لن تمّحي تلقائيًا؛ فالائتلاف بين قوة سياسية حركية إسلامية تحظى بتأييد واضح بين المواطنين العرب في إسرائيل، وبين عناصر من اليمين الصهيوني المتدين المتطرف، شكّل سابقة غير معهودة في العمل السياسي الاسرائيلي، بشكل عام، وداخل المجتمع العربي على وجه الخصوص؛ وعزّز، كما نلمس بوضوح، نشوء مفاهيم “مواطنية” شعبوية، مضللة وملتبسة، ساعدت على تشكيل معالم شخصية الفرد/ المواطن العربي المسلم الراضي بمعيشته في ظل دولة إسرائيل، والقانع بدوره “المؤثر” في أحضان “مجتمع محافظ”، تمامًا كما نادى شعار الحركة الإسلامية قبل الانتخابات ودعا الناس للتصويت لهم لأن صوتهم “واقعي، مؤثر ومحافظ”.
لن تتوقف القضية، إذن، على مصير القائمة الموحّدة السياسي ولا على مستقبل حركة الدكتور منصور عباس الإسلامية؛ فتزايد قوّتها الاجتماعية والسياسية من أصله كان نتيجةً لتراجع قوة سائر الأحزاب والحركات السياسية التقليدية؛ كما أدّى ذلك إلى تشجعّهم على الترويج لبناء شخصية المواطن العازف عن ممارسة واجبه السياسي الوطني الفعّال في مواجهة سياسات القمع والعنصرية الاسرائيلية الرسمية، والقانع بدوره “المؤثر والمحافظ” في مجتمع يسعى لنيل حقوقه المعيشية “بالتأني والحوار والاقناع بأسلوب واقعي وعقلاني”، حتى لو كان الثمن، كما نرى، فك الارتباط الكامل بين ضفتي الهوية التاريخية لمجتمعنا بمركبيها التقليديين: المواطني والوطني.
لم يُخفِ الدكتور منصور عباس، ذات يوم، رؤية حركته السياسية والاجتماعية؛ بل على العكس تمامًا، كان ولم يزل يجاهر بها ويعمل من أجل تحقيقها مهما كلّفه ذلك من توافقات ذرائعية خطيرة توصّل إليها مع أعتى القوى الصهيونية اليمينية؛ فاجتماعيًا هو لن يُسقط الحكومة لأنه يريد أن يحقق تغيير أحوال المواطنين ليضمن “مجتمعًا محافظًا” ، كما أعلن عنه منذ البداية؛ وسياسيًا، لن يسقطها لأنه يعرف أن “الحكومة القادمة، في حالة سقوط هذه الحكومة، ستكون اسوأ بالتأكيد”، وهذه بالتأكيد لن ترضى به حليفًا.
لا أعرف إذا كان الدكتور عباس مؤمنًا بقوته أو بحرّيته على إسقاط الحكومة، لكنني متأكد بأن بينت وشاكيد وزملاءهم لن يقبلوا بأن تكون “عصمة” حكومتهم بيد منصور عباس وحركته الإسلامية، وسيبقى الطلاق خيارًا من طرفهم فقط؛ وهذا سيحصل حتمًا حين تختمر الظروف السياسية ويُعرف مستقبل نتنياهو السياسي وتصبح امكانية إقامة حكومة يمينية خالصة جديدة مواتية وممكنة.
لقد خلقت تجربة دخول القائمة الإسلامية الموحّدة إلى شراكة مع النظام الصهيوني الحاكم في الدولة اليهودية، بمبرراتها المعلنة من قبل شيوخها وقادتها السياسيين، سابقة لافتة وتحدّيًا جدّيًا لمواقف الحركات الاسلامية التي لا تؤمن بشرعية النضال البرلماني أو الشراكات مع المؤسسات الصهيونية ؛ حيث نفت، بدخولها إلى الإئتلاف الحكومي، استحالة ذلك التزاوج بسبب إسلامية المواطن أو هوية التنظيم الاسلامية وحسب، وأثبتت، في ذات الوقت، أن هذا الخيار ممكنًا من الناحية العملية، وجائزًا من الناحية الشرعية، ومرغوبًا لأسباب نفعية؛ وقد يكون لهذه التجربة مآلاتها في المستقبل.
وكما قلنا، فإنّ آثار مغامرة القائمة الاسلامية الموحدة ستبقى حتى بعد انفضاض عقد هذه الحكومة، خاصة فيما يتعلق بترسيخها لمصطلح “المجتمع المحافظ” الفضفاض، الذي خلق هامشًا قيميًا ملتبسًا تمّ تسخيره من قبل بعض القيادات المحلية والقطرية لتبرير بعض قراراتهم الخلافية، كما حصل، مثلا، قبل أسبوع عندما حظر رئيس مجلس محلي قرية جت المثلث عرض مسرحية “أصوات” معللًا قراره بأن “محتوى المسرحية يمسّ بتعاليم الدين الاسلامي وتقاليد مجتمعنا المحافظ”. مع العلم بأن المسرحية عرضت في عدة قرى عربية بدون أي اعتراض من قبل رؤساء تلك القرى المسلمين. ففي صالح مَن خلق هذا الالتباس ؟
نقف على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة ستسيطر فيها القوى اليمينية الدينية على منظومات الحكم، وستبطش بأيديولوجياتها العنصرية على كل الجبهات، حتى تنهار آخر مواقع دولة أسرائيل الأولى؛ وهذا يحدث بالشراكة وبالتواطوء مع قوى متعدّدة من داخل مجتمعاتنا، التي تمر بحالة فوضى وضياع رهييتين. إننا نعيش فيما يشبه الحلقة المفرغة، فالمؤسّسة الحاكمة تعمل على تشجيع نموّ مراكز قوى محلية حديثة النعمة والولاء، وعلى تفريخ عوامل إضعافنا الذاتية وتآكلنا من الداخل، وعلى دعم مظاهر العنف والجريمة والفساد وعدم محاربتها، ومن الناحية الثانية، فإن هذه التشكيلات الجديدة تعزز تأثير المؤسسة الحاكمة بيننا وتمكنّها من تفتيت عرى مجتمعاتنا والقضاء على بواطن حصانتها. وكل ذلك يجري من دون أن تنجح نخب مجتمعنا الواعية المأمولة في خلق حالة مواجهة ملائمة، واستعادة الرشد الكافي لوقف النزيف والبدء في عملية بناء متينة تستشرف المستقبل ومخاطره.
لقد نوّهنا من مخاطر ظاهرة القيادات الجديدة البديلة، ولم نر أية محاولات جدّية لمواجهتها؛ بل أكتفى البعض بالوقوف أمام مراياهام القديمة وممارسة صمتهم أو اطلاق عبارات التهجم على تلك القيادات وتقريع بعض رموزها، ونسوا أنّ ذلك لوحده لن يغيّر واقعًا ولن يحسم مصيرا. علينا، اذا ما أردنا الحياة الكريمة، أن نحطم مرايانا المهشمة ونمضي إلى ليلنا بعزيمة أصحاب الفجر والتراب.