القطة أو المرأة التي ألهمت الشاعر نزار قباني
عليّ جبّار عطيّة
ورد في أمثال أهل البوسنة قولهم : (النساء والقطط كلهنَّ سود في الظلام) !
تذكرتُ هذا المثل وأنا أقرأ ما أثارته جريدة (البيان) الإماراتية في عددها الصادر يوم السبت الموافق ٢٠٢٢/٤/٣٠م، إذ ذكرت مسألةً طريفةً تتعلق بالمُلهمة الحقيقية للشاعر نزار قباني (١٩٢٣م ـ ١٩٩٨م) عندما كتب قصيدة(غرناطة) المشهورة بـ(مدخل إلى الحمراء).. فهل هي قطة أم امرأة؟ وكان مدَّعى الكاتب (السيد رمضان السيد) في مقاله الموسوم بـ (القطة التي ألهمت نزار قباني) أنَّ الشاعر نزار قباني لم يكتب القصيدة المذكورة في امرأة كانت تعمل مرشدةً سياحية في إسبانيا ـ كما هو شائع أو متوقع ـ إنّما كتبها في قطة تعرفت إليه هناك !
واستند الكاتب في مدّعاه إلى حكاية ذكرها الدكتور سيار الجميل في مقالٍ له نشر قبل خمس سنوات بهذا الخصوص .
تعالوا لنتأمل قليلاً في هذا المدّعى، وبيان قربه أو بعده عن الواقع، وهل له مصداقية أم أنَّه ليس إلا محض خيال !
لا يمكن بالطبع إنكار دور المؤثرات الخارجية أو الداخلية المحفزة أو المثيرة للأديب في كون حادثة معينة بمثابة الشرارة التي توقد حطب النص خاصةً لشاعرٍ مرهف الحس مثل نزار قباني.
لكن المسألة ليست في المحفز إنَّما هي في مَنْ المقصود في القصيدة المذكورة.
نبدأ من القصيدة مدار المقال (غرناطة) وقد ضمها ديوان نزار قباني الموسوم بـ (الرسم بالكلمات) الصادر سنة ١٩٦٦م.
يقول الشاعر :
في مدخل (الحمراء) كان لقاؤنا
ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
عينان سوداوان في حجريهما
تتوالد الأبعاد من أبعاد
هل أنت إسبانية ساءلتها
قالت : وفي غرناطة ميلادي
.. ما أغرب التاريخ كيف أعادني
لحفيدة سمراء من أحفادي
وجه دمشقي رأيت خلاله
أجفان بلقيس و جيد سعاد
.. و دمشق أين تكون؟ قلت :ترينها
في شعرك المنساب نهر سواد
في وجهك العربي في الثغر الذي
ما زال مختزلاً شموس بلادي
.. سارت معي و الشعر يلهث خلفها
كسنابل تركت بغير حصاد
و مشيت مثل الطفل خلف دليلتي
و ورائي التاريخ كوم رماد
.. يا ليت وارثتي الجميلة أدركت
أنَّ الذين عنتهم أجدادي
عانقت فيها عندما ودعتها
رجلاً يسمى طارق بن زياد
هذه بعض الأبيات المنتخبة من القصيدة،
و القارىء لها لا يراوده أدنى شك أنَّ ذات العينين السوداوين، والشعر المنساب كنهر للحفيدة السمراء هي لامرأة، ولعلَّ وجه الاشتباه الذي جعل الكاتب يتوهم أنَّ الشاعر قال تلك القصيدة في قطة وليس في امرأة هو ما ذكره الشاعر نزار قباني في كتابه (قصتي مع الشعر) الصادر سنة ١٩٧٠م وهو يتحدث عن قطة رآها خلال رحلته في إسبانيا، قائلًا: (لا أزال أذكر حتى الآن قصتي مع قطة من قطط غرناطة، تركت مئات السائحين الأجانب يتجوَّلون في حدائق (جنات العريف) واختارتني وحدي لتبثني أشجانها.. كانت تلتصق بي التصاق امرأة عاشقة، وتمرُّ بلسانها على وجهي ورقبتي.. لقد مرَّت خمس سنين على التقائي بها، ولا أزال مقتنعاً أنَّها تنحدر من سلالة قطة عربية جميلة، جاءت على نفس المركب الذي حمل طارق بن زياد إلى الساحل الإسباني في القرن السابع) !
وبالعودة إلى مقال كتبه الدكتور سيار الجميل ونشره على صفحته الشخصية في ٢٠١٧/٢/٦م نتعرف إلى ما يؤكد مدَّعى الكاتب إذ يقول سيار الجميل في مقاله : (بقيت قصة نزار والقطة الأندلسية السوداء تلازم مشاعري وتفكيري .. عندما نشرت ذكرياتي في لندن مع الشاعر نزار قباني، والمنشورة في كتابي ” نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ” ، لم أكن أعلم أنَّ الرجل كان صديقاً لإعلامي عربي قديم أصبح في ما بعد سفيراً ووزيراً في الأردن هو الأستاذ سمير مطاوع الذي التقيت به صدفةً قبل أسبوع من خلال مشاركتنا في واحد من المؤتمرات .. وقد جلسنا نحتسي القهوة عند الضحى ، وتذكرّنا معاً نزار وتداولنا بشأن قصيدة له اسمها (قصر الحمراء) ، وكنت أعرف أن نزاراً قد تغّزل فيها بامرأة إسبانيولية عند مدخل القصر ، ولم يسعفني نزار بقصّته معها وقت ذاك ، لكثرة قصصه .. حكى لي سمير كيف آمن نزار بتناسخ الأرواح جرّاء ما حصل له أمامي ، إذ كان سمير قد التحق من مدريد برفقة وفد من الدبلوماسيين العرب لزيارة الأندلس ، بطلب من صديقه نزار .. في غرناطة مشوا جميعاً نحو قصر الحمراء لزيارته ، وكان نزار وسمير يمشيان بعد نزولهما من الباص ، وقد دخلا تلك الحدائق الغناء التي تحيط بالقصر ، والتي يسميّها الإسبان بالجنان ، ومنها جنة العريف ، وباحة الرياحين ، وخصوصاً أمام قصري قمارش الكبير الرياض السعيد وقصر الأسود .. جلس الاثنان على مصطبةٍ ، وجلس ثلاثة من السفراء العرب الآخرين على مصطبةٍ مقابلة ، وبعد برهة ، أطلّت من بين الأوراد ، قطّة سوداء كالحة بعيون خضراء براقة ، ووقفت تنظر ملياً إلى نزار دون غيره ، ومن ثمّ قفزت نحو حجره تشمّه .. كان نزار يلبس قميصاً ، وقد فتح أزراره العليا ، فكانت القطة السوداء تشمّ حتى صدره ، وهي تنظر إليه وهو ينظر اليها .. وبعد هنيهات من الوقت ، نزلت عنه ، والتفتت تتأمّل فيه ، ثمَّ اختفت بين الزهور ، وقد دخلوا القصر، وقد شغلت باله قصة تلك القطة .. وعاد نزار إلى الفندق ، وهو يفكر بقصة القطة السوداء ليكتب قصيدته عن قصر الحمراء ، مؤمناً بأنَّ تلك التي استقبلته على بابها ، وهي تشمّه ما هي الا امرأة عربية من أصل دمشقي تناسخت روحها عبر مئات السنين ، لتصل الى هذه القطة .. هذه ” القصة ” لم يقصصّها عليَّ نزار في التسعينيات ، بل حكاها لي قبل أيام الصديق الدكتور سمير مطاوع والعهدة فيها عليه ).
يتحصل مما سبق وحسب القرائن أنَّ الشاعر أثرتَ فيه القطة التي اختارته من بين المدعوين مثلما أثرت فيه المرشدة السياحية الإسبانية الحسناء، فاشتغل الخيال عنده، وانثالت الصور والكنايات لكنَّ قصيدته ـ مدار المقال ـ كانت تتحدث عن امرأة فلا المكان الذي كان فيه يمنع من ذلك، ولا الزمان، كما لا توجد أية محاذير أمنية، أواجتماعية، أوعشائرية، أو من باب التقية تجعله يخشى التعبير عن تلك المرأة بالقطة !
كل الذي أخشاه أن تكون حجتي في ذلك غير ناهضة كحجة أبي علقمة ـ كما يذكر الجاحظ ـ في كتابه (الحيوان) فيروي عن أبي علقمة أنَّه قال: كان اسم الذَّئب الذي أكل يوسف
رجحون ! فقيل له: فإنَّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب، وإنما كذبوا على الذِّئب، ولذلك قال اللّه عزَّ وجلّ: (وجاءوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ)، قال أبو علقمة: فهذا اسمٌ للذئب الذي لم يأكلْ يوسف !