بعض المستشرقين منافقون ومصابون بازدواجية المعايير
عماد خالد رحمة | برلين
احتلَّ كتاب (الاستشراق Orientalism) للمفكر الفلسطيني الأصل أمريكي الجنسية البروفيسور إدوَرْد سعيد ،مكانةً واهتماماً كبيرين في أوساط المفكرين والباحثين والمثقفين والمهتمين في علاقة الشرق بالغرب، كما احتلت المادة الأساسية في كتاب الاستشراق وموضوعها الجريئ اهتماماً خاصاً في الهيئات والمؤسسات الأكاديمية في معظم دول العالم، حيث دار نقاشٌ هادئ ورصين تارةً ،ونقاش ساخن تارةً أخرى حول موضوع الكتاب المثير للجدل، وكان الكتاب قد ترجم إلى أكثر من عشرينَ لغة. وكانت الأفكار التي طرحها في كتابه الصادر عام 1978م قد أثارت حراكاً وتغييراً بنيوياً في جملة الدراسات والمؤلفات والمفاهيم والآراء الانكليزية والفرنسية حول الاستشراق. وفي فترةٍ لاحقةٍ صار تأثيره كبيراً في الولايات المتحدة الأمريكية الذي هزَّ بنيانها وأركانها الاستشراقي. فكان هذا الكتاب الهام السبب الرئيسي في تفسير وشرح الشرخ الكبير الحاصل بين الحضارة الغربية والثقافة الشرقية الغنية عموماً والحضارة الشرق أوسطية بخاصة. مع العلم أنَّ العالم شهد ويشهد صراعاً للحضارات وصداماً حاداً بين الثقافات في العالم وتحديداً بين الشرق والغرب كالتي نظَّر لها الباحث والعالم السياسي الأمريكي صاموئيل فيليبس هنتغتون وهو بروفيسور في جامعة هارفارد. وعاصره أيضاً من تحدّث عن نهاية التاريخ أمثال يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما وهو عالم وفيلسوف واقتصادي سياسي ياباني الأصل أمريكي الجنسية، مؤلف، وأستاذ جامعي. اشتهر بكتابه : (نهاية التاريخ والإنسان الأخير).
لقد تم وصف كتاب (الاستشراقOrientalism) لإدوَرْد سعيد بأنه مهَّد السبيل لظهورعدد كبير من الكتب والدراسات والأبحاث المتخصصة، التي تبعته، وركّزت بشكلٍ أساسي على تفحص أشكال الخطاب الغربي وتقنيات هذا الخطاب وأسلوبه وطبيعة عمله، وتصوّره لشعوب العالم الثالث ،بما فيها شرقنا العربي .فالشرق في هذا السياق هو صورة المرآة المشوهة للغرب. وقد أثار الكتاب ردود أفعال مناهضة كثيرة لدى عدد كبير من المستشرقين والباحثين والمهتمين والجامعات حول العالم، جلّها صدر عن المستشرقين الغربيين وعن القوميين الشرقيين على حدٍ سواء. وأثبتت الأيام ضعف وقصور الانتقادات العربية والغربية التي وجِّهت للبروفيسور إدوَرْد سعيد، عن إدراك التلاحم العضوي الكبير بين المعرفة والسلطة، فالعبارة التي حفرت على الحجر الصلد في مبنى إحدى المؤسسات الاستشراقية الهامة، وهي مدرسة الدراسات الشرقية الإفريقية في جامعة لندن تؤكد ما يعني أنَّ (الاستشراق معرفة تنتج القوة Wissen erzeugt Macht).
الجدير بالذكر أنَّ البروفيسور إدوَرْد سعيد اعتبر كتاب (الاستشراق Orientalism) وهو الكتاب الأول في سلسلة من ثلاث كتب هامة، تتناول العلاقة بين العالمين العربي والغربي، أما الكتابين الآخرين فهما: القضية الفلسطينية الذي صدر عام (1979) م، وكتاب ( تغطية الإسلام) الذي صدر عام 1981 م ،ثم أتبعهم بكتاب بعنوان آخر:)الثقافة والإمبريالية( الذي قال عنه في المقدمة إنه بمنزلة الجزء الثاني من كتاب (الاستشراق Orientalism) .
جاء كتاب الاستشراق بمثابة صدمة في العالم الفكري والثقافي الغربي. فبقدر ما أثار اهتماماً في الأوساط الثقافية والفكرية العربية ،وبخاصة النخبة ونخبة النخبة، فإنه أثار بالمقابل، اهتماماً واسعاً لا يقل قيمة وأهمية في الأوساط الأكاديمية والفكرية الغربية،بخاصة وأن الكتاب لم يكتب باللغة العربية وفيما بعد تمت ترجمته إلى اللغة العربية. وهناك ترجمتان : الأولى لكمال أبو ديب صدرت عن (مؤسسة الأبحاث العربية) في بيروت عام (1980) م بعنوان : (الاستشراق – المعرفة، السلطة، الإنشاء)، والترجمة الثانية لمحمد العناني صدرت عن دار رؤية بالقاهرة عام (2006) م بعنوان: (الاستشراق المفاهيم الغربية عن الشرق). كما كتب إدوارد سعيد كتاب آخر بعنوان: ( مسألة فلسطين The Question of Palestine) الصادر عام 1979م شرح فيه القضية الفلسطينية من المنظور الفلسطيني وهو من الكتب الهامة أيضاً.
لقد ذاع صيت كتاب (الاستشراق Orientalism) وانتشر في معظم دول العالم لأنَّ مؤلفه له نفوذ علمي كبير وكونه أحد ألمع أساتذة جامعة كولومبيا الأمريكية المصنَّفة باعتبارها إحدى أفضل وأقوى خمس جامعات في أمريكا، وتفخر سجلات الجامعة الرسمية بحصول مئة وأربعة من خريجيها على جائزة نوبل العالمية للسلام، وتعادل ميزانيتها السنوية ميزانية أربع دول عربية مجتمعة هي سورية ولبنان وفلسطين والأردن. ولولا هذا الموقع الأكاديمي الرفيع الذي تربع عليه البروفيسور إدوَرْد سعيد حتى النهاية، لما استطاع أن يخاطب الجمهور الغربي بكل أطيافه واتجاهاته، وأن يحرِّك بعضاً من المياه الراكدة في رؤاه وقناعاته تجاه الآخر في الشرق، والعربي المسلم منه على وجه الدقة والتحديد.ليس هذا فحسب بل كان إدوَرْد سعيد قبل أن يكتب كتابه عن الاستشراق قد تسلَح بشتى أنواع المعرفة والثقافة المتمثلة في أساطين الخطاب المعرفي والثقافي من الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إلى الفيلسوف والناقد الفرنسي جاك دريدا مروراً بالفيلسوف الألماني، والناقد الثقافي، الشاعر والملحن واللغوي والباحث في الغة اللاتينية فريدريش فيلهيلم نيتشه، والفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل، وبعد أن أعد نفسه في منظومتي النظرية الحديثة والنقد، وبعد أن أنجز عملاً ثقافياً ضخماً وهاماً هو بدايات الذي أثرى كتاب الاستشراق وأغناه لاحقاً بأسلوبه الرشيق ولغته الباذخة ومقاصده الرفيعة، وبعد سيطرة سابقة على عملية الكتابة وفنونها، ومن ثم القراءة المتأنية والعقلانية التي يشير إليها إدوَرْد سعيد بنفسه بعبارة (الاستيعاب وإعادة الاستيعاب).يقول المفكر إدوَرْد سعيد إنَّ اللغة تفرض نفسها علينا بجمالياتها ورونقها وروعتها . بالمثل يمكن القول إنَّ الرد على استشراق المستشرقين فرض نفسه على المفكّر إدوَرْد سعيد. وبالعبارة التي أطلقها إدوَرْد سعيد والتي شاعت بين أصدقائه المناصرين له واتخذوها عنواناً لكتاباتهم: ( اكتب ردَّك على ما كتبوا عنك (write back فإذا كان الاستعمار حسب مقولة الكاتب البريطاني روديارد كبلنغ وأمثاله عبئاً فرضه الله على الرجل الأبيض في تعامله مع الآخر، فالردّ هنا يصبح عبء الآخر بديلاً للسكوت وقبول الأمر الواقع الذي يفرضه ويقرّره الرجل الأبيض ضمن أطروحته واعتقاده .
اللافت هنا أنّ اهتمام الأوساط الغربية المعنية بكتاب (الاستشراق Orientalism) لم يتمثل في النقاش حول أطروحات البروفيسور إدوَرْد سعيد ، حيث وضعه في السياق السياسي – الاجتماعي لمشاريع الهيمنة والسيطرة الغربية على شرقنا العربي بشكلٍ خاص والشرق الأوسط بشكلٍ عام، وأضاء جوانب الصورة النمطية لهذا الشرق الغني الثر بتراثه وتاريخه وحضارته العريقة، خاصة العربي الإسلامي منه، في أذهان المستشرقين الذين كتبوا مئات الآلاف من الصفحات عن الشرق، وإنما من زاوية إعادة التخندق حول مفهوم الاستشراق الذي نقده البروفيسورسعيد. غير أن تحليل سعيد جاء مرتكزاً على سياق معرفي وثقافي وبحثي سابق له، يتضمن أعمال اثنين من المفكرين الأوروبيين المعاصرين هما الفرنسي الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، وهو من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، وكان قد تأثر بالبنيويين ودرس وحلّل تاريخ الجنون في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي). وهو الذي ابتكر مصطلح (أركيولوجية المعرفة( . والفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، ومن الممكن، والحال كذلك، عدَّ هذين المفكرين ممن وضعوا أسس البحث في الخطاب الاستعماري، بالإضافة إلى بعض فلاسفة مدرسة فرانكفورت الألمانية مثل ثيودور أدورنو أحد أهم فلاسفة ونقاد علم الاجتماع في فترة ما بعد الحرب العالمیة الثانیة في ألمانیا. والفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس هوركهايمر، الذي اشتهر بمجهوداته في النظرية النقدية كعضو في مدرسة فرانكفورت الفلسفية للأبحاث الاجتماعية، والذي كتب أعمالاً هامة مثل ( بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية)، و(خسوف العقل 1947) ،وكذلك والتر بنديكس شونفليس بنيامين، الفيلسوف الألماني والناقد الثقافي وكاتب المقالات الشهيرة. يعد مفكرًا انتقائيًا، يجمع بين عناصر المثالية الألمانية، والرومانسية، والماركسية الغربية، قدم بنيامين مساهمات دائمة ومؤثرة في النظرية الجمالية، والنقد الأدبي، والمادية التاريخية. وأيضً الفيلسوفة والمنظِّرة السياسية والباحثة الألمانية حنة آرنت كانت واحدة ممن وضعوا أسس البحث في الخطاب الاستعماري .
هذا ما وقف عنده البروفيسور إدوارد سعيد في الحوار الشامل والغني المشار إليه والمنشور في كتاب (سراج الرّعاة) لمؤلفه خالد النجار، وهو يستقصي العديد من المحاور والمرجعيات وآفاق وينابيع الإلهام ورسائل مجموعة من رموز الكتابة في حقول الفكر والأدب والثقافة والفنون والسرد والفلسفة من مختلف مراكز إنتاج الجمال والمعرفة في العالم .حيث أفاد البروفيسور إدوَرْد سعيد بأنَّ كتابه تم تأويله من قِبَل المستشرقين ك(هجوم عسكري) ضدهم، وأيقظ لديهم ما وصفه بالوعي الجماعي الذي يلغي الوعي الإنساني، فجاءت إجاباتهم على أطروحات الكتاب آلية ودفاعية في الآن ذاته، حيث استفزتهم إعادة البروفيسور إدوَرْد سعيد الاستشراق إلى جذوره الاجتماعية والسياسية التي يريدون حجبها وطمسها.
وكانت مجلة الواشنطن بوست مناظرة قد نظمت بين البروفيسور إدوَرْد سعيد وخصمه المستشرق والمؤرّخ البريطاني الأمريكي بيرنارد لويس، وهو أستاذ فخري لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون ،ومن أبرز المستشرقين المعروفين بتحيزهم ضد الإسلام والعروبة في التاريخ الحديث. ،كان من نتيجتها أنّ حقق إدوارد سعيد نصراً ساحقاً من خلال أسلوبه في المواجهة. ومنذ ذلك الحين، ونجم إدوَرْد سعيد في صعود ونجم خصمه بيرنارد لويس في أفول. وفي هذا السياق، نستذكر كيف أنَّ المؤرّخ البريطاني الأمريكي بيرنارد لويس، عندما تبوأ رئاسة مركز الدراسات الشرقية في جامعة برنستون بولاية نيو جرسي في الولايات المتحدة الأمريكية، أرسل توصية إلى أقسام الدراسات الشرقية مفادها ألا تقوم الجامعة بتدريس كتاب الاستشراق وغيره من الكتب التي ألّفها إدوَرْد سعيد في معاهدها. لكن المفارقة الأكبر هي أن يكفّر بيرنارد لويس البروفيسور إدوَرْد سعيد بسبب أسلوبه الذي تبناه وهو يحمل على عاتقه الدفاع عن الحق والحقيقة في وجه الهجمة الشرسة التي ما فتئ المستشرقون وأعوانهم يقابلون بها الشرق العربي على مدى قرون! وكان المستشرق بلاكيمير قد قال عن كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد إنه : (كتاب مثير للمشاكل (a trouble-making book).في المقابل هناك عدد كبير من المستشرقين يعلنون مواقفهم واتجاهاتهم من الشرق بالعلن. لكنهم في الدوائر المغلقة تكون آرائهم متناقضة وهجومية. وهذا النفاق والرياء انتشر في أبشع صوره في الجامعات والمعاهد الغربية .
المثل الساطع على ذلك باح به الكاتب الباحث إدوَرْد سعيد حين أشار إلى صديق له يعتبر نفسه متعاطفاً تعاطفاً كبيراً مع العرب، أرسل له بمراجعة وافية وضعها للكتاب، وكانت المراجعة حسب تعبير البروفيسور سعيد (معادية جداً ومهينة)، قبل أن يبعث هذا المستشرق الصديق برسالة إلى إدوَرْد سعيد يقول له فيها إنه لا يعتقد ولا يؤمن بما قاله في المراجعة التي كتبها لكتاب الاستشراق، ولكنه كان مضطراً للدفاع عن شرف ميدان بحثه وعن مهنته التي يعتبرها مقدّسة.
يقول البروفيسور إدوَرْد سعيد في هذا السياق إن هذا الموقف الذي كتبه الصديق المستشرق أدهشه، فالإنسان يمكن أن يزدوج في معاييره وينقسم إلى إنسان ومستشرق ولكلٍ فكره ومنهجه، في السر يقر بخطئه وعدم اعترافه بما كتب، وفي العلن يجاهر بموقف نقيض بشكلٍ واضح وصريح حرصاً على الصورة المقبولة في الوسط الذي يتحرك فيه. وفي الحقيقة القاسية نؤكّد أننا قرأنا وسمعنا الكثير الكثيرعن ازدواجية المثقفين عامة .وعدم ثباتهم على فكرة محدّدة، وهو شكلٌ من النفاق والرياء، ويمكن أن نجد أمثال هؤلاء في كافة المجتمعات، والتي تتجلى في الانفصام أو التناقض الحاد بين ما يدعون إليه من أفكار ومفاهيم وقيم، تبدو إنسانية ونبيلة جداً، ومواقفهم العلنية على أنها صريحة وحقيقية في الحياة غير المتسقة مع ما يدعون إليه أو يزعمون.
في الختام يمكننا القول أنه يبقى مفهوم التصورات الثقافية باعتبارها وسيلة للهيمنة والسيطرة والتحكم سمة مركزية لمقاربة البروفيسور إدوَرْد سعيد النقدية كما يقترحها في كتابه الهام (الاستشراق Orientalism) .طرح إدوَرْد سعيد في نهاية حياته فكرةً تؤكّد أن التصورات مهمة للحياة البشرية والمجتمعات الإنسانية، كجوهرية اللغة نفسها ومدلولاتها العميقة، ولكن ما ينبغي إنهاؤه تلك التصورات السلطوية القمعية التي تستند إلى جبروت القوة والعنف لأنها لا توفر أي إمكانية حقيقية للممثَّلين الذين يتدخلون في تلك العملية.وأيضاً يمكننا القول أنه من المحال وضع كل المستشرقين في خانة واحدة أو في سلّةٍ واحدة، لكن أقوال إدوَرْد سعيد هذه تشي بأن الاستشراق، كمنظومة عامة هو على درجة من التماسك والترابط في تبني المواقف والرؤى والاستراتيجيات التي كانت محط نقدٍ حاد من قبل البروفيسور سعيد في كتابه هذا المثير للجدل.