الطلاق الوجدانى والحجر المنزلى فى ظل كورونا

أ.د. جمال على خليل الدهشان عميد كلية التربية جامعة المنوفية الأسبق

هل سيؤدى الحجر المنزلى الى زيادة معدلات الطلاق الوجدانى أم سيكون وسيلة للحد منه؟

نظرا لأن الطلاق  أصبح في المجتمعات العربية ، ظاهرة ، بل سلوكا متكررا ، حيث تجتاح حالات الطلاق مجتمعاتنا العربية، وبزيادة مطردة – خاصة بين شريحة الأعمار الشبابية، والمتزوجين حديثا –  فوفقا للإحصاءات والبيانات الرسمية، فى مستهل العام الجارى، فإن حالة طلاق واحدة تحدث كل 4 دقائق، ومجمل الحالات على مستوى اليوم الواحد تتجاوز 250 حالة ، ينشا عنها مشكلات اجتماعية ونفسية عديدة ، فقد تناولتها دراسات وبحوث عديدة ، واحتلت حيزا كبيرا في اهتمامات القدامى والمعاصرين، وطغت على كثير من كتاباتهم نزعة الحرص على مناهضتها وبغضها لغرض ضبط العلاقات الزوجية والحيلولة دون تفككها .

واذا كان الزواج والطلاق من العلاقات الاجتماعية الراسخة الضرورية لاستمرار الحياة  في كل أنحاء العالم، فاننا نتساءل هل فى زمن كورونا سيختلف الوضع سلبا وايجابا بسبب ما يتعرض له العالم أجمع من حجر صحي، ومكوث الأسرة بأكملها في المنزل لساعات طويلة على عكس ما هو معتاد ، وهل هذا التاثير سيتعلق بظاهرة الطلاق بكل انواعها خاصة ما انتشر حديث تحت مسمى الطلاق العاطفى او الوجدانى الذى ينتشر بين بعض الازواج فى شريحة عمرية معينة .

وقد اشارت العديد من الدراسات أن نسب الطلاق بعد الحجر المنزلى الذي أقرته الحكومات للمواطنين للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد ، قد زادت بنسب كبيرة خاصة بين هيئات التمريض والقطاع الطبى بصفة عامة  ، بسبب الإجهاد الكبير اللائي يقمن به خارج المنزل مما يؤدي لإهمال المنزل والأبناء ثم يقع الطلاق.

كما اشارت الى إنه في الوقت الحالي ونظرا لطول فترة تواجد الرجل في المنزل، قد تحدث بعض المشكلات الزوجية التي قد تتطور في بعض الأحيان  وتؤدى الىى الخلافات ثم الطلاق.  

ففى الظروف العادية كانت العلاقة بين الزوجين تأخذ إطارا معينا ، فكل في عمله وفترة التواجد في المنزل قليلة في الأيام العادية ، فلا يوجد وقت للشجار أو الاختلاف، أما حاليا ومع الظروف الراهنة وتواجد الزوج فى البيت طول الوقت  وفى ظل الخوف والقلق من النتائج التى يمكن أن تترتب على انتشار الفيروس  بشكل يجعل الجميع فى حالة قلق وتوتر ، بشكل يجعل الزوجين غير قادر على تحمل الآخر  والتفاهم معه وبسبب الجو العام المقلق، نجد أن كلا من الزوجين متوتر وهنا قد يحدث الخلاف ، ففي بعض الأحيان نجد أن الزوج بسبب تواجده الدائم فى البيت ، يتدخل في شئون المنزل وفي تفاصيل إدارة البيت والزوجة غير معتادة على ذلك، أو أنه في فترة تواجده يعاني من حالة من الملل والفراغ، فيبدأ في التركيز على التفاصيل الصغيرة لتصرفات زوجته، وهنا ايضا قد يحدث الخلاف فالزوجة غير معتادة على ذلك، وظهر ذلك بالفعل من تزايد معدل الشكاوي الأسرية والزوجية على وسائل التواصل الاجتماعي”.

إلا أن  الواقع المعاش والدراسات النفسية والاجتماعية تشير إلى أن هناك نوع آخر من الطلاق ، وصنف آخر مسكوت عنه  ولا أحد يثيره او يتحدث عنه، ولم يلق الاهتمام المطلوب رغم شيوعه في الحياة الأسرية المعاصرة خاصة فى مرحلة منتصف العمر ، انه الطلاق الروحى او العاطفى والوجدانى  او الصامت او الزواج مع وقف التنفيذ ، وهو يحدث بين الازواج فى مرحلة عمرية معينة ، فهما رغم أنهم يعيشون تحت سقف واحد ، يعيشون حياة الانفصال الوجدانى، فلا تجمعهم مودة ولا رحمة، وربما لايفصلهم عن الطلاق الشرعى سوى نظرة المجتمع وقيوده واكراهات الاسرة ووجود الابناء واحيانا الاحفاد .

فهي حالة يعيش فيها الزوجان منفردين عن بعضهما البعض رغم وجودهما فى  منزل واحـد، ويعيـشان فـي انعـزال عـاطفي، ولكـل منهمـا عالمـه الخـاص البعيـد عـن الطـرف الآخـر وينـتج عنـه بـرودة الحياة الزوجية وغياب الحب والرضا من العلاقة بين الزوجين .

فى هذا النوع يظل فيه الزوجان بدون انفصال رسمي، في حين تتحول الأسرة إلى مؤسسة خالية من المشاعر والأحاسيس والعاطفة والدفء المطلوبَيْن لأداء دورها في المجتمع، ان العديد يعيش تلك الحالة التى قد لاتبدو للعنان ولكنها واقع معاش ، تجد الزوجة نافرة متبرمة لاتطيق الزوج ولا تتحمله نظرا لتصرفاته وسوء معاملته ، لانها لاتجروء على الطلاق او الخلع ، مثلما نجد الرجل غير راضى عن حياته مع زوجة متجبرة مستغلية متسلطة اللسان وسيئة العشرة ولكنه لايلجا الى الطلاق للعديد من الاعتبارات الاسرية والمجتمعية .

فهذا النوع من الطلاق يشير الى وجود حالة من الجفاف العاطفي والانفصال الوجداني بين الزوجين، وبعد كل منهما عن الآخر في أغلب أمور حياتهما خاصة فى المرحلة التى يسميها علماء الاجتماع عادة بمرحلة منتصف العمر.

ونظرا للمخاطر المتزايدة لهذه الظاهرة ، ولانها لم تلق الاهتمام المطلوب رغم شيوعها في الحياة الأسرية المعاصرة ، فان الامر يتطلب ضرورة الوقوف عندها بالتحليل والنقد ، لمعرف اسبابه ومخاطرها على الاسرة والمجتمع ، سعيا للوصول الى المخرج المناسب الذي يعيد التوازن للأفراد الذين يكتوون بنار الاختلافات العائلية، ويتلظّون بتدنّي الحياة العاطفية الأسرية.

فهذا النوع من الطلاق يشير كما تؤكد الدراسات الى  حالة الانفصال الوجداني الناشئة بين الزوجين والقطيعة النفسية الواقعة بينهما، وما ينشأ عن ذلك من بُعد كُلّ منهما عن الآخر في أغلب أمور الحياة اليومية، وغياب روح التوافق على قواسم مشتركة بينهما في المسائل المصيرية المتعلقة بالتصرف والبرمجة والتربية وبناء العلاقات، بسبب ما يشقهما من تنافضات صارخة في السن أو في الذوق أو في الميول أو في الطباع أو في المستوى الثقافي والاجتماعي، تناقضاتٌ تؤدّي بهما إلى حالة من التنافر الدائم والتشنج المُتجدّد، وتُعرّضهما لدوّامة من العنف النفسي واللفظي وأحيانا الجسدي، ويطغى على حياتهما التدمير المتبادل للروح المعنوية والقيمة الرمزية لكليهما، دون أن يصلا إلى الطلاق المباشر لاعتبارات عديدة، لعلّ منها الخوف من تردّي وضع الأبناء والإحساس بالإحراج أمام المجتمع وعدم الاستعداد لمواجهة إجراءات الطلاق وتحمل تبعاته المختلفة، لذلك تستمرّ علاقة الزوجين فقط من الناحية الشكلية وهي محكومة بقاعدة القطيعة العاطفية والتأزيم المتبادل.

          إن مخاطر هذا النوع من الانفصال العاطفى عديدة ويمكن أن تتمثل فى شيوع الصمت وضعف التواصل وغياب لغة الحوار في الحياة الزوجية ، الانسحاب من المعاشرة الزوجية ، تبلد المشاعر وجمود العواطف ، غياب البهجة والمرح والمودة والتودد والأجواء الرومانسية والمداعبة من العلاقة الزوجية ،  غياب الاحترام واللين والرفق بين الزوجين وشيوع العناد و النرفزة والتذمر والشجار والنزاعات لأتفه الأسباب ، الاهمال والأنانية واللامبالاة باحتياجات ومتطلبات وآلام كل طرف ، الهروب المتكرر من المنزل أو جلوس الزوجين في أماكن منفصلة داخل بيت الزوجية ( الانعزال المكاني ، عدم الاشتراك في أنشطة مشتركة ،  الإنسحاب من فراش الزوجية ، النفور الشديد من الطرف الآخر، الشعور بالندم على الارتباط بالطرف الآخر، التفكير بالطلاق أو بالزواج من امرأة أخرى، شيوع ، السخرية والاستهزاء والاستهتار والتعليقات السلبية والتقليل من شأن الأخر وجرح مشاعره بكلمات مؤذية ( المظاهر الجسمية أو أي سلوكيات أخرى )  ، الاكل والشرب بشكل منفصل ، اللوم المتبادل والانتقاص من انجازات وطموحات الطرف الآخر، رمي المسئوليات على الطرف الآخر والتحلل من الالتزامات تجاهه.

          أما عن أسباب هذا الطلاق وذلك الانفصال فهى أيضا متعددة من ابرزها ما اشار اليه الدكتور عز الدين الدنشاوي أستاذ الأدوية بجامعة القاهرة من ان ظاهرة العزوف العاطفي عند الزوجات في منتصف العمر تعزو لأسباب طبية يجب أن يحترمها الرجل ففترة انقطاع الطمث عند السيدة يحدث فيها تغيرات فسيولوجية بسبب انعدام التبويض وانخفاض نسبة هورمون الاستروجين والبروجستيرون في الدم وعادة ما تكون هذه التغيرات في سن تتراوح بين 45 و55 سنة وقد يحدث ذلك مبكراً في سن تتراوح بين 25 و38 خاصة عند المدخنات ، اضافة إلى ضعف ثقافتهما ووعيهما وعدم قدرة كل منهما أو أحدهما على مد الجسور مع رفيق العمر ، اضافة الى الاختلاف الثقافي الكبير، اختلاف الأعمار بشكل كبير، عدم تكيف كل طرف مع رغبات الآخر، الامر يؤدى الى شعور أحد الطرفين أو كليهما بعدم التكافؤ مع شريكه سواء في المستوى الاجتماعي أو المادي أو التعليمي أو في الطموح أو في الميول والرغبات والقناعات إلى إبتعاده عنه شيئا فشيء، كذلك ما احدثته ثورة الفضائيات والانترنت والاجهزة الذكية من تاثيرات سلبية فى هذا المجال بسبب الاستخدام غير الرشيد لها .

          إنّ نتائج هذا النوع من الطلاق  أشد أثرا على الحياة الزوجية من الطلاق المعروف الذي ينتهي بالانفصال المكاني بين الزوجين ، فهو يمثّل فعلا أزمة حقيقية تعصف بكثير من العلاقات الزوجية، كما تُعرّض الأبناء لمخاطر تفوقُ تلك المخاطر المُفترضة التي قد تحصل جراء الطلاق النهائي، إذ في غياب البيت الطبيعي المُترع بالدف والحنان والحُبّ والسكينة والانسجام والتفاهم والنجاعة ينشأ الأطفال نشأة غير سليمة، ويُصابون بأمراض نفسية منها انفصام الشخصية وفقدان الثقة بالذات والعجز عن أخذ القرارات المناسبة.

          إنّ ما يخلقه الطلاق بصفة عامة والطلاق العاطفي خاصة من مآس جمّة في الحياة الأسرية – وفي ظلّ عجز الأزواج عن صياغة رؤية واضحة في التوافق والتعايش والاحترام وفق روح شريعتنا الغراء في الإمساك بمعروف أو التسريح باحسان – يجعلنا لا نتردّدُ في الدعوة إلى التحرّر منه باختيار ما ارتضاه الله عزّ وجل من طلاق نهائي على أرضية من التفاهم بين الزوجين على الاستمرار في تحمّل مسؤولية رعاية الأبناء وتربيتهم بعيدا عن التجاذب والصراع.

وفى المقابل يرى البعض – كما يقولون رب ضارة نافعة – ان بقاء الزوج فى المنزل طول الوقت بعد انتشار جائحة ، يمكن ان يكون فرصة لعودة المودة والرحمة والتفاهم بينه وبين الزوجة خاصة بعد حرص بعض الأزواج على تخطي الأزمة بإيجابية، وقاموا بالفعل بتحويل «القعدة في البيت» إلى أمر تحبه كل النساء، وهو تعلم فن الطهي والمساعدة في أعمال المنزل، وقام بعضهم بنشر صور لهم أثناء القيام بذلك معلقين «قعدة البيت تعمل أكتر من كدة».

كما ان  زيادة الهم المشترك بسبب الفيروس  ، يمكن ان يؤدى  إلى زيادة العلاقات العاطفية بين أفراد الأسرة فى ظل الخوف الجمعى ، والحرص والاشتراك فى إجراءات الوقاية سواء عن طريق الأغذية التى تزيد من المناعة أو غيرها ، ناهيك عن زيادة النقاش حول موضوع مشترك وهى حجم المصابين، وكيفية الإصابة، وكيفية الوقاية، والسلوك اليومى، إضافة إلى محاولة القائمين على الأسرة الاشتراك فى تلبية احتياجاتها من الخارج وغيرها من الفعاليات التى تزيد من التقارب العاطفى والوجدانى وتقضى على ظاهرة الخرص الزوجى وجفاف المشاعر والتباعد الوجدانى والعاطفى ، والقضاء بالتالى على انتشار ظاهرة الطلاق الوجدانى .

انها دعوة للازواج ممن اصيبوا بداء الطلاق الوجدانى للاستفادة من الحجر المنزلى للتعافى منه والعودة الى حياة زوجية تسودها المحبة والرحمة وتقبل كل منكما لشريك حياته خاصة وان الحياة لم يعد فيها وقت للخصام والتناحر .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى