في التَّساكُت
د. خضر محجز | فلسطين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن اتبع هداه. أما بعد، فيقول الله الذي لا إله غيره: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة/256) ويقول عزّ وجل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ (آل عمران/256) ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “مَن سُئِلَ عن عِلمٍ فَكَتمَهُ أُلْجِمَ بلجامٍ مِن نارٍ يومَ القيامةِ” أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.
ولقد تكاثرت عليّ أسئلةُ فريقين، كلاهما يطلب مني قولاً، وقد أضمر أن يرفضه إن لم يوافق هواه. ووالله ، إن شاء الله ـ لا ألجَمُ بلجام من نار، بسبب حفنة من المتنطعين في الدين، أو حفنة من الشيوعيين “التائبين”. ولذلك أقول مستعيناً بمولاي: لقد عقد رسولُ الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بينه وبين المختلفين في العقيدة المتفقين في الوطن؛ ميثاقاً هو “صحيفة المدينة”. وبموجب هذ الميثاق، تم التعامل مع الناس في المجتمع الجديد، وفق مبدأ المواطَنة، القاضي بالمساواة في الحقوق والواجبات، مع ترك كلّ فرد من أهل الأديان الثلاثة ـ الإسلام واليهودية ولم يكن ثمة مسيحيون ـ وما يعتقد. فلم يطلب رسولُ الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من اليهود، الاعتراف به نبياً، ولم يطلبوا منه الاعتراف بأن عزيراً ابن الله. هذا مع أن الدين الجديد أباح الزواج ممن تقول إن عزيراً ابن الله، وأكل طعام أهلها، والوقوف في جنازة أيٍّ منهم مات على دين “عزير بن الله”.
فما كان هذا؟
لقد كان “ميثاق التَّساكُت”
وقد استمر هذا معمولاً به في ديار الإسلام، رغم خيانة اليهود لهذا الميثاق، خيانةً أجبرت الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على ترحيلهم، من العاصمة إلى أطراف الدولة؛ لكنها لم تمنعهم من العيش في الدولة متساوي الحقوق مع السكان، مع أن كليهما يرى الآخر كافراً. بما يدلل على أن تلك هي أفضل وسيلة للتعايش في الوطن، بين المختلفين: التَّساكُت. واليوم تسألني سيدة كريمة: “الكفار في القرآن كانوا كلَّ من رفض دعوة محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فهل يجوز الآن في زماننا أن نطلق كلمة الكفر على غير المسلمين؟ فإذا جاز، فكيف إذن نستطيع المحافظة على وصف الإسلام بالتسامح، وتقبل الغير دون إكراه في الدين؟
وجوابي يبدأ بسؤال: فهل يعتقد أهلنا النصارى أننا غير كفار، ونحن لا نؤمن بصلب عيسى، ونكفر بأنه ابن الله؟ هل يوجد رجل دين من الكنيسة أو المعبد يستطيع أن يقبل بمحمد في الجنة التي يؤمن بها؟ فإذا كان ذلك الجواب نفياً، فلم نسألهم، ولم يتبرعوا بالإعلان. فلم كان ذلك؟ لأننا إخوة في الوطن، رغم أننا لسنا إخوةً في الدين. ذلك لأن قد قضت مصالح التجمع البشري بما قبلناه من أن لكل جماعة من الجماعات، تعيش في مكان واحد، وتتكلم لغة واحدة، وطناً يُعتبر هو الناظم لوجودها الاجتماعي.
فالوطن أصلُهُ المكان واللغة والوحدة. ثم يأتي الدين ليقوّي من وحدة هذا التجمع. فإن كان واحداً غير متعدد بين الأفراد، فهذه أفضل طرق الوحدة، أما إن كان المجتمع مكوناً من عدة أديان، فعلى الأفراد أن يتعلموا التعايش، بما أسميه مفهوم «التَساكُت»، ولا أقول: «التفاهم».
و«التَساكُت» يعني لديّ أن أسكت عن مناقشتك، فيما ترى أن الخوض فيه سوف يهدد علاقتنا. فهو يحمل ـ بالضرورة ـ معنى الإجبار:
1ـ إجباري على السكوت على ما أراه خطأ في عقيدتك.
2ـ وإجباري على السكوت على رفضك المضمر لكثير مما أؤمن به، وأراه جوهرياً في عقيدتي.
3ـ وإجبارك على سكوتٍ مقابلٍ يشبه سكوتي.
ففي الأولى أنا وأنت أكثر توافقاً، أما في الثانية والثالثة فنحن متعارضان، مجبران على القبول بالصمت.
مثال تطبيقي:
لقد اعتبر القرآن أهل الكتاب كفاراً لأنهم أشركوا، فقال: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَة﴾ (المائدة/73). ورغم أنهم أشركوا، فقد أُمرنا بالإحسان إليهم ما لم يقاتلونا. ومن الطبيعي أن نتوقع منهم أن يُحسنوا إلينا، سواء بسواء، في الوطن الواحد وفي خارج الوطن. وليس من إحساننا إليهم أن نُجبَر على اعتبارهم غير كفار، كما ليس من إحسانهم إلينا أن يُجبروا على اعتبارنا غير كفار. كما أنه ليس من إحساننا إلى أنفسنا أن نسأل المواطن القسيس أو الحاخام عن مكان محمد في الآخرة. فالتعايش بيننا إنما يكون بالتساكت: أي أن نسكت عما نعرف من اعتبارهم إيّانا كفاراً، لا نؤمن بالمسيح ابن الإلٰه الصليب؛ ويسكتوا عما يعرفون من اعتبارنا إياهم كفاراً لا يؤمنون بما أُنزل على محمد.
أظن أن هذا هو ما يطلبه الإسلام وحسن المواطنة سوياً. أما القول بأن ديننا هو فلسطين، التي تُوَحِّدُ بين معتقداتنا، فلعمري أن خير بلاد الله مكة لم تستطع ذلك ولا تستطيعه.