دور الفكر العربي المعاصر في مراجعة مناهجه الأيديولوجية
بقلم : عماد خالد رحمة | برلين
قبل الحديث عن التناقضات الأيديولوجية التي يعاني منها فكر النهضة العربية، يبرز التساؤل التالي: وهو هل يُمكن الجمع ما بين ثقافة عربية أصيلة لها جذور عميقة في تاريخنا العربي ،وما بين فكر مُعاصر؟ في هذا الإطار الإشكالي نلاحظ بأنَّ المُثقف العربي بشكلٍ عام ينتمي إلى أحد الاتجاهين. اتجاه مُتمسّك بالتراث العربي القديم ولا يحيد عنه قيد أنملة، لذا نجده يعتبر الفكر ما فكّر به الأوّلون الماضون هو الأساس ولا يمكن تجاوزه، وأن الصواب والحق هو ما اعتقد الأولون بصوابه، بل ويقصر العِلم على ما أنتجه الأوّلون فقط، وهذا الاتجاه يرتكز على مقولة : (ما يمكن أن يقال، كان قد قيل). واتجاه آخر انسلخ من هويّته بشكلٍ كامل كما تنسلخ الحيوانات الزاحفة التي تُبدّل جلدها القديم بجلد أجمل وأكثر نضارةً وحيوية. لنجده قد ولّى وجهه شطر الفكر الغربي الأوروبي ـ الأمريكي واعتنق أفكاره ومفاهيمه ومصطلحاته وحتى مناهجه ،وربما حتى مُعتقداته، بل وقد يتخلّى حتى عن لغته العربية الأصيلة ظانًا منه بأنَّ الخلاص يكمن في الخلاص النهائي أو شبه النهائي من ذلك الحِمل الثقيل الذي يُسمى ثقافةً عربية التي بات يعتقدها بأنها ثقافة متكلِّسة جامدة.
في هذا السياق وغيره من الاتجاهات نجد أيضاً ثمة تناقضات أيديولوجية حادة قامت بدور الإعاقة أربكت فكر النهضة العربية ولا تزال إلى الوقت الراهن الذي نعيش، وتهيمن على الفكر العربي المعاصر، بل إنها في هذه المرحلة تتجه نحو المزيد من القطيعة والعنف والتعقيد. ولعل في صدور أعداد كبيرة جداً من الكتب والأبحا ث والمؤلفات ،والمقالات في الدوريات ،والدراسات ،والصحف العربية حملت عناوين الأصالة والمعاصرة، والديمقراطية والشورى، والعلمنة والدين، والعقل والنقل، والعرب من جهة والغرب من جهةٍ أخرى، دلالةً واضحةً على تجذر الطرح الإشكالي واحتدامه. الأمر الذي بات يتطلب مراجعة نقدية كاملة مبنية على أسس متينة تذهب إلى جذور الإشكال التاريخي منذ صيرورته الأولى وعبر سيرورته، وتؤدي في نهاية المطاف إلى الخروج من الحلقة الواسعة المفرغة التي لا تزال تحاصر الفكر العربي من أكثر من جانب.
على هذه الخلفية تجدنا نبحث عن الإضاءات التي تميزت بالموضوعية والرصانة في التصدي للإشكال الحضاري المزمن من خلال الإحاطة واستقصاء المخبوء والمضمر بفكرنا العربي المعاصر،ومن خلال الرموز العربية الكبيرة وإطروحاتهم المركزية وتناقضاتهم الأيديولوجية ، بغية تكوين جملة من التصورات الأكاديمية الدقيقة لمنظورات ومنظومات مفكرينا وآرائهم الاجتماعية والسياسية والفلسفية والإنسانية .
كما يمكننا البحث حول إمكانية الجمع بين أمرين هامين كنا تحدثنا عنهما في متن النص حول هل يمكن أن نحافظ على ثقافتنا وفكرنا ونعيش حاضرنا، وهل يمكننا أن نحقق معادلة أن تكون لنا ثقافة وفكرعربيين في ظل التقدم والتطور العلمي والفكري الذي يشهده العالم اليوم. ففي مثل هذا السياق الإشكالي نجد أنّ الفيلسوف والكاتب والأكاديمي وأستاذ الفلسفة المصري زكي نجيب محمود صاحب العديد من المؤلفات التي منها : (المنطق الوضعي) في جزأين، و(خرافة الميتافيزيقا) و(نحو فلسفة علمية) كان قد عاش ردحاً من الزمن في الغرب الأوروبي وانبهر بحضارته ومنجزاته في المرحلة الأولى من حياته الفكرية، إذ هي حضارة العلم والإبداع، والقوة والمغامرة ،وتحقيق السيادة شبه الكلية على الطبيعة. إلا أنه عاد آخر الأمر تائباً معتذراً عما قدّم من آرائه، ناقداً آراءه السابقة بقوله: (تمنيت لأمتي العربية في ما سبق أن تكون قطعة من الغرب الأوروبي، لكنني اليوم أريد لها أن تكون أمتي هي أمتي العربية فقط).
وفي مواجهة الذين كان لهم العديد من المواقف المستنكرة لفلسفة الفيلسوف زكي نجيب محمود ، ثم تراجعه عنها، ردَّ الأستاذ الباحث زكي نجيب محمود أنَّ هذه الفلسفة تنحصر في الرؤى الفلسفية المتعلقة بالعلوم فقط، وليس في غيرها من المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية ، كما في الغرب الأوروبي حيث تعرَضت للقضايا الوجدانية واللاهوتية مفاهيم ميتفيزيقية متعدّدة ومتنوعة وهي جميعها لا تدخل في العلوم التجريبية، ويذهب في سبيل تأكيد رأيه محاولة ملائمته بين العلم والإيمان، إلا أنَّ النظرة الصائبة هي التي تجمع بين كل القضايا التي يتكامل الإنسان بها جميعاً. حتى أنه في سنواته الأخيرة عمل على مراجعة مسلماته في فلسفة الوضعية المنطقية وإعادة تصويب الكثير من المفاهيم والآراء، وكذلك رؤيته إلى التراث بكل مفاعيله، داعياً إلى التجديد الفعلي من داخله وليس باستجلاب فكر وثقافة الآخر.
أما الشخصية المحورية التالية فهي شخصية المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري الذي اختار مشروع نقد العقل العربي بغية دراسة النظم (الأبستيمولوجية) المعرفية في الثقافة العربية الإسلامية، شارحاً وموضحاً أنَّ ما سيهتم به ليس الأفكار ذاتها التي يتطرق لها، بل الأداة الحقيقية المنتجة لهذه الأفكار، باعتبار ذلك مدخلاً هاماً وضرورياً إلى فهمنا نحن العرب وفهم تاريخنا وترا ثنا وحضارتنا، وباعتباره أيضاً النظر إلى واقعنا الحضاري ومعرفة العوائق (الإبستمولوجية) المعرفية التي تواجهنا وأسباب تخلفنا. من هنا دعا المفكر الراحل الجابري إلى العودة للتراث كجزء هام من عملية الدفاع عن الذات، واصفاً العلمانية بأنها (مسألة مزيفة) يجب أن يتم الاستعاضة كشعار، بشعاري الديمقراطية والعقلانية.
إنّ جملة الأفكار التي طرحها المفكر محمد عابد الجابري أثارت ردوداً وانتقادات حادة ونقاشات ساخنة عند عدد كبير من الباحثين والدارسين والأكاديميين مثل جورج طرابيشي، ومحمد عمارة، وفهمي جدعان، وطارق البشري وسواهم، هؤلاء اتهموه بالتزييف والتحريف والنظرة التجزيئية، وبعدم إعطاء النواميس والأخلاق الدينية المكانة الحقيقية التي تستحقها في تحليلاته. لكن الراحل الجابري في سنواته الأخيرة كان أكثر اقتراباً من الفكر الإسلامي بشكلٍ كبير، ولا يمكن مقارنته تلك بالمفكر الجزائري محمد أركون أو نصر حامد أبو زيد أو سواهما ممن لهم مشاريعهم الفكرية الفارقة التي لا تلتقي البتة مع فكر محمد عابد الجابري ونهجه الفكري. ونحن في هذا الإطار لن نتطرق لما أورده الباحث الراحل جورج طرابيشي حول هذا الموضوع لكننا سنحاول الاقتراب مما قاله المفكر والمؤرخ العربي فهمي راجح جدعان، في مفهوم (التقدم) خاصةً في مؤلفه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) الصادر عام 1979 م، حيث رأى أن المفهوم مرتبط بمفهومي التغيير والتطور. الأول هو وليد الفلسفة الداروينية التي ظهرت في كتاب أصل الأنواع الصادر عام 1859، لمؤلفه تشارلز داروين،وهو ذو طابع محايد أخلاقياً ويتصل بالكائن البيولوجي أو الحي، أما التغيير فينصب على التطور الكوني الشامل بشكلٍ عام وهو عار عن كل مضمون أخلاقي وإنساني. من هنا وقف المفكر فهمي راجح جدعان موقفاً نقدياً من الليبرالية التي هي صيغة جديدة محدثة من الداروينية التي تقدّس الفردانية بشكلٍ كبير وتغلّب القوي وتسحق الضعيف، والتي لا يمكن في نهاية الأمر أن تكون الصيغة الملائمة للعرب في الإصلاح والتقدم والتطور. وقد رفض مقولة نقد العقل العربي التي أطلقها المفكر محمد عابد الجابري، فالعطب والخلل، في رأيه، ليس في العقل العربي بالذات، بل إنَّ النقد يجب أن يوجه إلى (الفعل)،لأنَّ دور العقل هو دور الخادم للغايات المسوغ للرغبات والحاجيات. يختلف الفيلسوف المغربي، المتخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق طه عبد الرحمن مع المفكر فهمي راجح جدعان، إذ يرى أن روح الحداثة كمصطلح ليست دائماً من صنع الغرب، وليست ملكاً لأمة بعينها بل هي ملك لكل أمة عاشت وتعيش فعل الحضارة. كما يختلف مع محمد عابد الجابري في مقولته الزاعمة أنَّ (العرب لم يدفنوا بعد أباهم أزردشير)، في إشارةٍ واضحةٍ إلى أخلاق الطاعة الفارسية. الأمر الذي ترفضه وتنقضه الحركات الثورية والحراكات الاجتماعية التي عرفها العرب في تاريخهم القديم والحديث وحتى المعاصر.