المفارقة وسرد المراوغة في رواية “مواقيت الصمت” للأديب خليل الجيزاوي
د. السعيد الورقي
أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب جامعة الإسكندرية
مواقيت الصمت عنوان مُشكل لرواية حديثة تطرح العديد من الإشكاليات الفنية مضمونًا وشكلًا، والرواية هي الرابعة في مشروع الكاتب خليل الجيزاوي إلي جانب مجموعتين قصصيتين، وهو ما يعنى أننا أمام إنتاج متمرس واع لديه قضاياه الإنسانية المهموم بها، ولديه تجربته الإبداعية الواعية بأسرار صنعته الفنية، وإشكالية العنوان تأتي في مفارقة الجمع بين المواقيت وهى أزمنة، أي أفعال حركية منطلقة تجاه الآتي وبين الصمت أي السكون، هكذا تبرز ثنائية المفارقة منذ الوهلة الأولي متمثلة في عتبات النص، فكيف للصمت أن يتحرك في زمن أو أزمنة؟ هذا ما تحاوله الرواية في بعديها المكاني والزماني.
ثنائية الغياب والحضور
في البعد المكاني ألح الكاتب علي حي شعبي من أحياء القاهرة، هو حي السيدة زينب العامر بالوجدانيات الروحية بما فيها من صوفية وإشراقات نورانية هي الملاذ للإنسان الذي أضناه الجري وراء ماديات الحياة المعاصرة وما فيها من تلوث للقيم الإنسانية الحقيقية، في حي السيدة زينب تنبت الأحداث وتتحرك، قد تخرج إلي فرنسا وإلي مصر الجديدة؛ لكنها لا تلبث أن تعود، ومع أن البطلة ارتحلت في نهاية السرد إلا أن السرد نفسه يحمل قناعات مؤكدة بالعودة.
وفي البعد الزماني تتالي أزمنة السرد المتداخلة في لحظة زمن السرد لتقدم لحظات لزمن ساكن هو زمن توحد بالمكان في موقف السرد.
هبة بطلة رواية مواقيت الصمت والرحلة عبر الزمان المكاني، البطلة الساردة وعي الفضاء الروائي، تحييا في وعيها شقيقتها التوأم هند سكون الصمت الواعي، فقد ماتت وهي بعد طفلة صغيرة، ومن هنا تأتي ثنائية الغياب والحضور في مقابل ثنائية المواقيت والصمت، وهكذا تحييا هبة صمت هند وحركة هبة، فتتحرك الحياة ما بين السكون والحركة؛ لتقدم مفهوم أزمنة الصمت، والصمت هنا مساحة واسعة تمتد من الذاتي إلي الاجتماعي إلي الواقعي إلي الوجودي.
علي المستوى الذاتي بداية نتعرف علي هند الغائبة الحاضرة التي سكنت بصمتها وعي هبة التي تطاردها أسئلة ملحة حول الحرية والعدالة والصدق وما ترتب علي صمت هذه القيم من فوضي أخلاقية وسلوكية تغلفت كلها بصمت مطبق، تحتار معه هل هو صمت مدرك واع لهذا الانكسار وأسبابه؟ أو هو صمت فقد الوعي بالأشياء؟ هذا الصمت المحير هو الذي دفع هبة إلي النظر والبحث والتساؤل في مشروعها الاجتماعي الواقعي الإنساني حول طبيعة هذا الصمت حتى أنها اقترحت علمًا جديدًا أسمته (علم اجتماع الصمت) ص 162.
قامت هبة بدور الرائي الجوال الذي يلاحظ ويسجل ويسأل ويقدم فروضًا جدلية بحثية ويستنتج، بل يطرح أحيانًا حلولا مقترحة، ويبدو أنها كانت مهيأة وراثيًا للقيام بهذا الدور، فصورت أبيها الذي تستحضره في وعيها العام، وقد ذكرت أنها كانت أقرب الأبناء إليه، صوت أبيها يقول لها في مطلع الرواية مقدمًا هذا التكوين وحركته وموقفه من هذا الصمت البليد وأسبابه ونتائجه، يقول: (ما رأيك؟؛ لأنك ابنتي فقد علمتك ألا تسكتي أبدًا!
هكذا كنت مشغولا يا ابنتي برصد حالة الشارع الذي دخل في حالة صمت مريبة وعاجزة، يمشى الناس مغيبين كأن هذا البلد لم يعد ملكًا لنا، أو كأننا مجرد خدم لهم نلبى كل طلباتهم غير المشروعة قبل المشروعة، أو كأننا أصبحنا جوقة “كومبارس” مجرد هتيفة: بالروح بالدم نفديك يا زعيم!!! وفي الحقيقة يا ابنتي أننا لم نعد نملك أرواحنا، فقد فرت منا منذ زمن بعيد، وأصبحنا نعيش ميتة الأحياء، ولم تعد تجرى في دمائنا الدماء العربية الحارة، بعد أن سلبوا منا أعز ما نملك، وباتت الرجال أشبه بالتيوس المخصية) الرواية ص 27.
تعود الساردة “البطلة” إلي مكانها الزماني منهكة يدفعها ألف سؤال كي تبحث، تسأل مرة ثانية وثالثة، تفتش عن الحقيقة فيداهمها الصمت بكآبته الباردة ودلالته المستنطقة، أحزانها الخاصة وإحساسها بتواجد توأمها معها، موقف أمها منها، قصتها مع سعيد الانتهازي الذي رفضته بعد أن سلمت له نفسها في لحظة تصورتها حرية صادقة، وهذا الصمت الداخلي الذي تعيشه البطلة له انعكاساته في الواقع الاجتماعي، في الفساد الذي عمَّ كل شيء، في مشكلة أطفال الشوارع التي تفاقمت واستشرت في واقع اجتماعي لا يملك إلا الصمت، في العودة الجديدة لحبيبها القديم صورة لكل أساليب الفساد.
من خلال هذه المحاور أقامت البطلة محاورة مع هذا الصمت اللامبالي والذي هدد وجود الإنسان في واقعه الحياتي والوجودي تقول في رسالتها إلي حبيبها السابق سيد الذي عاد مسلحًا بقوانين التعامل الجديد: سعيد الفاتح: “بعد كل هذه السنوات أعود لأبحث وحدي عن الحرية، حرية هذا الشعب؛ لكن أين؟ أين نعثر عن هذه الحرية، حتى نتوقف عندها بالدرس والتحليل؟ لكن لماذا أري الهزيمة ترتسم على كل الوجوه؟ متى تحين مواقيت الكلام؟ متى يصرخون؟ متى يثورون؟ متى… متى؟!!!” الرواية
هكذا أعاد الجيزاوي صياغة الواقع في لحظته الحاضرة مقيمًا جدلية حوارية بين تردي هذا الواقع في أبعاده الذاتية والواقعية والإنسانية وبين الموقف التاريخي بعوامله الفعالة الممهدة للموقف الراهن علي نحو ــ كما رأى د. عبد المنعم تليمة في دراسته عن الرواية ــ أدى إلى تعطيل حركة الجماعة وتوسيع الهوة بين الفئات، وإلى صور غريبة من الاحباطات والتي تؤدي في نفس الوقت إلى تفجير الأشواق نحو الوئام والعدل والدفع إلي الأمام.
الصمت سيد الزمان والمكان
أقام الكاتب خليل الجيزاوي في روايته (مواقيت الصمت) عالمًا افتراضيًا لتقديم حقيقة افتراضية هي فلسفة الصمت والخروج من دائرته، والكاتب يشعر من خلال روايته أن مشاعر الناس توقفت وتبلدت، وأن الإنسان أدمن المذلة واستكان لها، وأصبح الصمت هو سيد الزمان والمكان، استسلم له المهزوم بانكساره، ورضي عنه المستفيد من أطباقه، وهذه مشكلة مريرة؛ لأنها تعنى ببساطة شديدة أن هذا الواقع سوف يتآكل في صمته ويبقي أمل الخلاص أمانة ومسئولية المثقفين، فعليهم تقع مسئولية وأمانة تحطيم جدران هذا الصمت باستنهاض الهمم، وإعلان الثورة والتمرد.
وهذا ما تفكر فيه وتخطط له هبة في مشروعها القائم علي البحث والملاحظة والتفكير في مشكلة من أخطر مشاكل الواقع الاجتماعي هي مشكلة أطفال الشوارع وصمت المسئولين عنها كما أنه المنهج الذاتي الذي اتخذته البطلة في تمردها بحثًا عن الحرية التي ترفض كل صور الصمت، وذلك في موقفها من أمها وموقفها من حبيبها وفي مواقفها من الواقع المحيط بها، بل وفي تمردها علي ما أشيع من سكون توأمها فيها؛ ولتحقيق هذا أقام الكاتب عالمه الافتراضي الذي قام علي تعدد الأصوات السردية من خلال وعي عام هو زمن ومكان السرد، قامت هبة بتقديم هذا الوعي الذي استحضر في لحظة زمان ومكان السرد صوت الأب وصوت الأم وصوت الشقيقة التوأم وصوت الحبيب وصوت هند نفسها، ثم أصوات أبناء الشوارع: علي وصابر وهيثم وعلاء وجنينه وأم دينا.
وقامت هذه الأصوات بإنشاء نسيج سردي متماسك يجعل من فضاء اللحظة زمنًا سرديًا خاصًا، تتلاقي فيه كل الأزمنة بعلاقاتها ولحظاتها الاجتماعية؛ لتتمحور في زمن اللحظة ــ لحظة الصمت ــ الذي أصبح يشكل موقفًا مأساويًا تتحرك كل الأزمنة بعلاقاتها حركات دائرية تتسع أو تضييق؛ لكنها مغلقة، وهو ما يعنى أن الخروج علي هذه الحقيقة الافتراضية يكون بكسر جدار هذه الدائرة، دائرة مواقيت الصمت.
الشخصية المحورية والوعي السردي
اهتم الكاتب خليل الجيزاوي في إقامته لهذا العالم الافتراضي بالشخصية المحورية التي حملت معنى الوعي العام السردي اهتمامًا خاصًا وملحوظًا وأراد من خلالها أن يطل علي عدد من مواقف الصمت التي تفاوتت في درجة الاهتمام، فقضايا المرأة وحقوقها الإنسانية خاصة المرأة الشرقية وموقف المجتمع الذكوري بأخلاقياته وقيمه التي تمثل وجهًا من وجوه مواقيت الصمت، استلفتت نظر الكاتب لكنها لم تلق اهتمامه وزواج السلطة والثروة جاءت عرضًا.
قضية أطفال الشوارع
القضية التي لاقت الاهتمام الأكثر من الكاتب هي قضية أطفال الشوارع مع أنها لا تعكس كثيرًا الموقف الذاتي للبطلة والتي يعكسها أكثر الانتهازية الجشعة التي يمثلها المهندس سعيد الفاتح الذي أحبته البطلة فسلمته نفسها، ثم بغضته عندما رأت ما فيه من انتهازية متسلطة لا تعترف بالآخر، كما أن خروج الساردة بمشروعها التنويري إلي خارج الواقع المحيط يقلل من الاعتماد علي عوامل التغيير فيمن حولها علي نحو يشير إلي الإحساس بمنتهى اليأس وخيبة الأمل، وهي صفات قد تقلل من شأن الإيجابية الملحوظة في هذه الشخصية المحورية.
وقام العالم الافتراضي الذي قدمه الكاتب خليل الجيزاوي في روايته “مواقيت الصمت” علي الثنائية والتقابل، فالأب في مواجهة الأم، وهند في مواجهة هبة، وهبة في مواجهة الأم وفي مواجهة سعيد الفاتح وفي مواجهة مع الواقع المحيط، والروحية الصوفية بحي السيدة زينب في مواجهة التحول المادي الميكافيلي.
وتتضافر هذه الثنائيات المتقابلة؛ لتقدم الحقيقة الافتراضية التي طرحها السرد وهي المفارقة بين الزمن والسكون، من هنا سيطر علي حركة السرد ما يمكن أن نسميه بسرد المراوغة، حيث استخدم الكاتب كل أساليب السرد المعروفة تقريبًا، التقليدية والحداثية، فاستخدم أسلوب سرد الحكي وأسلوب الاعترافات والسرد الحواري، وأسلوب الرسائل، كما استخدم أسلوب المشاهد المقطعة وتعدد الضمائر ولا منطقية الانتقال بينهم.
جمع الكاتب بين هذه الأساليب السردية المختلفة في وعى عام، واستحضر من خلال هذه التفاصيل وعي الشخصيات الأخرى ووعي الأحداث المجردة، بل ووعي الزمان والمكان في لحظة السرد، وأنتج بنية سردية خاصة يمكن أن نسميها بسرد المراوغة؛ ذلك أنه لا يقدم نصًا سرديًا له سمة محددة بقدر ما يقدم نصًا يعترف بكل الأشكال السردية ويتمرد عليها في نفس الوقت، فهو يزاوج بينهما زواجًا مراوغًا، يعترف ويتمرد، يؤكد ويثور، وهو بناء يمشي بصورة مؤكدة مع طبيعة هذه الحقيقة الافتراضية التي قدمها الكاتب في روايته والتي سعت من خلال المفارقة إلي إقامة علاقات جدلية تاريخية بين الماضي والحاضر من ناحية وبين الحاضر والتغيير من ناحية أخري.
وهكذا استطاع الكاتب خليل الجيزاوي من خلال المفارقة وسرد المراوغة أن يقدم نصًا روائيًا جيدًا موازيًا للحظة تاريخية لها بعداها الذاتي والإنساني، وتطرح العديد من الأسئلة التي تناقش أزمة اللحظة كما تطرح عددًا من التصورات والإشكاليات التي يمور بها الشارع المهموم بأمته وقضاياها القومية.