عن دور المثقف في مجتمعه!

سهيل كيوان | فلسطين
استمعت باهتمام إلى موضوع حلقة (بودكاست) في “موقع عرب 48″، وهي المقابلة التي أجراها الصحافي، عبد أبو شحادة، مع د. هنيدة غانم عن دور المثقف التاريخي.. الحقيقة أن هذا الموضوع يطرح منذ قرون! وتوسّع كثير من المفكرين في تحليل تصورهم للدور المنوط بالمثقف، وما هو المتوخّى منه في مجتمعه، سواء كان هذا المجتمع قابعًا تحت احتلال أجنبي، أو أنه في مجتمع يَستعبد شعبًا آخر ويحتل بلاده، مثل مساءلة المثقفين الفرنسيين عن مواقفهم من استعمار الجزائر!؛ قد يكون في مجتمع متحرر سياسيًا من الأجنبي، ولكن الحرّية مصادرة بأيدي البلد أنفسهم، وقد يكون في بلد مستقلٍ شكليا، ومحكوم بواسطة الحاكوم (الريموت) بأزرار أجنبية.
ينظر مجتمعنا إلى من يحقّقون درجات علمية متقدّمة بتقدير كبير، حتى من دون معرفة دقيقة للموضوع الذي تميّز فيه هؤلاء، وبدون اعتبار لممارساتهم في السياسة والحياة، ويكفي أن يقال بأن فلانا حصل على دكتوراه أو على شهادةِ الأستاذية، أو أنه يحاضر في مؤسسات علمية كبيرة، حتى يحاط بهالة كبيرة من الاحترام.
الكثير من العائلات في بلداتنا، ما زالت تعتمد مثقف العائلة مرجعية لها في القضايا العامة، مثل الانتخابات المحلية، ولدى صاحب الشهادة الأكاديمية قدرة كبيرة على تجنيدهم لصالح مرشح ما أو قضية معيّنة، كيف لا، وهو الذي يحظى باحترام مؤسَّسات علمية كبيرة.
في أحيان كثيرة نرى عناوين في مواقع عربية محلية “بفخر واعتزاز” و”ارفع رأسك فأنت فلسطيني” أو “هذا عربي يرفع الرأس”، وكل آيات المديح المبالغ بها أحيانًا، لشخص قد حقق إنجازًا علميًا في بحث ما في مؤسسة أميركية، أو حتى في مركز أبحاث إسرائيلي، دون أن نعرف موقفه من القضايا السّياسية والاجتماعية التي يواجهها مجتمعه.
قد يكون صاحب إنجازات علمية مهمة في مجاله، ولكن قد تكون مواقفه الاجتماعية رجعية بامتياز، ولم نعرف رأيه في كثير من القضايا الأساسية التي يحتاجها مجتمعنا لدفعه إلى أمام، مثل موقفه من قضايا المرأة.
لا بل أن بعض إنجازاته وتقدّمه العلمي قد يكون مرهونا بتنازله عن قضايا جوهرية تخص قضية شعبه وتجاهلها، أو اتخاذ موقف فضفاض منها.
بلا شك أن بعض المثقفين العضويين لعبوا أدوارًا في حياة مجتمعاتهم وكانت لهم أدوار لا يمكن تجاهلها، ومثال ذلك دور الشعراء والصحافيين العرب قبل النكبة، فقد حذّروا ومنهم؛ إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وأبو سلمى ويوسف حسّون (القاروط) ومطلق عبد الخالق ونوح إبراهيم الذي كان يطوف في القرى العربية مع الثوار لتثوير الناس. واستمر دورهم بعد النكبة وزاد عليهم عدد آخر من الشعراء والكتاب، إضافة إلى مواقف الصحافيين وكتاب المقالات في الصف التي كانت تصدر في فلسطين.. المثقف العضوي يتفاعل مع قضايا مجتمعه، ولا يهرب إلى الصّمت أو إلى الموقف الغامض.. المثقف يواجه الجمهور ليس بالذات بما يحب أن يسمعه أو يقرأه هذا الجمهور!.. يحرص على نشر حرية التعبير والإبداع والفنون بمختلف أشكالها، ويدافع عن حرية التعبير حتى مع تلك التي لا يتفق معها.
الموقف الرائج في شريحة أصحاب الألقاب الأكاديمية هو التجاهل، ويبدو أن أكثرهم يفضّلون الانشغال في تحقيق ذواتهم بعيدًا عن الضغوطات، ويفضّلون التصالح مع الجميع، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، محاولين استرضاء الجميع، ويتحدثون ليس بقناعاتهم العميقة، بل بما يدفعهم خطوة إلى أمام لتحقيق طموحاتهم الشخصية.
المثقف العضوي لا يرى تناقضًا بين طموحاته الشخصية ومصلحة شعبه.. قد تكون المواجهة السياسية مع السلطة أسهل من المواجهة في القضايا الاجتماعية، فالموقف السّياسي متاح في الهامش الديمقراطي من دون مجازفة في التأثير على مسار الحياة الشخصي في كثير من الدول، بينما قد يكلف الموقف الاجتماعي ثمنًا باهظًا، وخسارة الهالة التي قد تتبدّد أمام زخم التيار الشعبوي العام وقدرته على الإساءة.
المواجهة الاجتماعية هي الأصعب، عندما يطرح النقاش حول قضايا حسّاسة مثل الموقف من المرأة وجرائم الشرف والعنف والموقف من الفنون ومن السلفيات الفكرية والمواقف غير المحبوبة لدى الجمهور الواسع.
المثقف لا يصمت على التحريض الطائفي والقومي والعشائري، وينبري ليعارضه أمام أي طرف كان، ويرفض بحزم اتخاذ مثل هذا التحريض للوصول إلى مكاسب شخصية.
المثقف يبادر إلى السلم الأهلي، ويعمل ما يستطيع ضد العنف ويدينه بوضوح مهما كان من يمارسه.
المثقف يرفض النظرة الفوقية ضد أي شريحة اجتماعية كانت، من أي منطلق كان. المثقف يحارب الفساد والمفسدين، ولا يجامل في هذا أحدًا. المثقف لا يمالئ السلطة المركزية ولا المحلية، ويتصرّف بقناعاته. المثقف يضع قدراته العلمية وثقله لخدمة مجتمعه وشعبه وقضيته العامة.
المثقف لا يمتدح دكتاتورًا أو حاكما فاسدًا، وإذا لم يستطع مهاجمته فعلى الأقل أن لا يبرر القمع والفساد. المثقف ينبري في لحظة الحقيقة، ويعلن موقفه بوضوح حتى ولو كان موقفه غير شعبي.
لا أدعو بهذا إلى أن يلقي المثقفون بأنفسهم إلى مواقف فوق طاقاتهم وتهلكهم، ولكنهم مطالبون باتخاذ مواقف تنويرية ومتقدّمة حيث يستطيعون ذلك، دون النظر إلى المكاسب الشخصية الآنية، وأن يدركوا أن شعوبهم تحتاجهم، وأن يضعوا نصب أعينهم المصلحة العامة الأوسع لشعوبهم، لتكون طموحاتهم الشخصية جزءًا منها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى