هل أصبح الجمهور العربي مبغضا للشعر الملتزم؟
ثناء حاج صالح | ألمانيا
الشاعر أشرف حشيش أنموذجا
عندما يوقف الشاعر معظم شعره أو كلّه على مسألة أو قضية واحدة لا يبارحها إلى سواها إلا نادرا، فاعلموا أنه شاعر ملتزم بهذه القضية . بغض النظر عن طبيعتها وماهيتها ، سواء أكانت قضية سياسية أو عقدية أو اجتماعية …إلخ .
.
والشاعر الملتزم يضع -بطبيعة الحال -شريحة المتلقين التي يتوجه إليها بشعره في ذهنه (جمهوره) في أثناء الكتابة . ويحاول أن يُكيّف نصّه من الناحية البنيوية والمعنوية والجمالية ، للوصول بخطابه الشعري إلى أفهام وذوائق من يمثلون هذه الشريحة من الجمهور ، لإقناعهم بالمبادئ الفكرية والعقدية التي ينتمي هو إليها ويتبناها، وسوف يكون له تأثير حقيقي وكبير جدا في إفساد الذائقة العامة أو تنميتها ، على حسب الأثر النفسي والفكري الذي تتركه أيديولوجيته في نفوس المتلقين الذين هم بشر ويتأثرون ويتفاعلون مع الشعر والأدب ويمكن توجيههم بكل بساطة من قبل الشعراء الذين يحبونهم .
.
فالشاعر الذي يرغب بتوجيه ذائقة الجمهور وتربيتها يستطيع ذلك عندما يضع في خطته فعل ذلك .
.
والشاعر صاحب القضية الوجودية التي تمسّ جوهر وجود أمته، أو تمسّ شخصيتها الحضارية يمكنه توجيه جمهوره وتعبئته نفسيا للتمسك بالمبادئ التي ينطلق منها هو ويتمسك بها هو .
.
وكذلك فإن الشاعر الذي يلزم قضية سطحية أو فاسدة (كقضية الإثارة الجنسية) دون وعي منه، فتراه لا يفارقها في شعره إلا نادرا ، فلا بد لنا من وصفه بأنه (شاعر ملتزم) . شاء أو أبى .
أين مشكلة جمهور الفيسبوك مع شعر الالتزام؟
.
المشكلة لا تكمن في أن الجمهور العربي عموما بات يأنف من الالتزام، فهناك شعر ملتزم لكنه لا يلتزم بالقضية الفلسطينية أو غيرها من قضايا الأمة المصيرية ، وإنما يلتزم (القضية الجنسية) فقط ، كما هو الحال في شعر الشاعرة الملتزمة ريم سليمان الخش، والتي سخرت قلمها وشعرها لمعالجة قضية (الغريزة الجنسية)، فلو دخلنا صفحتها لأدهشنا وجود عشرات الآلاف من المتابعين، وأعداد هائلة من الإعجابات تذيّل تلك النصوص المبتذلة وتمتدح إبداع شاعرتها .
.
هذا الانتحاء نحو شعر الغريزة الجنسية أصبح ظاهرة واضحة يمكننا تقصّيها في كل النصوص التي تقدِّم الغزل المثير ، والتي قد تخلو حقيقة من القيمة الجمالية والإبداعية؛ كونها تعيد ما هو مستهلك وممضّ، مما أكل عليه الزمن وشرب من الصور الشعرية . ومع ذلك فمثل هذه النصوص تحظى بمئات الإعجابات ويتزاحم حولها المراهقون كبارا وصغارا ، بمقابل النصوص البائسة في حظ المتابعة، وهي التي تحفل بالابتكار الجمالي والإبداع الحقيقي فلا تحظى إلا بالنذر اليسير من الاهتمام، بسبب تفاهة وسطحية الجمهور، وتدنّي مستواه في تذوق واكتشاف مكامن الإبداع الحقيقي في تلك النصوص.
.
فالمسـألة إذن ليست مسألة رفض مبدا الالتزام في الشعر ، وإنما هو رفض الالتزام بمواضيع محددة (كالقضية الفلسطينية أو قضايا الثورات العربية)، وتأييد الالتزام بمواضيع أخرى (كقضية الإثارة الجنسية). ولا داعي لغمر رؤوسنا بالرمل كما تفعل النعامة، فقد شبع النقد من التجاهل وتعطّلت أعين النقّاد من ملازمة التعامي.
.
ولنبق مع الشعر الملتزم ذي المقاصد العالية والذي يكون منضبطا بوعي الشاعر لقضيته من الناحية الأيديولوجية . فمنطلقات تقييمنا النقدي (للشعر المؤدلج) عندما يكون وسيلة لغاية أعظم منه، يجب أن يختلف عن تقييمنا للشعر بمعناه المطلق (غير المؤدلج). .
فالتقييم النقدي هنا (ومن وجهة نظري الشخصية) يجب أن يتجاوز تحليل المستويات الأسلوبية المقتصرة على المادة اللغوية في النص، إلى ما هو أعمق وأبعد منها من الناحية الدلالية .
.
وهذا يحتم علينا الأخذ بالنظريتين النفسية والتاريخية ، وكذلك محاولة الربط مع ما هو اجتماعي أو مجتمعي (سيميائيا). لنكون موضوعيين في فهم سياقات الشعر المؤدلج ، ولكي نتجنب التخشب في تحليله وقراءته النقدية.
وبغض النظرعن مدى انسجامنا واتفاقنا مع طبيعة هذه الإيديولوجية الشعرية أو معارضتنا لها، فلا ينبغي لنا أن نخلي الشاعر الملتزم من مسؤوليته الفنية والجمالية والشاعرية . لكننا بالمقابل مطالبون بفهم منطلقاته الأيديولوجية لفهم تفضيلاته وخياراته الفنية من الناحيتين الأسلوبية والجمالية.
.
فلا شك أن ما يحدده الخيار الأيديولوجي للشاعر الملتزم من غايات أيديولوجية، يترك إثرا مهمّا وملحوظا، في اختياره للأدوات البلاغية والبيانية، وكذلك في تفضيلاته لخصائص أسلوبية معينة، واعتماده عليها أكثر من غيرها، مثل الألفاظ البسيطة السهلة ، والتراكيب اللغوية القصيرة وغير المعقدة ، والصور الشعرية العفوية الأقرب إلى الذهن في انفعالاتها ، وغير المغرقة في الغموض أو الغرابة التي لا تقصد سوى الإدهاش المجرَّد.
.
وهذا يرجع إلى وعي الشاعر الملتزم بأنه حين يقدِّم سلعة الشعر ( بمعناها الإيجابي) فيجب أن تكون مشفوعة بالخصائص الفنية النافعة التي تلائم الشريحة المقصودة من الجمهور الذي تخاطبه وتتوجه إليه وتبغي التأثير فيه. وإلا فإنه سيفشل في تحقيق غايته الأيديولوجية من كتابة الشعر.
.
شاعر المقاومة الفلسطينية أشرف حشيش يمثّل أنموذجا للشاعر المعاصر الملتزم ، والذي لا ينال أمثاله من الشعراء الملتزمين حقهم من المتابعة من قبل جمهور الفيسبوك الذي تسيطر عليه السطحية في تفضيلات المتابعة والقراءة .
واقـــــرأ مـعـلّـقـة الــعذاب نــديـرُهـا
من (شارع الشهدا) إلى (عَبَسانِ)
.
لــم أنـشـد الـقـصر الـمـنيف بـلـهفةٍ
أو كـنـت أطـلـب مـجلس (الـنُعمان)
.
أنــا صـوت مـن قـالوا الـتحزّب بـدعةٌ
والـعـنـصـريـة بـــنــت بــنــت جبــانِ
.
نـتـخـيّـر الــمـسـك الـلذيـذ لـبـوحـنا
كــتــخــيّـر الــشــهداء لــلــمــيـدان
,
هو كغيره من الشعراء الملتزمين بقضايا الأمة يعي أن الشعر الغائب عن الوعي قد طغى ، وأننا يجب أن نقول كفى بعد أن “هَزُلتْ” المسألة ، وابتعد الشعر وأصبحنا نفتش عن صهيل للحصان / الشعر الذي ينبغي عليه أن يصهل من تلقاء نفسه .
كفى شعرا .. فقد “هَزُلتْ” وصرنا
نفتشُ عن صهيلٍ للحصانِ
.
فمنذ سقوطِ أندلسٍ.. سقطنا
وسلّمنا المواقعَ من زمانِ
.
لنا في كل نائبةٍ رقابٌ
معلقة على حبل المعاني
.
وتُنهبُ أرضُنا شرقا وغربا
ونصدر بالقصائد والبيانِ
.
يكاد (الزيت) يُسرَجُ في هدايا
إذا نمنا …. لضباط الـ(كيان)!!
.
وقضية الالتزام كمنهج لا تقف عند القضية الفلسطينية بكل تأكيد لأن الشاعر الثائر والمقاوم هو بطبيعة الحال شاعر أصيل ومنتم لكل أمجاد أمته . فلذلك تراه لا يفرِق بين فلسطين وبين الجزائر في نهج الثورة
ماذا أقول عن الجزائر ليتني
يوما أمرّ ولو كطيف عابرِ
.
وأقبلُّ الرملَ الذي يوما مشى
بطلٌ عليه بنهج عبد القادرِ
.
بيد أن الشاعر الملتزم ينطلق من بيئته ودائرته المحيطة لأن التصاقه بمعاناتها يجعله ناطقا باسمها وحاملا عبء إصلاح أخطائها لشدة معايشته لأحداثها وملابساتها .
.
سحقا لكل خصومة تنمو على
كدر الضغينةِ
كي تبدِّدَ عيشا
.
من حقِّ قلبيَ أن يمدَّ نفوذَهُ
ضوءا ..
ويوقفُ بالمحبةِ طيشا
.
ولحرفِيَ الشفافِ أن يستلّني
من غمدِ ذاكرتي لأهزمَ جيشا
.
فطهارتي بالود تدفعني إلى
حب الجميع ولا أخص قريشا
وهذا ما لا يمكننا أن نغفل عنه في موقف الشاعر أشرف حشيش من التناحرات التي تحدث والتي يحاول أن يجد لها حلّا شعريا على الأقل ليرأب الصدع من خلال الشهادة ، فتتردد أسماء الشهداء وأسماء حركات التحرير بين قوسين في نصوصه على الدوام ، وما أكثرها !
.
(حماسُها)قصةٌ في قلب (فتحاوي)
أعادَ قيسا إلى أحداثها الراوي
.
شفاهها الواو ثم الدال بينهما
عينُ على ( الوعد)بين الدال والواوِ
.
.في كفّها (الأخضر) الولهان طلّته
قد استفزت عيون (الأصفر) الهاوي*
.
ما دام فيها (ضياءٌ ). وجهها نَضِرٌ^
ووجه حاقدها في ظلمةٍ ذاوِ
.
وهناك فرق بين خصائص لغة الشعر الوطني الذي يتوجه إلى القارئ البعيد عن الفعل الميداني، والذي يقرأ وهو ممد°د على أريكته في بيته ، وخصائص لغة الشعر الثائر التي تتوجه إلى القارئ الذي يخوض المعركة في ميدانها، لتثير حماسه وتثبت السلاح في يده .
.
مَدّوا رقاب المفردات لشفرةٍ
شُحِذَتْ بترميزٍ فكانت جائرة
.
لم يرحموا المعنى فسال خيالُهُ
يشكو أحاسيس السطور الفاترة
.
فرمى وأوغل في الغموض ولم تكن
منه السهام عن الغموض بقاصرة
.
لكنه الأقصى وليس خرافةً
حتى يبوح تفاخرا ومتاجرة
.
(فشرَتْ) غوايات الغلوّ أمامه
وأمام عزته ستبقى (فاشرة)
.
وأهم هذه الخصائص هي العفوية والبساطة في الألفاظ ، والتي تقترب جدا من مفردات الشارع، وبناء التراكيب اللغوية بناء سهلا، وتكييف البيان ليكون غير معقد في صوره الشعرية ، بل ليكون مندرجا في سياق الاندفاع العاطفي والإيقاعي ليخلق نوعا من التأثير الحماسي .
لا توقفي قلمي عن الفرحِ الذي
قد عادَ مُبتهجا يحدِّقُ فيكِ
.
وتجمهري باب القصيدة علّني
في الذوق أصبح شاعرا أكفيك
.
لولا صمود الحرف في نصي لما
صدرَتْ حروفي بسمةً من فيكِ
.
كثير من نصوص أشرف حشيش هي قصائد مناسبات ، ولكنها ليس كمناسبات الاحتفالات أو المهرجانات أو ما إلى ذلك ، بل هي مناسبات الفعل المقاوم الحي على أرض الواقع اليومي ، عندما يطعن شاب فلسطيني شخصا صهيونيا بخنجره ، او عندما تسقط صبيّة وهي تشارك في انتفاضة أو مظاهرة أو عندما يعدمون أسيرا أو يطلقون سراحه .. إلخ .
.
لمْ ينكسر بــ(جنينَ) غصنٌ. هل ترى
بمرور ريحِ الشرِّ يُكسَرُ (رَعْدُ)!!
.
لم تنته الضرباتُ. ما دامت لهم
قدَمٌ على الأقصى تصولُ وتعدو
.
فارقتَ دارَ مطارقٍ ومشانقِ
ورحلتَ منها ..والسما والطارقِ!
.
ورحلتَ منها ..لا تردُّ تحيةً
وتقوم مبتسما كما في السابقِ
.
لو ترجعُ الخنساءُ يخجلُ دمعُها
من ذِكْرِ (صخرٍ) عن (علاءِ)الشاهقِ
.
وأبو ذؤيبٍ سوفَ يذكرُ( نادرا)
ويقولُ في (سندٍ)بدمعٍ خانقِ
.
أما التهاميُّ الذبيحُ على ابنه
فرأى الرثاءَ عليه ليسَ بلائقِ
.
إنّا خُلقنا للرصاص ومن نجا
بالقنص لا ينجو بقصفٍ مارقِ
هذه الأحداث لها من الحرارة الانفعالية والوجدانية في أرض الواقع رصيد كبير جدا بحيث أنها تخرج بها عن نظام شعر المناسبات الرسمية المعروف . لذا فالمقارنة بين تلك المناسبات وهذه ليس عادلة . كما أن مطالبة مثل هذا الشاعر بشعر معقد بلاغيا وبيانيا أمر غير صحيح على الإطلاق. بل الأنسب أن تكون أساليب الشعر المقاوم أقرب إلى الأناشيد والأهازيج الشعبية التي يتم ترديدها في الميدان لتلهب حماس المنتفضين وتجعلهم أقدر على مقاومة الرصاص والغازات المسيلة للدموع .
.
ضاقَ الخناقُ على المدينة ، صبحُها
غازٌ مسيلٌ للدموعِ ونارُ
.
والحالُ نفسُ الحالِ كسرُ جماجمٍ
قتلٌ يروّع أهلَها ودمارُ
.
فإقامةُ الصلواتِ ترهبُ غاصبا
وتغيظهُ الدعواتُ والأذكارُ
.
ما طالَ ظُلمٌ باقتحامٍ سافرٍ
أو فرّ من ضرب الرصاص نهارُ
.
الشعراء يعكسون في لغتهم وأغراضهم شخصيتاهم الخاصة إنسانيا وأدبيا، كما يعكسون الشخصية العامة للشريحة المتوقع أنهم يخاطبونها ويتوجهون إليها بأشعارهم ، لذا ، فليعلم كل معجب بالشعر الجنسي المقزز أنه يدلّ على مستوى ثقافته الضحلة ومستوى أخلاقه المتردية، عندما يترك إعجابا على نص جنسي مسفّ خالٍ من القيمة المعنوية والجمالية .
فلماذا يتألم من عزوف الجمهور شاعر مثل أشرف حشيش سخر قلمه لقضية هذه الأمة الكبرى ، فتقرأ العتب العميق والاستغراب في شعره؟
.
لا يابنَ ديني ، كيف خُنتَ دموعي
وغضضتَ طرفَكَ عن كسورِ ضلوعي؟!!
.
جرّأتَ بالصمتِ الكلابَ فعربدوا
وَطْأً على المسموح والممنوعِ
.
وبخِلتَ في نصري بنشرِ عبارةٍ
قد كنتُ أبصرُها مضادَ دروعِ
.
ما أصعبَ الوجعَ الذي أحدثتَهُ
في الحرف والعنوان والموضوعِ
.
هل القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين فقط ؟
.
أم أن سياسة التطبيع الخفيّة قد أرهبت الجمهور العربي كما أرهبت الشعراء العرب وألهتهم عنها في وقت نحن أمس ما نكون فيه، لإعادة استغلال الشعر ليكون مثيرا لمشاعر الانتماء عند أبناء هذه الأمة، ورابطا ثقافيا ونفسيا مع قضاياها. و خاصة بعد أفواج الهجرة باتجاه الغرب ومحاولة سلخ العقول والقلوب بحجة دمجها في المجتمعات البديلة من قبل حكومات تلك البلدان) ؟
.
