قراءة في كتاب: شعراء عُمانيون للشاعر سعيد الصقلاوي
أ.د. فليح مضحي السامرائي | كلية الآداب | جامعة نزوى
يعدّ كتاب (شعراء عمانيون)(^) للشاعر سعيد الصقلاوي كتابا تأسيسيا في مجاله على مستوى التعريف بالتاريخ الشعري العُماني منذ أقدم الأزمنة، وقد اجتهد المؤلّف في رصد تجليات الخطاب الشعري العربي على هذه الأرض المعطاء من عصر ما قبل الإسلام، على النحو الذي يكرّس قيمة المكان العُماني في التاريخ العربي الإسلامي من جهة، ويستعرض من جهة أخرى دور عُمان في تقديم رؤية شعرية عربية عبر الأجيال، من أجل تقديم معلومات مهمة حول الموضوع تثري القارئ العُماني والعربي على حدّ سواء، ولا سيما أن هذا التاريخ يكاد يكون مجهولاً بالنسبة للقارئ العربي وربما العُماني أيضاً، وذلك لعدم وجود مثل هذه الكتب التي تسهم في التعريف بشعراء عمّروا الأرض العُمانية بالشعر، حالها حال المناطق العربية الأخرى ذات التاريخ العريق في مجال الإبداع الإنساني.
تنطوي المقدمة التي وضعها الصقلاوي لكتابه على وعي نقدي ومنهجي كبير في فهم الشعر وتلمّس خطوطه العريضة وإدراك قيمته الثقافية والحضارية لدى الأمم، فضلاً عن مقصدية نقدية واضحة في الانتقال إلى منطقة التداول الواسعة لتلقّي المعلومة حول هذا الموضوع، فيقول ابتداءً (لم يقصد من وضع هذا الكتاب أن يكون خروجه وفق الإطار الأكاديمي؛ وإنما أريد منه أن يقدم المعلومة في ثوبها البسيط ونهجها الموصوف بالسهولة لتكون في متناول الجميع وفهم الجميع.)، وهي قضية منهجية واعية تخضع لسياسة منهجية عارفة بما هو المطلوب من كتاب يسعى هذا المسعى.
إن هذا الكتاب هو حصيلة مقالات كثيرة كان قد نشرها الكاتب على صفحات الجرائد كي تكون في متناول القرّاء جميعاً في أثناء نشرها على مدى حقبة زمنية طويلة، ومن ثم جاء جمعها في كتاب من هذا النوع لاستكمال المهمة على أتم وجه ممكن، فهو يقول في مقدمته الوافية (فهذا الكتاب خطاب لكل الفئات وليس للخاصة منها فقط، وحديث ودّي يلامس كل الأفئدة ولا يقتصر على مجموعة بذاتها، وكان لنشره على صفحات الجرائد التأثير الأقوى على تشكله في صياغته البسيطة وخطابه الذي يجرى للود أنهارا تفيض بمعرفة قديمة جديدة، إنها معرفة اعتنق فيها القديم بالجديد مناسباً المدى التاريخي لعمان وللحضارة الإسلامية.)، ضمن رؤية عميقة شعرية وأدبية وثقافية وحضارية واسعة، تحاول أن تخلق تعاضداً بين القديم والجديد لبناء مشروع ثقافي في مجال الخطاب الشعري العُماني.
عمل الكاتب على متابعة (الشعراء العُمانيين في مهاجرهم فضلاً موطنهم الأصلي بغرض نفض غبار الزمن عن أصولهم العريقة المنتمية إلى جذور الشجرة العمانية أياً كان تمددها في بغداد، والبصرة، ومصر، وزنجبار، والمغرب العربي، وخراسان، وغيرها …. واستدعى ذلك الاستعانة بعدد لا بأس به من المصادر المتنوعة والمراجع المتعددة.)، وكان الحرص والدقة في التعامل مع المصادر سبباً في تقديم معلومات جديدة لم تكن معروفة عن شعراء لهم صولات وجولات في الشعرية العربية القديمة، وكان للكاتب فضل التنقيب عن هذه المعلومات للتأكيد على نوع من الانتماء إلى أرض عُمان.
تنطلق الرؤية التأسيسية لهذا الكتاب من طبيعة الأهداف التي يبدو أنها تتجاوز القضية الشعرية المحضة إلى قضية ثقافية وتاريخية أكبر، تروم تحقيق غايات تميط اللثام عن تاريخ عُمان وما عانته من تهميش وإقصاء في الدرس التاريخي والحضاري في المنطقة، وهو يقول في هذا السياق (والهدف الثاني الذي يسعى إليه هذا الكتاب هو إثبات الوجود العماني بكل مكوناته وقيمه الثقافية، هذا الوجود الذي لم يتخلف عن مواكبة النمو الحضاري العربي ولم يكن بمنأى عن التأثيرات التي ماجت بساحة الأدب العربي، وبالرغم من الضباب الذي غشى في فترة ما السماء الثقافية في عمان إلا أن هذا أيضاً تمدد وألقى بظله على إن لعمان مشاركة عظيمة وجليلة في صنع التاريخ الحضاري الإسلامي والعربي، حيث تجلت مشاركة أبنائها في الفتوح الإسلامية في خراسان ومصر والمغرب العربي وتقلدوا كثيرا من المراكز القيادية في الدولة الإسلامية منذ بداياتها الأولى)، على النحو الذي يكشف عن حقيقة وجودية تاريخية في خطورة هذا المكان العربي الإسلامي “عُمان” في حضارة المنطقة، بوصفه مكاناً يحمل تاريخاً حافلاً بالأحداث بالمعنى الذي لا بدّ وأن يكون فيه حافلاً بالشعر، في مجتمع عربي يمثل الشعر ديوانه الأصيل الحقيقي.
تخضع قضية التهميش لدور عُمان في صياغة حضارة المنطقة لجملة من العوامل التاريخية المتعلق بالأحداث التي أثّرت في رسم سياسة هذه المنطقة، (والهدف الثالث الذي يسعى إليه هذا الكتاب هو الإشارة إلى دور عمان الذي حولت الخلافات السياسية، والعصبيات القبلية، والأحداث الخارجية وكذلك الداخلية، أن تدثره بعباءة النسيان. لكن القدر شاء أن يحفظ لهذا البلد بعضاً من إسهاماته التي أشارت إليها المراجع الأدبية والمصادر التاريخية، وإن كانت هذه الإشارات غير كافية بسبب انعدام الإسهام العماني في المهاجر المختلفة العربية والإفريقية والأسيوية، والتي كانت تبتعد عن مراكز الثقل الحضارية، إضافة إلى التوجيهات السياسية للحكام من خلفاء وولاة وعمال.)، فقد ظلّت عُمان تؤدي دوراً وسطياً في مقاربة الأمور والنظر إلى الأشياء حين يختلف المختلفون، ويحتّم عليها هذا الدور الوسطي القيام بحل المشكلات التي تنمو بسبب هذا الاختلاف حول المفاهيم أو المصالح، وقد حفظ لها التاريخ كثيراً من النجاح في هذا السبيل على النحو الذي يجعلها منارة للسلام والوئام والصلح، لا تكفّ عن دورها الطليعي الرائد في هذا السياق.
تتكشف رؤية الصقلاوي في عمله البحثي هذا عن وعي كبير في التأسيس لتاريخ الشعر العُماني عبر العصور، فهو عمل يحتاج إلى جهد مضنٍ وحراك بحثي دؤوب للوصول إلى المعلومات الموثوقة بهذا الشأن، وقد بذل كثيراً من الوقت والتنقيب من أجل بلوغ مرتبة بحثية تضع لبنة جديدة في بناء هذا التاريخ الشعري، وهو يقول في هذا المجال: (إن إظهار الجهد العماني والمساهمة العمانية يتطلب عملاً شاقاً مضنياً وبذلاً في سبيل البحث والتنقيب في المراجع والمصادر المتنوعة المتفقة منها والمتباينة، ولا أظن أن القارئ الكريم يشك لحظة واحدة في ذلك، لأنه جهد يعرفه من تتحسس مشاعره نور المعرفة وتلامس أصابعه حروف الكلمات. لا أعتقد أيضا أن هذا الإنتاج الكتابي هو المحاولة الأولى للتعريف بالشعر أو الأدب العماني، ولكنه يأتي ضمن تداعي المحاولات وتتابعها فمنها من كان له شرف الانطلاقة ومنها من يكون له شرف الإضافة والرفد المعرفي، ولكن يبقى لكل محاولة طابعها الخاص ومنظارها الفكري المتميز الذي تبصر من خلاله فضاء العمل الأدبي، وتستكشف جواهره وآلاءه.)، وهو لا يعطي لمحاولته هذه على الرغم من أهميتها الريادة ولا الكفاية لبداية هذا العمل واستمراره على طريق الوصول إلى فضاء متكامل، يجعل من تاريخ الشعر العُماني تاريخاً حافلاً بالأسماء وبالنصوص والتجارب بما يجعل منه تاريخاً يستحق العناء.
إن هذا الجهد يندرج في إطار الجهود السابقة والجهود اللاحقة التي تضمن الحصول على أهم المعلومات الموثوقة وأدقها حول هذه القضية، والصقلاوي يجعل من محاولته هذه سبيلاً مضيئاً لمزيد من العمل على هذا الطريق، بما ينطوي عليه ذلك من تحريض للأجيال اللاحقة للانطلاق من عتبة هذا الجهد الكبير نحو المواصلة وتحقيق الهدف المنشود، إذ (إن هذا الإنتاج الكتابي عن شعراء عمان ليس نهاية المطاف بل هو بدايته نحو استمرارية نطمح خلالها إلا الحديث عن أكبر قدر من شخصيات الشعر العماني في مختلف عصوره، متناولين التأثيرات الفاعلة والتيارات المؤثرة في أعمالها الإبداعية ومدى تأثيره في المسار التاريخي والظواهر الاجتماعية ورصد الملامح الفكرية والإنسانية بغرض تأصيل المساهمة العمانية في موكب الحضارة العربية الإسلامية بشكل خاص والعالمية بشكل عام)، ولعل فكرة (التأصيل) التي ينادي بها الصقلاوي في هذا المضمار من شأنها أن تضع الحدود الصحيحة للتاريخ الشعري العُماني الصحيح، بما يضمن الحصول على مدوّنة يستطيع الشاعر العُماني الحديث الاسترشاد بها والاتّكاء عليها بوصفها مرجعيته التي يفخر بها.
يتقدم الكتاب (شعراء عُمانيون) لسعيد الصقلاوي مقدمة تعريفية بقلم الدكتور أحمد درويش تحاول أن تكون قراءة سريعة للمنجز البحثي فيه، يسعى من خلالها إلى التأكيد على حيوية الكتاب وضرورته وأهميته على أكثر من صعيد بقوله:
(هذه مجموعة من المقالات حول شعراء عمان، تنضم إلى ركب المحاولات الجادة المخلصة القليلة التي بدأت منذ فترة زمنية وجيزة لا تكاد تتجاوز ربع القرن، هادفة إلى التعريف بالأدب العربي في عمان وكشف جانب من الحجب التي أحاطت به، وغطت جانبا كبيرا من صورته عن القارئ العربي في فترات كثيرة.)
إن هذه الرؤية التي يريد الدكتور أحمد درويش إثباتها في مقدمته تضيء جانباً مهماً من طبيعة مثل هذه الأعمال البحثية والتوثيقية ذات الطابع النقدي، فالصقلاوي لم يكتفِ بالجمع والعرض واختيار النماذج الشعرية فحسب، بل اجتهد في زجّ كثير من الآراء النقدية حول كثير من ظواهر الشعر العُماني فيما وقع عليه من أسماء ونماذج ونصوص وحالات، فهو يمتلك حساً نقدياً واضحاً في الاختيار والعرض وصياغة الرؤية حول الموضوع الذي يناقشه في الميدان المخصص لكل شعار من هؤلاء الشعراء، وتنطوي هذه القضية على أهمية نوعية تضاف إلى كل المزايا الأخرى التي يحظى بها هذا الكتاب، ولا شكّ في أن الدكتور درويش وهو يطالع هذا الكتاب ويقدّم له لاحظ هذه السمة ونبّه عليها، ليس على صعيد الفضاء الأدبي العُماني فقط؛ بل على ما يمكن أن يمتد فيه المشروع نحو الفضاء الأدبي العربي، في الوقت الذي تبدو المعلومات حول تاريخ الشعر العُماني وحاضره يسيرة وضئيلة، وتحتاج إلى مزيد من الجهود الكبيرة لتحقيق الأهداف المنشودة.
تناول الصقلاوي في كتابه هذا مجموعة كبيرة من الشعراء الذين وجد أنهم ينتمون للفضاء الشعري العُماني على نحو أو آخر، وبعض هؤلاء الشعراء معروف على نطاق واسع في تاريخ الأدب العربي والثقافة العربية، وبعضهم غير معروف ويأتي هذا الكتاب كي يعرّف به في إطار الانتماء الشعري العُماني إلى الأرض والثقافة والرؤية.
ويمكن أن نعرض أسماء الشعراء الذين شملهم الكتاب وقد أتى الصقلاوي بنماذج شعرية وافية لكل شاعر منهم، وهم:
(الشاعر ثابت بن عبد الرحمن بن كعب (ثابت قطنة) والشاعر كعب بن معدان الأشقري، ثم الشاعر أبو عيينه بن محمد المهلبي وإبراهيم بن محمد بن عرفة (نفطويه) وأحمد بن سليمان بن عبد الله (ابن النظر) والخليل بن أحمد الفراهيدي وعبد الله بن محمد بن أبي عيينه ومحمد بن يزيد بن عبد الأكبر (المبرد)، ومحمد بن الحسن بن دريد الأزدي ويزيد بن محمد والحسن بن هارون بن عبد الله (الوزير المهلبي)، والشاعر أحمد بن سعيد الخروصي (الستالي)، والشاعر سالم بن غسان بن راشد الخروصي (اللواح) ثم الشاعر موسى بن حسين بن شوال (الكيذاوي)، والشاعر راشد بن حميس الحبسي وسعيد بن مسلم بن سالم (أبو الصوفي) وسليمان بن سعيد بن ناصر الكندي (أبو سلام) وعامر بن خميس المالكي (أبو مالك) وعبد الله بن سعيد الخليلي وعيسى بن صالح الطائي وعبد الله بن عامر العزري وماجد بن خميس العبري ومحمد بن شيخان السالمي (ابن شيخان)، ثم الشاعر محمد بن عبد الله المعولي وناصر بن سالم بن عديم الرواحي (أبو مسلم البهلاني) وهلال بن بدر البوسعيدي، ثم حميد بن محمد بن رزيق (ابن رزيق) وأحمد بن حمدون الحارثي وسليمان بن سليمان النبهاني، ثمّ الشاعر هلال بن سعيد بن ثاني (ابن عرابة) والشاعر خميس بن وسيم الأزكوى (أبو وسيم) وأخيراً الشاعر عبد الله بن محمد الطائي)
ولا شكّ في أن هذه الأسماء تمثل بانوراما شعرية واسعة على صعيد الحضور والتاريخ والتمثيل المكاني الشعري، وهم من الأهمية بمكان بحيث يمثلون رافدا مهما من الروافد التي تجعل الشعر العُماني قادرا على المضي باتجاه تكوين الشخصية الشعرية المطلوبة.
(^) سعيد الصقلاوي، شعراء عمانيون، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط1، 1996.