الأكاثيسيا.. وما فوق الذهان
د. أيمن يوسف | مصر
استشاري متلازمات الفيبروميالجيا وال “إم إي”
استشاري الأمراض العصبية والصحة النفسية والتأهيل
كثيرا ما يتغنى أهل الطب بالإنجاز العلمي والإنساني الذي قدمته مضادات الذهان بأجيالها المتعاقبة في تحفيز وتعديل سلوكيات الصحة العقلية والصحة النفسية لكثير من المصابين بأنماط الذهان المختلفة، بل نرى إن مضادات الذهان أوجدت سبلا وقدمت حياة أخرى بعد الحياة التي تلاشت وتبخرت من أيدي المصابين، وأصبح للمريض الذهاني الآمال الأوسع للمشاركة والعمل والاندماج في المجتمع بعد سنوات من العجز المعرفي والإدراكي، ولكن ماذا لو تعدت آثار مضادات الذهان السلبية إيجابياتها وأحدثت من الضرر في الخلايا العصبية أو الحركية ما استصلحته في مناطق أخرى؟
تعد الأكاثيسيا من أكثر أنماط الآثار الجانبية تأثيرا على من تناولوا مضادات الذهان لفترات طويلة وخاصة مضادات الذهان من الجيل الأول، حيث تعد الأكاثيسيا العرض الجانبي الأبرز لمضادات الذهان وبعض مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية أو مضادات الاكتئاب، وتظهر الأعراض في صورة تململ حركي مستمر للوجه والساقين عند الجلوس، ويفقد المصاب القدرة على الجلوس أو الحفاظ على وضع ثابت لفترة مع حاجة مستمرة للوقوف أو المشي أو تغيير الوضع بصورة ملفتة وفي فترات زمنية قصيرة ومتكررة، كما تظهر علامات التوتر والاستثارة وعدم الراحة مع الجلوس وتتكرر سلوكيات الأكاثيسيا المتميزة في أوقات التجمع في العمل أو مع الأسرة أو الأصدقاء كالمشي دون توقف والنهوض والجلوس بشكل متكرر وتأرجح القدمين والنقر بالأصابع آلى آخره من أعراض التملل وفقد السيطرة على أعراض ووظائف الجهاز العصبي الإرادية.
تتمركز اسباب الاكاثيسيا في الجزء الحركي من الجهاز العصبي المركزي، خاصة مع تدخل مضادات الذهان في نظام الدوبامين في الجهاز العصبي سواء بالكبح او التحفيز عن طريق مستقبلات الدوبامين، وتبدو الفسيولوجيا المرضية للاكاثيسيا اكثر تعقيدا من هذا لتمتد الى ما دون الدوبامين كالاسيتيل كولين وحمض الجابا والنورادرينالين والبيتيدات العصبية، ونرى ان “للجابا” ارتباطا اكبر بالاكاثيسيا حيث يمارس تاثيرا مباشرا على الاشارات التي تعتمد على الدوبامين الذي تدخل فيه مضاد الذهان، وبالتالي قد تنجم زيادة او تقليل في النشاط الحركي من أجل تعويض نقص نشاط الدوبامين في النواة المتكتلة، وتصبح معضلة بعض المرضى هنا في دائرة مفرغة ما بين الاعراض الذهنية والعقلية التي يعاني منها مريض الذهان، وما بين الاعراض الحركية التي تنشأ لدى البعض نتيجة تناول مضادات الذهان.
قد يبدو الأمر معقدا ويبدو حدوثة اوعدم حدوثه متوقفا بالطبع على الاستعداد الشخصي وعلى طبيعة الاشراف الطبي الواعي بحقيقة الامراض العصبية وعقاقيرها واثارها الجانبية، وعلى التوزان بين المكتسبات والفرص والاثار الجانبية، الا ان كل ما تقدم قد يدعو الى التأمل في التوجه الى مدارس طبية غير نمطية والى بروتوكولات علاج اكثر فاعلية واقل اثارا جانبية، خاصة مع التقدم المذهل في مدارس العلاج الجيني وتطبيقاته في مجال طب الاعصاب والجهاز الحركي والصحة النفسية والعقلية، بالاضافة الى مدارس العلاج السلوكي ونمط الحياة والمكملات الغذائية بصورها النشطة التي تعيد تأهيل وبناء واستشفاء الجهاز العصبي دون الحاجة للمرور بالكثير من الاثار الجانبية المزعجة.