مديح الآخر في ديوان (لوحة لصوت قديم) للشاعر حسن الشنون
أ. د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
ونحن إذ نستقصي المديح لدى الشَّاعر (حسن الشنون) – رحمة الله عليه – نجدُهُ تحت عنوان مرادِف وهو التَّكريم، وفيه يستعرض خِصال ممدوحيهِ وصفاتِهم، وما يُميِّزه في هذا الفن أنَّه لا يتكسَّب في أمادحيه بل ينتقي ممدوحيه بعنايةٍ شديدةٍ، فهم غالباً ما يكونون من أهل الفكر وأرباب الأدب والثَّقافة،أمَّا عنصرُ الصِّدق فهو ما يُميِّز الشَّاعر(حسن الشنون) ويُبعدِه عن عنصر المبالغة وزيف التكسُّب، كما إنَّهُ يقترب من الإطار المحلي الضيِّق ، كما في نصِّوصه الشعرية, إنَّ إيحاءات النَّص خيرُ دليلٍ على مدى الحسِّ التَّعبوي الذي يُمارَس من قِبل الذات الشاعرة إزاء الآخَر، فهو يُثني عليه بمختلف الصِّفات التي تزيدُهُ رفعةً وبطولةً، فيخاطب الندوبَ أن تكفكف دموعَها بعد أن لاحت لها بشائرُ الأمل الجديد الذي تمثَّل بالأديب المتمرِّد، الذي ارتضى لقلمِهِ أن يكون خيرَ معبِّرٍ عن نفسِهِ وعن مشاعر الآخرين بشكلٍ جمعي.
إذ يفرغُ الشَّاعر لشخصيَّة الممدوح وعطائِهِ المعرفي جانباً كبيراً من الاهتمام والذِّكر بشكلٍ يتماهى مع النَّهج الذي يسيرُ فيه الممدوح وهو أسلوبٌ كان قد دَأَبَ عليه في نصوصه السَّابقة, وكذا أماديحه, وذلك ينمُّ عن صدق مشاعر الذات الشَّاعرة اتجاه الآخر كون المديح ما يزالُ تعداداً لجميل المزايا ووصفاً للشمائل الكريمة, وإظهاراً للتَّقدير العظيم الذي يكنُّهُ الشاعرُ لِمَن توافرت فيهم تلك المزايا,ويبقى ذكاءُ الشّاعر (حسن الشنون) ودقةُ اختيارِهِ النَّص عاملاً مُهمَّاً في توجيه موضوعِهِ وتحديد ملامحِهِ، فموضوعُ النّص يُصبح مُهمَّاً ويستحقُّ الالتفات في اللحظة التي يُقرِّر فيها الشَّاعر أن يختارَهُ ثيمةً لقصيدتِهِ، فهو الذي يُوجِّه هيكلَهُ ويجعلهُ متماشيَّاً مع النَّص، لذلك فإنَّ أول شرط في الموضوع أن يحكمَهُ الوضوحُ والتحديدُ لا مثل موضوعات بعض القصائد التي تدور وتدور فلا يخرج منها القارئ بطائل ولا فائدة تذكر, ولعلَّ قراءة مبسَّطة لأبيات الشَّاعر(حسن الشنون) في ممدوحيه نجدهُ غالباً ما يركِّز على صفةٍ واحدةٍ من صفات الممدوح، تكون مثقَلةً بالدلالات التي تهدف إلى إشباع موضوعِهِ ، كما إنَّها تُزيد النَّص وحدةً وتماسكاً، فهو في تكريم الروائي الكبير (احمد الجنديل)، ومع تميُّز المديح بالثناء الحَسَن وذكر خصال الممدوح ، فإنَّ هذا الأمر لا يخلو من الذاتيَّة في تصوير تجارب, فنراه يقول : –
أبا شمس هنا في القلب أنت
وما خطت يداك وما زرعت
|||
فان جاءت خطاك إلى ربوع
رجت بها فمرحى إذ درجت
|||
فأرضك قد تباهت فيد دوما
بما أملت عليك وما كتبت
|||
ابا شمس تناجيك الليالي
كمفخرة ونجما قد زهوت
|||
هو الإبداع طاطا في رحاب
بها أنت الحسام وأنت أنت
وثناء الشَّاعر الشنون على الجنديل ليسَ من قبيل المبالغة أو الإطراء المشوب بالكذب ، بل إنَّ هذه الخصال وجدت طريقَها إلى الجنديل، الأمر الذي أكَّدته جميع المصادر التي تناولت سيرته بالبحث والدراسة والتَّمحي، وهذا يدلُّ على شدَّة تمسُّك الشاعر الشنون بالأديب الجامع الأستاذ احمد الجنديل الشاعر والقاص والروائي, ويستمرُّ الشَّاعر (حسن الشنون) في رفد نصِّهِ بدلالات الثَّناء المكرَّرة والإشادة بممدوحهِ, فهو الذي يمنحُ الآخرين, ويمدُّهم بخزينٍ علميٍّ يضيؤون بهِ وجودَهم, كما أصبح حديث كُلّ لسان , وكُلُّ تلك الصِّفات تصدرُ عن شاعرٍ لهُ من الثَّقافة والاطلاع ما يؤهِّلهُ لأنْ يحكم على ممدوحهِ, ولكنَّه يبدو في هذا النَّص أقربَ إلى الخطابية والتَّقريرية ليبتعدَ قليلاً عن غرضهِ الأساس وهو المديح الذي يقتصرُ على ذكر خصال الممدوح والثَّناء عليه, فهو يحتفي بالشاعر (أجود مجبل), فنراه يقول :-
يا مشعل الإبداع زدنا أننا
نصغي لدهشة حرفك المتجدد
|||
اصدح فديتك فالقوافي كلها
رهن لديك بنشوة وتودد
|||
يرقبن في عينيك ومضة خاط
حتى يثبن برقصة المتمرد
إذ يوحي النّص بمدى احتفاء الشَّاعر بممدوحِهِ، واعتزازه، لذلك فهو يعمد إلى إظهار مدى الحضور المتميِّز الذي يتمتع به من خلال توجيه كلامهِ إلى المجتمع العراقي، بأنَّ هذا الممدوح ما زال شاعرها ومُلهِمَها الأول، فكان الأجدى بها أن تحذو حذوهُ إيماناً منها بملكاتهِ الفنيَّة وشعريَّتهِ العالية، فضلاً عن ذلك فإنَّ هذا النّصَّ يعكس رؤية الشاعر للممدوح وشدة إتِّصاله به، ليشفَّ عن حضوره المعنوي في النّص.
إِنَّ اسم ممدوحه يُخلِّدُ الذكرى العطرةَ ليبقى حديثَ كُلِّ وقتٍ وزمنٍ, فقد كان ينماز بفكرهِ النَّيِّر ومعشرهِ الطَّيِّب, فضلاً عن سمو حديثهِ الذي كان يدخلُ النَّفس بلا استئذان, وهذه الأوصاف من قبيل إعلاء مكانة الممدوح وإبراز شأنه الفكري إذ يسرد حياةَ ممدوحِهِ وثقافتهِ كأنَّهُ يتحدَّثُ عن سيرة حياتهِ بدلاً من تجميلهِ بالفضائل والصِّفات, إنَّ ممدوحَهُ (الشيخ جميل حيدر) رحمة الله عليه ينماز بالتواضع والحُلم اللذين أضفيا عليه وقاراً وعلوَّاً، وكان من شأن ذلك أن يجعلَهُ قوياً لا يُستثار من خطوب الدهر ولا يقبل التَّسليم لها، فهو يأنس أحداث عصره ويجالدها إلى أن يتغلَّب عليها، وهذه الصفات المُثلَى تدل على عُمق قراءة الشَّاعر لخصال ممدوحِهِ، بل إنَّ تأكيدَهُ إيَّاها يُعبِّر عما شاهدهُ وسمعهُ عنه من صفاتٍ ومزايا أتاحت له حرَّيةَ التَّعبير عنها بعفويَّةٍ متناهيةٍ وذلك يجعل من الطرف المقصود أن يحثَّ الخُطى في سبيل الوصول إلى ما تحملُهُ هذه الشَّخصيَّة من مثاليَّةٍ وقِيَم عليا , فنراه يقول :-
يا جميل الطباع ها انت تسعى
عطرك العذب لا يزال طريا
|||
ها هم الصحب قد أتوك انسجاما
أين ذاك الإشراق أين المحيا
|||
يا نبيلا يجدد العهد فينا
ويصوغ الإبداع لحنا شجيا
يلحظُ القارئُ إفاضة الشاعر( حسن الشنون) في ذكر مناقب وخصال ممدوحِهِ, فهو شخصٌ موسوعيٌ, تخلَّلت الثَّقافة إلى نفسِهِ, ووجدت طريقَها إليه, بما وجدت فيه من سعة إطلاعٍ وحفظٍ لتتكشَّفَ بذلك مواهبَهُ الفطريَّة والمُكتسبة, التي نضَّت عن نفسها, وظهرت جليَّةً في شخصيَّة الشاعر (جميل حيدر) ونتاجهِ الفكري، كما يصِف أسلوبَهُ وطريقتَه في نظم الشعر, إذ ينتقي من النُّصوص ما يُلامسُ شغافَ روحهِ, ويستنطقُ أحاسيسَهُ, فهو يُعنَى بمضمون النَّص لا بشكلِهِ الخارجي , وهذا ينمُّ عن قراءةٍ واعيةٍ لأسلوبهِ وطريقتهِ في النَّظم0 ويستمر الشَّاعر الشنون في رَفْد النَّص الشعري بالمفردات الدَّالة على الحب والثناء وإبرازشاعريَّة ممدوحه الشاعر (أحمد حميد الكربلائي)، والتعرُّض لخصاله الشَّعريَّة ، فنراه يقول:-
أبا الزهراء كيف تغيب عنا
وأنت الفارس البطل المجيد
|||
بربك هل هرمت عن القوافي
أم الأوزان خانت أو تحيد
|||
فأين بحورك الغر اللواتي
ملأن الأرض أو كادت تميد
إذ يؤشِّر إلى شاعريته فهو ينحدر من جذرٍ عربيٍ أصيل ، زادته الشعرية عمقاً، والأهم من ذلك أنَّه جسَّد مبدأ الرَّفض بكلِّ اشكالهِ واستحضره في أشعاره، فالرفضُ قد يكون بالأقلام الحرة تارةً، وقد يكون بالأفعال التي تزدحم مع الفعل الكتابي بعيداً عن كلِّ أنواع الصُّراخ والعويل التي يتَّخذ منها بعضُهم وسيلةً في سبيل التَّعبير عن قضيَّة معينة بالندب والمطالبة الصامتة, نستنتجُ ممَّا سبق أنَّ الشاعر (حسن الشنون) يتبنَّى الثناءَ على الآخر واستعراض عددٍ من خِصالهِ, كما نجدهُ غالباً مايُركِّزُ اهتمامه على خصيصةٍ واحدةٍ من هذه الخصال، التي قد تكون شاعريتَهُ أو مكانتَهُ الثَّقافية التي كانت سبباً في إظهاره إلى المجتمع, كذلك نلحظ اهتمامَهُ بالآخر المدحي وحرصهُ على تقديمِهِ إلى القارئ بأبهى صورةٍ, أمَّا صفةُ المبالغة أو الاهتمام المُتكلَّف فنرصدُ لهما وجوداً قليلاً في أشعاره, ومن ثَمَّ فهي لا تُشكِّلُ إلَّا النَّزر اليسير من مجموع قصائدهِ, ليكون استحضارها منوطاً بالموقف الشِّعوري الذي يتطلَّبُ منهُ انفعالاً يُلائمُ الشخصيَّةَ المُرادَ عَرضُها والحديثُ عنها.