من مِشْكاةِ النبوّة: حديث مناديل سعد بن معاذ في الجنة 1
د. خضر محجز | فلسطين
عن أَنَسٌ بن مالك خادم النبي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جُبَّةُ سُنْدُسٍ ـ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ ـ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فِي الْجَنَّةِ، أَحْسَنُ مِنْ هَذَا” (متفق عليه واللفظ للبخاري).
وعن علي بن أبي طالب عليه السلام: “أنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إلى النبيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ـ ثَوْبَ حَرِيرٍ، فأعْطَاهُ عَلِيّاً، فَقالَ: شَقِّقْهُ خُمُراً بيْنَ الفَوَاطِمِ”. (صحيح مسلم).
الشرح:
ذكرتُ الحديثين لأن ثانيهما يفسر أولهما. فـ«أُكَيْدِر دُومَة» هو عبد الملك الكندي، الذي أهدى للرسول، صلى الله عليه وسلم، جُبَّةً من سندس ـ وهو من أنعم نسج الحرير ـ فمنحها الرسول لعليٍّ، وأمره أن يقطعها خُمُراً (أغطية رؤوس) للفواطم، عليهن السلام.
أولاً: في أُكَيْدِرَ دُومَةَ:
«أُكَيْدِر»: لقب ملك منتدب، من قبل قيصر روما، لحكم «دُومَةَ الجندل»، بأطراف الجزيرة شمالاً ناحية الشام. فأُكَيْدِر في ذلك يشبه الحكام الغساسنة، عملاء القسطنطينية العرب، الذين كانت مهمتهم إخضاع كل من يتطاول على دولة الروم من جزيرة العرب، كما كانت مهمة المناذرة ملوك الحيرة ـ عملاء الفرس بأطراف العراق ـ إخضاع قبائل العرب بناحيتهم.
ولَعَمْرُ الله إنّهُ لَمِن أشدِّ الخزي، ما يفعله القوميون اليوم، حين يفخرون بهؤلاء العملاء.
ولقد كان أول يوم قومي للعرب ـ حقاً ـ هو اليوم الذي هزمت فيه القبائل الحرة، من بني ربيعة من شيبان بن بكر وائل، جيوش الفرس وعملاءهم العرب في يوم «ذي قار» في العام الثاني للهجرة، بعد وقعة بدر بأشهر.
وقد قيل إنَّ رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ـ قال فيه: «هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نُصروا». كما قيل: أن الوقعة قد مُثِّلَتْ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بالمدينة، فرفع يديه فدعا لبني شيبان بالنصر، ولم يزل يدعو لهم، حتى أُري هزيمة الفرس. فكان بنو ربيعة بعد ذلك إذا خاضوا معركة نادوا: “يا دعوة رسول الله”.
أما «أُكَيْدِرَ دُومَةَ» فمنسوبٌ إلى بلده: «دُومَةَ الجندل»، كما يٌقال: «فرعون مصر»؛ مع الفارق الكبير بين ملكٍ عبدٍ لقوة خارجية ضد بني قومه، وملكٍ ملكَ مصر وشمال أفريقيا والحبشة والشام إلى حدود العراق لقومه.
وفي العام التاسع للهجرة، غزت خيلُ الله ـ بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه ـ «دُومَةَ الجندل»، وجاءت بأُكَيْدِرَ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسيراً؛ فصالحه نبيُّ الله على الخضوع لدولة الإسلام، ودفع الجزية، مع بقائه على نصرانيته.
فلما مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ارتدَّ الكلب عن الطاعة، مع من أرتد من العرب، وقطع الجزية. فداهمته خيل الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ فأسره خالدٌ وضرب عنقه.
وقد أخطأ من ظن أُكَيْدِرَ صحابياً.
ومن الراجح من سياق هذا الحديث أن أكيدر أهدى جُبَّةَ السندس هذه لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زمن المصالحة والخضوع. ومن الممكن أن يكون قد فعل ذلك، قبل غزو المسلمين إيّاُه، مخادعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنها ليست تلك المرّةَ التي أُسر فيها، وذكر خبرها ابن إسحق في السيرة إذ قال: “فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: رأيت قباء أُكَيْدَر حين قُدم به على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعل المسلمون يلمسونه، بأيديهم ويتعجبون منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده، لَمناديلُ سعد بن معاذٍ، في الجنة، أحسن من هذا” (سيرة ابن هشام. ج4. ص167).
قلت: وهذا إسناد حسن لسلامته من عنعنة ابن إسحق. ويبدو أن عاصماً، خلط بين ما كان يرتدي أكيدرُ يوم أسره، وبين إهدائه جبة السندس لرسول الله ـ قبل ذلك أو بعده ـ فوضع عاصم تعجب الصحابة وقول الرسول في حادثة أسر أكيدر. وهيهات أن يعجب الصحابة بملابس أسير. ولكن كان تعجبهم من الهدية ـ كما هو في الصحيحين ـ دون وجود أكيدر الكافر.
والله أعلم.