أسس ومقومات المسرح الاحتفالي عند عبد الكريم برشيد

د. الغزيوي أبو علي – د. بن المداني ليلة

لقد ظل المسرح العربي منذ ميلاده وحتى ظهور الاحتفالية كنظرية مسرحية ذات بعد فكري وجمالي، يفتقر إلى السند الكفيل بمساعدته على صياغة أسسه ومقوماته المسرحية، التي ستمكنه من بناء صرح هويته المسرحية العربية المتميزة، لكنه وبعد ظهور هذه النظرية المسرحية تمكن نسبيا من المضي بفعل تأسيس خطوات صوب المصداقية والشرعية(1).

وبظهور هذه النظرية تمكن المسرح الاحتفالي من صياغة الأسس والمقومات التالية:
1- تبنيه شكل مسرح الحلقة المستمد من أشكال السمر الشعبية المختلفة
2- الاعتماد على الجمع بين الرواية والتمثيل أو اللحمة والمسرح.
3- اعتماد فنون الأراجوز وخيال الظل والطقوس الشعبية … إلخ.
4- كسر الحواجز بين الجمهور والممثلين واعتبار الطرفين مشاركين في خلق العمل المسرحي.
5- اعتبار التجديد لا ينصب على التأليف المسرحي وحده بل يشمل أيضا أساليب التمثيل والإخراج.
6- امتد الاهتمام ليشمل حتى هندسة المسرح ومعماره بحيث يتفق وطابع العمارة العربية، وطبيعة التجمعات العربية في ممارساتها لبعض المظاهر المسرحية
7- الاتجاه إلى تبسيط الديكور والأزياء والمهمات المسرحية.
هذه إذن هي أهم الأسس التي يقوم عليها المسرح الاحتفالي، لكن السؤال المطروح، كيف يمكن اتضاح طبيعتها وهي التي تمثل في بعدها الفكري والفني، التصور النظري الذي تقدمت به الاحتفالية في ميدان المسرح وذلك كبديل لرفض والتمرد على القواعد التقليدية وفروع المسرح الأرسطي، ولا يتمثل تأثير هذه الخطوات في تكوين المسرحية كنص فقط وإنما في الإخراج والتمثيل وفن الفرجة أيضا من حيث التركيبية والمونتاجية والاعتماد على العقل والسببية. وهذا التمرد الاحتفالي ليس وجودا فضائيا، وإنما يرتبط في جذوره بأصوله الغربية والعربية(2).
ولو تأملنا هذه الأسس في بعدها الفكري والفني وحاولنا ربطها بوضعية المسرح في الوطن العربي سنجده بشكل في جوهره تصورا متميزا البنية مسرحية متميزة. تصورا يمكنه أن يعطي للمسرح العربي وجهه الحقيقي وهويته السليمة التي تكسبه أصالته وتجعله مستفيدا من جدل المسرح بالواقع العربي، لكن السؤال المطروح هو إلى أي حد يمكن اعتبار هذا التصور بديلا مستوفيا لشروط القطيعة التي أعلنها الاحتفاليون ضد الاستقرار والجمود في المكان الواحد؟
لقد أعلن الاحتفاليون رفضهم للمسرح التقليدي منذ الوهلة التي ارتفعت فيها أصواتهم مطالبة بتأسيس مسرح يحمل هوية عربية متميزة. لكن هل كان لهذا الرفض ما يبرره من الأدلة والحجج المقنعة؟ أم أنه كان انعكاسا لعادة فارغة المضمون؟
مع السبعينات أصبح رفض الاحتفاليين للمسرح التقليدي له ما يبرره من الأدلة والحجج وذلك كفعل قصد به من جهة، توضيح زيف وتخلق الأسس التي يقوم عليها المسرح العربي حاليا، ومن جهة أخرى العمل في ظله على هدم هذه الأسس وتعويضها بأسس أخرى نابعة من بيئة عربية محضة. أسس يمكنها أن تجعل المسرح العربي يتلمس طريقه الصحيح والائم.
لقد لعب ظهور جماعة المسرح الاحتفالي دورا كبيرا في توجيه هذا الفعل فعل الرفض وإعطائه بعده الفكري والفني البعد الذي يجعل من حضوره في النداءات التي تعالت في الوطن العربي مطالبة بتأسيس مسرح عربي متميز، حضورا يتجاوز حدود الرفض / الكلمة، إلى دور الرفض / المبرر والبديل. يقول يوسف إدريس: “إننا نقصد حين نتكلم عن المسرح ذلك المكان العالي ذا القبوة والخشبة والممثلين والروايات وهذا مسرح صحيح، ولكنه ليس كل المسرح، فالمسرح أشكال كثيرة متعددة ليس هذا النوع سوى أحد فقط، ومجرد شكل واحد تطور على يد الإغريق”(3).
إلى هذا الصوت انضم صوت عز الدين المدني من تونس يقول: لقد كان خليقا بالعرب المعاصرين ألا يتبنى من الفن المسرحي إلا النوع وحسب، لأنهم بتقليدهم التقنيات الغرية ومجاراتهم الأشكال الفرنسية مثاد، قد جعلوا من الفن المسرحي فنا مقصورا على الحضارة الأوربية في حين أن الشرق القديم قد عرف حق المعرفة بتقنيات وأشكال أخرى لا تماثل تقنيات المسرح الغربي المعاصر ….(4).
ومن الجزائر انضم صوت قدور انعيمي يقول: “إن المسرح ذاته ليس صيغة واحدة بل هي الصيغة التي استوردها العرب من الغرب في أواسط القرن الماضي، هناك مثلا مسرح الكابوكي والتنو” اليابانيان وهناك الأولبرا الصينية، والمأساة الإغريقية والكومديا. دیالارتي الإيطالية والمسرح الغيني والفيتنامي فلماذا لا يكون للعرب، بدورهم، شكلهم الروحي الخاص؟”(5).
ويقول أعضاء فرقة المسرح الجديد بتونس: وأردنا تحطيم الأنماط التقليدية المهيمنة فيما يتعلق بالنص المسرحي ووسائل الانتاج وتوزيع المسؤوليات والأدوار داخل الفرقة، أردنا القطيعة مع التراث المحلي ومع المسرح المستورد بكافة أشكاله”(6).
2- يقول الدكتور عبد الرحمان بن زيدان: إن الاحتفال تمرد على القواعد التقليدية وزلزلة فروع المسرح الأرسطي، ولا يتمثل تأثير هذه الخطوات في تكوين المسرحية كنص فقط وإنما في الإخراج والتمثيل وفن الفرجة أيضا من حيث التركية والمونتاجية والاعتماد على العقل والسببية.
وهكذا التمرد الاحتفالي ليس وجودا فضائيا، وإنما يرتبط في جذوره بأصوله الغربية والعربية”(7) لما كانت هذه النصوص في مدلولها صادرة عن فعل الرفض فقد كان من الطبيعي أن يكون لهذا الرفض مبررا منطقيا مقنعا، مبررا ينقض الفكر والفن من أجل الفكر والفن لا من أجل شيء أخر، على هذا الأساس، فإذا كان الاحتفاليون قد رفضوا المسرح التقليدي في شكله وتقنياته سواء تعلق الأمر بالنص الدرامي أو العرض المسرحي، فما هي الأسس التي أقاموا عليها تبريرهم لهذا الرفض؟ وإلى أي حد كانت هذه الأسس تتماشى والفعل الذي يؤسس من خلاله المسرح العربي؟
إن المسرح التقليدي في نظر الاحتفاليين لا يتجاوز حدود الشكل المسرحي الوحيد – أي أنه شكلا من بين الأشكال المسرحية المتعددة – كما لا يمكنه أن يشكل الأساس والنموذج والموديل للكتابة المسرحية في هذا المكان أو ذاك، لأن الفن لا وطن له، وأنه يوجد حيث تواجد الإنسان والتجمع الإنساني، وكلما توفر هذا الشرط إلا وأصبح لهذا التجمع أو ذاك شكله أو صيغته المسرحية الخاصة كما هو الشأن بالنسبة لليبانيين والصينيين والإغريقيين والإيطاليين والغينيين والفيتناميين وللعرب في المستقبل القريب وغيرهم.
إن تواجد هذا المسرح في الوطن العربي شيء تحكم فيه ما هو سياسي أكثر مما هو فني. كما أنه ومع توالي الأيام التي على الحسم مع هذا القسط الفني، ليصبح بعد ذلك مؤسسة إعلامية وتجارية محضة، مؤسسة يغيب فيها المسرح / الفكر، والمسرح / الفن، والمسرح / الإبداع والخلق(8). هذا وبالإضافة التأثير الذي مارسه هذا المسرح على التوجه المسرحي العربي الأصيل، رأى الاحتفاليون أن في الإبقاء على المسرح داخل هذا المسرح، بعد تقتيلا ليس فقط للمسرح العربي الذي يتطلع إلى التأسيس، وإنما المسرح بما فيه الرسالة العظمى التي خلق من أجل تأديتها.
لقد وقف الاحتفاليون موقفا متشددا من العناصر التي تساهم في عملية التقتيل، تقتيل المسرح / الفكر والمسرح / الفن والمسرح / الإبداع ولهذا نجدهم يرفضون:
 أن يكون المسرح الاحتفالي مدرسة يكون لها تلاميذ، أو مذهبا يكون له اتباع ومريدون وطقوس وتعاليم جامدة لأن الاحتفال في جوهره، هو التعبير الحر والتلقائي عن الحياة وهي في حالة الفعل والحركة لا في حالة الثبات والسكون.
 أن يتم التقيد بالنظرية لأن التنظير في نظرهم ما هو إلا مجرد منطلق فقط للتعامل الواعي سواء مع الإنسان (الممثل – الجمهور – الألوان – الاكسسوار).
 التعامل مع مبدا الاستهلاك. لأنه آلة من آليات الموت المدمرة للعناصر الحية في الإنسان.
 الواقعية التي لا تقوم برصد فلسفة الواقع لمعرفة قوانينه ومفاتيحه.
 أن يظل الجمهور متصفا بصفة المتفرج، بل يخلعون عليه هذه الصفة ليصبح عنصرا مشاركا في الخلق والإبداع والتفكير. به المفهوم الكلاسيكي للعملية الإبداعية(9).
 أن يكون المسرح – وهو وجدان الشعب وضميره وصوته – مجرد مؤسسة إعلامية تقوم على أساس النشر نشر فكر – الدولة أو مبادئ الحزب الحاكم أو المعارض ذلك لأن المسرح ليس وسيلة إعلامية، وسيلة يمكن أن توظف كما توظف الصحافة والإذاعة والتلفزة وذلك لأنا لمبدع في هذه المؤسسة لا بد أن يفقد حرية الخلق والإبداع والتصور، لأنه عوض أن يبحث عن هويته وفكره، فإنه يكتفي باستنساخ غيره والترويج لفكر لا ينبع من ذاته ولا من واقعه، ومن هنا يصبح غريبا عن انتاجه وإبداعه وذلك هو الاستلاب في أحلى مظاهره وأن يكون أيضا مؤسسة تجارية أو صناعية أي أن يكون قائما بالأساس على المال والعمل والاستهلاك والانتاج، والسوق والإشهار، الشيء الذي يمكن أن يجعل المبدع تابعا أيضا، لأنه يتحول إلى عامل في مؤسسة صناعية عامل ينتج لا بحسب ما تمليه قضايا الواقع – ولكن استجابة لمتطلبات السوق، ولو كان في ذلك خدمة وتكريس للذوق الفاسد.
ومن هنا يبقى أن المؤسسة المسرحية في المنظور الاحتفالي لا يمكن أن تكون إلا قائمة على الاختلاف، وإن هذا الاختلاف لا بد أن يكون على أسس مغايرة وجديدة ذلك أن المبدع – سواء كان كاتبا أو ممثلا أو مخرجا أو تقنيا۔ لا يمكن أن يكون مجرد موظف بسيط داخل جهاز بیوقراطي معقد، كما لا يمكن أن يكون مجرد عامل أيضا، وذلك داخل مؤسسة صناعية أو تجارية قائمة على البرج المادي.
إن المؤسسة التي يريدها الاحتفاليون هي مؤسسة تكون بالضرورة في ملك الجميع، الشيء الذي يعطي للاحتراف، معان مغايرة، وينزع عن الممثل والمؤلف والتقني صفة الأجير والإداري.
إن المؤسسة الاحتفالية لا تربط بجهاز بيروقراطي ولا بمؤسسة مالية، وإنما هي ملتحمة مباشرة بالناس وقضاياهم وتصوراتهم وفكرهم و واقعهم. ولما كانت الاحتفالية تسعى إلى إحداث انقلاب جذري، ابتداء من التمثيل والنص والاخراج والمعمار المسرحي والمؤسسة، فقد كان الفن التمثيل وهو أساس الظاهرة المسرحية أن يراجع وذلك حتى يمكن أن يبني على أسس جيدة، أسس تستجيب للرؤية الاحتفالية والمنظور الاحتفالي ولهذا فإذا كان المسرح الدرامي يحاكي الفعل الإنساني، أي أنه يحيي ما كان كما كان، والمسرح الملحمي يروي الفعل الإنساني، أي أنه يحكي ما هو كائن أو كما كان، فإن المسرح الاحتفالي يعمل على إحياء فعل ما، إنه يخلق تظاهرة أنية، تظاهرة تتم في حضور الجميع وبمشاركة الجميع.
فالمسرح الدرامي إذن، يحيي حدثا وقع في الماضي ولم يعد له وجود الشيء الذي يحول العملية المسرحية إلى جلسة لتحضير الأرواح والأشباح، أما المسرح الملحمي فيحكي عن شيء وقع أو يقع بعيدا عن الجمهور، الشيء الذي يحول الفعل المسرحي إلى مجرد حكاية تبقى غريبة عنا وعن واقعنا واهتماماتنا، مما يجعلها في ختام الأمر ومهما تكن رموزها ودلالاتها أو إيحاءاتها، تبقى مجرد حكاية فقط. أما المسرح الاحتفالي فيقوم على أساس رفع الحواجز والمسافات بين الواقع والوهم.
يرفضون أن يقوم المسرح على الأبعاد البريختية، لأن هذا الأبعاد وكما هو معروف تقوم بالأساس على الفصل بين مستويات الواقع إن تمثيل وإن كان وهما- فهو واقع كذلك، فالأحلام واقع وكذلك الأمر بالنسبة التصورات والتمثيل الاحتفالي يقوم على الاندماج، أي على تحقيق الوحدة مع الدور والشخصية والجمهور، وحتي يتم التمييز بين مفهوم ستانلافسكي للاندماج ومفهوم الاحتفالية له نقول: إن الاندماج في المفهوم الأول يتم لفائدة الوهم والماضي، أما في المفهوم الثاني فيتم الحساب الواقع الآتي.
فعوض أن يندمج الممثل – وهو إنسان حي ينتمي إلى الحاضر – في والشخصية الدرامية وهي شخصية أدبية تنتمي إلى الماضي، عوضا عن هذا نرى من الضروري أن يقع العكس، أي أن تندمج الشخصية في الممثل المسرحي. وفي واقعة الآتي الراهن، وذلك حتى تكسب صفة المعاصرة والحياة .
إن الاندماج في منظور ستانسلافسكي لابد أن يؤدي إلى التطهير – الكاترسیس- أي تطهير الجمهور من عاطفتي الخوف والشففة عن طريق محاكاة الأفعال التي تثير الخوف والشفقة. وهو بهذا يؤدي دورا نفسيا فقط. أما الأبعاد البريختي فهو على العكس من ذلك تماما، ذلك لأنه يؤدي إلى تشغيل عقل المتفرج، وفي هذا تجاهل من كلا الطرفين لطبيعة الإنسان وحقيقته الأساسية، هذا الإنسان الذي هو حس وعقل وإرادة وأما الاندماج الاحتفالي – وهو الارتباط بالآن والناس والواقع، فقد كان لا بد أن يعبر من خلال هذا التسلسل التالي مخاطبة الجمهور من خلال لغة حية موصولة إلى العقل، الشيء الذي يسوق إلى الاقتناع ومتى تم ذلك، فلا بد أن تتحرك الإرادة لتغير الذات كخطوة أساسية لتغيير الواقع.
ثم إن الاندماج الاحتفالي ليس عملية سحرية معقدة، عملية يمكن أن تحتاج إلى طقوس وستائر، كما لا يمكن أن تخفي قوانين اللعبة وأسراره. إن المسرح الاحتفالي هو مسرح مفتوح، فلا ستائر ولا حواجز ولا دقات تقليدية كل شيء يركب أمام الجمهور وبمشاركته، إن الاندماج عملية لا تتم في الكواليس لأن الكواليس لا وجود لها في المسرح الاحتفالي وإنما في حضرة الجمهور. وإن الديكور مثله مثل اللباس يمكن أن يلبس أمام أعين الكل. ومن هنا كان الاحتفاليون مضطرين إلى تحديد علاقة الممثل بالزمن، هذا التحديد يقوم على مبادئ جديدة بعيدة عن التصور الدرامي أو اللحمي فالناس الوجديين ثلاثة رجل جمال، رجل أخلاق ورجل دين.
ولهذا فنماذج السالكين سبيل الحياة ثلاثة: المدرج الجمالي، والمدرج الأخلاقي والمدرج الديني، الأول يحيا في اللحظة الحاضرة المنعزلة، والثاني يحيا في الزمان والثالث يحيا السرمدية. فأي من الزمان الثلاثة يمكن أن نلحقه بالمثل الاحتفالية.
إن الممثل يعيش الحاضر الأني، هذا الحاضر الذي هو ملتقى الأزمنة المختلفة، إن الشخصية التي يجسدها هي حقيقتها اختصار لكل إنسان أو لنمط مورين منه.
إن الزمن الاحتفالي هو بالضرورة زمن أسطوري وذلك لأنه يتخذ له خطة دائريا تنتفي فيه نقطة البدء والختام، إن الاحتفال يعود دائما سواء بعودة الخصب إلى الطبيعة أو عودة القمر، فهو إذن بهذا متكرر وفي تكراره يتجدد ومن هنا كان المثل هو هذا الكائن الذي يعيش الزمن المتجدد باستمرار، فهو يعيش أكثر من مرة ويولد أكثر من مرة، ويموت أكثر من مرة، إنه ليس عمرا واحدا، وإنما هو حزمة أعمار.
ولما كان المسرح الاحتفالي يسعى إلى المزاوجة بين الماضي كشيء معلوم- وبين المستقبل – كشيء مجهول- فقد كان من الطبيعي أن يعتمد على عنصر المصادفة، لأن هذه الأخيرة تبث الحياة والتجدد والتلقائية والأنية وذلك بمساعدة المفاجأة، الشيء الذي يبعد الفعل المسرحي عن الآلية ويجعل منه احتفالا حيا مباشرا، الشيء الذي يبيح للممثل أن يخطئ، وأن يضيع منه الحوار وأن يضيف بذكاء وأن يتوقف عن التمثيل أيضا، وأن يدخل بعض الكلمات الشائعة أو بعض قضايا الساعة، كل هذه الفواصل تشعر الجمهور أنه أمام احتفال يقام الآن وليس أمام حدث جاهز ومطبوخ، إنه أمام مجموعة من الناس الأحياء وليس أمام شاشة سينمائية تنعكس عليها الصور المسجلة من قبل، ولما كانت الذاكرة عماد الممثل وعدوه في نفس الوقت، فقد كان لا بد له أن يتذكر وأن ينسى في نفس الوقت. ينسى المسرحية ككل، ويذكر أجزائها. هذه الأجزاء التي تجعل عملية البناء تتم الآن وفي حضور الجميع.
إنهم يرفضون الكيفية التي تقدم بها الأحداث في هذا المسرح أي المسرح التقليدي، هذه الأحداث، ومهما كانت طبيعتها فإنها تبقى مخالفة أهو حقيقي، وهي وإن جعلت الجمهور يلتزم الصمت أمام مشاهدها المدهشة. فمرد ذلك للحافز المكاني بالدرجة الأولى، لأن الخشبة كعالم تختلف عن الصالة كعالم أخر، بينهما مسافات ميكانية وزمانية كبيرة، إنهما عالمان متوازيان، ولكنهما لا يلتقيان، أما بالنسبة للمسرح الاحتفالي فليس هناك غير عالم واحد، وهو (الآن) ومكان واحد هو (هنا) إن ما نشاهده لا يمكنه أن ينفصل عنا، إنه صورتنا كما تظهر في المرأة، وهل يعقل أن يتفرج الإنسان على حياته من غير أن يفعل أي شيء؟ من هنا تنبع ضرورة القول بمعايشة الإبداع، وذلك عوض (التفرج على الإبداع) وعندما نقول بالصمت كتعبير هو الآخر، فالمقصود من صمتنا هذا هو: السكون بل حوارا وحركة.
وكذلك الشأن بالنسبة للإبداع الذي يتم خارج حضور الآخرين وفي غياب مشاركتهم لأنه يكون حوار فرد لآخر في حين أن المفروض فيه أن يكون حوار جماعة لجماعة، ثم أنه من جهة أخرى لا يختصر الأمكنة والأزمنة داخل مكان واحد وزمن واحد، الشيء الذي يجعل، أن كل واحد من الحاضرين يبقى محتفظا بمكانه وزمانه ومناخه وفضائه، في حين أن الاحتفال هو فضاء مکاني وزماني يجمع كل الناس حول قضايا مشتركة، الشيء الذي يوجد بالتالي إحساسا موحدا.
إن نفس الأمر بالنسبة لارتباطه أو ربطه المسرح – بالمكان، مع أنه في حقيقته أوسع وأرحب من أن تحده جدران، كما أن قضاياه أيضا، اعقد وأكبر من أن تعبر عنها لغة واحدة هي لغة اللفظ وحده، إن المسرح وهو الحياة في اتساعها وعظمتها- لا يمكن أن يكون إلا شاملا وغنيا ومركبا وغامضا مثلها تماما، وأن المسيحية ليست هي الكنيسة، كما أن الإسلام ليس هو المسرح البناية(10).
كما يرفضون أن يصبح الممثل لعبة في يد الدور، إذ كلما تخلص من هذه السلطة إلا وأصبح يدخل اللعبة فيلعبها دورن أن تلعب به، وكلما تحقق له ذلك إلا وحصل تجاوب وتواصل بينه وبين الجمهور، الشيء الذي يزيد من قوة هذا التجاوب والتواصل، هو أن هذا الممثل اثناء احتفاله لا ينقل الأحاسيس كما في المسرح الدرامي ولا ينقل الأفكار والأوامر كما في المسرح الملحمي بل يحي بحضور الأخرين ومشاركتهم تظاهرة شعبية، وذلك من أجل إعادة النظر إلى الواقع، وذلك بواسط عيون جماعية وإحساس جماعي.
وكذلك العقل الذي يقتل الحياة من أجل أن يتأملها وهي في حالة السكون والثبات، ويعوضونه بالذي يعي الحياة وهي في حالة الفعل والحركة والمخاض والتحول، إنه العقل الذي يريدونه للممثل وللجمهور.. نفس الشيء بالنسبة للجمهور، إنهم لا يريدون أن يكون أداة للوصول إلى شيء أخر غيره(11).
يرفضون اعتبار الممثل وهو المبدع الثالث، وذلك إلى جانب المؤلف والمخرج، أن يكون مجرد عنصر سينوغرافي يمكن أن يعني شيئا معينا وذلك داخل أوضاع خاصة، وأن يكون مجرد ذاكرة، ذاكرة تختزن الحوار والحالات والمواقف والإرشادات المختلفة، فالمسرح لقاء حي بالأساس لقاء بين الإنسان والآخر، وعندما تموت الحيوية في الممثل، ويتحول إلى عنصر جامد، فإنه لا بد بالضرورة أن يموت المسرح كذلك، إن الممثل في الاحتفال هو الاحتفال، كما أن الإنسان في الحياة هو الحياة أيضا.

الممثل الاحتفالي عند عبد الكريم برشيد
إن الممثل في المنظور الاحتفالي مطالب بالاستنساخ ملاحظات المخرج، لأنه لو فعل ذلك، لتحول المسرح -وهو فين الإنسان في المقام الأول إلى سيرك – وأصبح المخرج بالتالي مروضا لنوع أخر من الحيوانات) يقول الممثل الصيني لا تعطيني في كل يوم سمكة، ولكن علمني كيف أصطاد السمك فالمخرج يجب أن يخفيه كتقنيات جامدة وأليات وتعليمات خاصة.
حقا إن المخرج في الخلق المسرحي هو الصانع الثاني ولكن، ليس شرطا أن كل ما هو أساس لا بد أن يظهر ان الدم في العروق – وهو يعطي النبض والحياة والانطلاق ولكنه مع ذلك لا يظهر، تسمع دقات القلب وتراه وإذا حدث أن خرج من دائرة (الكمون) إلى دائرة الظهور فإن ذلك بالتأكيد مؤشر سيء فما يهم إذن، وهو أن نرى الحركة، ووجود الحركة دليل حسي على وجود المحرك، هذا هو المفتاح الأساسي بالنسبة للإخراج الاحتفالي هذا الإخراج الذي يركز على ال(هنا) والآن، أي على الاحتفال كعالم متصل ومنفصل بما قبله وبعده. فالانفصال ظاهر لأنه شيء يحدث الآن، أما الاتصال الخفي لأنه متعلق بما هو قبلي وغائب، فالاحتفال كفعل عيني هو بالتأكيد شيء أخر غير مراحل الاعداد لهذا الحفل، لهذا كان المسرح -كعالم حسي- منفصلا تماما، ساعة الاحتفال – عن ميتافيزيقيا المسرح.

أن تكون الأسس التي يقوم عليها الديكور مخالفة للتحديد التالي:
1- أنه لا شيء في المسرح يمكن أن يكون خارج المسرح، الفكر وليس كعالم ميتافيزيقي ما ورائي – لا وجود له، فلا وجود إلا لما نرى ونحس ونلمس ونسمع فالازدواجية التقليدية بين الظاهر والخفي والوجه والظهر، والفعل وما قبل الفعل، تصبح وحدة واحدة متكاملة اسمها المسرح … المسرح كعالم واحد له مستويات متعددة، متداخلة ومتكاملة فيما بينها.
2- إن الممثل في المسرح الاحتفالي وجدان وفکر وعضلات إنه شاعر وعالم وعامل، يشتغل وجدانيا وفكريا وعضليا، لهذا وجب إحداث تغييرات اساسية في العلاقة بين الممثل والديكور – هذه العلاقة التي ظلت في المسرح التقليدي متصفة بالسكون والثبات، وجعلت من الممثل والديكور عالمين منفصلين عن بعضهما يتجاوران ولا يتجاوزان، ويؤدي كل منهما دورا مميزا الديكور يعني شيئا أو أشياء والممثل يعر عن إحساس وقضايا.
3- إن الاحتفال في مفهومه العام- عودة إلى زمن ما، زمن يتردد باستمرار، يتجدد ولا يتكرر، يعود مشابها ذاته، ومخالفا لها في نفس الوقت. فالاحتفال في نفس الوقت، فاعلية طرف دون آخر، حركية المبدع وثبات المتفرج.
4- إن الاحتفالية هي بالأساس خطاب أو خطابات مغايرة وأن كل مقال جدید لا بد أن يكون له مقام جديد أيضا، من هنا تأتي مشروعية البحث عن معمار هندسي مغایر.
5- إن المسرح / الخشبة – كم يرونها لا يمكن أن يكون تقيا في جدار. ولا يمكن أن يكون كوة ضيقة كما هو الأمر في المسرح الإطالي – كوة تنفتح على عوالم مغايرة، في عالم الوهم والسحر والخيال والتاريخ، هذا الفصل في المكان والزمان، بین الآن وما كان بين الأنا) وال (هناك) بين الحسي والملموس، والخيال هو ما تدمره الاحتفالية، فلا وجود إلا لفضاء مكاني واحد هو مكان اللقاء هذا اللقاء الذي:
هو نفسا – يستوعب الحدث المسرحي، كحدث يتصل بنا حينا، ويتفصل عنا أحيانا أخرى، ولا وجود أيضا إلا لزمن واحد هو الزمن المسرحي وهو زمن يغيب فيه الفرق بين الأمس واليوم، والآتي غدا، إن المسرح وإن كان في شكله الخارجي ميدانا للأشخاص – فهو في جوهره فضاء للمعاني ونعرف أن المعني غير مرتبط بزمن معين أن المعاني موجودة في كل زمان ومكان وباختفاء التمييز بين المتفرج) وصندوق التفرج وبين المشاهد وبين الواقعي والوهمي، فقد كان لا بد من مراجعة كل البناء المسرحي التقليدي وأن يتم التفكير في تأسيس فضاء جديد يمكن أن يستوعب الاحتفال المسرحي ويبعده عن أن يكون طقوسا في كنيسة أو قرية أمام صندوق سحري أو تجمعا رسميا في بناية رسمية.
أن يظل الحدث المسرحي داخل صندوق الوهم أي أن يظل غارقا في الزيف والأقنعة والصباغ. أن الخروج به من هذا الصندوق هو تحرر للتمثيل من التمثيل والاقتراب به كثيرا من حقيقة الأشياء وجوهرها(12).
أن يكون التمثيل الحق غير اختفاء التمثيل. لأنه يكمن في غياب الزيف وحضور الحقيقة، يكمن في التحرر من جاذبية التكلف والآلية. إن التمثيل فعل بالأساس وكل فعل شرطة التحرر والانطلاق والهدف والبساطة أن التمثيل يقتل التمثيل، كما أن الإخراج يقتل الإخراج أيضا، من الممكن جدا أن يقتل الإخراج، خصوصا إذا لم يكن هذا الإخراج شفافا بالقدر الذي يظهره ويخفيه في نفس الوقت، يظهره كفعل ونبض وانفاس

إن الضحك الاحتفالي مبني على أسس مغايرة، هذه الأسس يمكن أن تجمل فيما يلي:
-1 الحضور والمساهمة حضور اللقاء والمساهمة – عويا ووجدانيا- في إقامة الحفل/ اللقاء، إن أي لقاء كيفما كان – لا بد وأن يفقد معناه ومبناه في (حضور) غياب أنياب وبهذا فلا وجود لثالث (غائب وبالتالي فإن فعل الغياب يصبح لاغيا.
2- إن الاتصال المنفصل هو ما يعوض – في المسرح الاحتفالي الانفصال المحض أي أن الحاضر المحتفل هو نفسه الذاتي التي تضحك، والموضوع. الذي يضحك عليه، فهو بهذا الناظر والمنظور والذات والموضوع، هو من يخطئ أولا ومن يلاحظ بعين الناقد هذا الخطأ ثانيا، ليعمل ثالثا- على تخطي هذا الخطأ في ذاته، وواقعه. فالضحك من هذا المنظور إذن، ليس هروبا من الذات، ولكنه تجاوز له -كما هي- الآن، كما أنه ليس قفزا على الواقع ولكنه موقف نقدي منه، لتفسيره وتغييره.
إن الضحك والاندهاش، فعلان لا يقبلان، التكرار، فلا أحد يمكن أن يندهش أو يضحك من نفس الشيء مرتين، وعليه كان تحديد الضحك، تحديدا – في نفس الوقت- لموضوع الضحك تجديد الذات والموضوع، الأنا والأخر فهو يغوص في عمق الواقع الإنساني ليا تجاوز مفارقاته اللا معقوله فيه.
أن يكون المسرح شيء آخر غير اللقاء، يتواجد داخل فضاء مكاني معين، لأن طبيعة هذا الفضاء وهندسته لا يمكن أن يكون إلا استجابة الطبيعة هذا اللقاء. فالهندسة إذن كشل وحجم وقياسات مختلفة لا يمكن أن تكون بلا معنى، إن الشكل مضمون في جوهره، والأحجام كيفما كانت لا يمكن أن نفصلها عن طبيعة الفضاء المسرحي.

من هنا إذن كان بحثهم عن البناء المسرحي منطلقا من الأساس التالي:
– مراعاة طبيعة اللقاء في المسرح الاحتفالي، هذا اللقاء الذي يربط المبدع بالمبدع، والمبدع بالمساهم بروابط جديدة، مختلفة كل الاختلاف، عن كل الروابط التقليدية. فعلاقة المبدع/ المتفرج هي علاقة متآكلة لأنها مبنية على الفاعلية والسكون في حين أن الثاني هو الحركة والحيوية والتجدد.
– أنهم يرفضون النظر إلى الشخصية المسرحية إلا على أساس أنها فعل أو أفعال تمت أو تتم داخل فضاء زمني معين وكذلك كعلاقات مجتمعية وذلك باعتبار أن الذي يحدد هوية الفرد هو طبيعة العلاقات به.
إن الشخصية في المنظور الاحتفالي مبنية على أساسين: الاتصال / والانفصال/: الاتصال بالماضي، أي بما هو عام ومشترك، والانفصال في ذات الوقت عن هذا العالم المشترك للبحث عن التميز والتفرد لتجاوز المعطيات الأولوية والإفلات من جاذبية القطيع.
– كما يرفضون أيضا أن يكون النص المسرحي مسرحية، بل على العكس من ذلك، أنه مشروع مسرحية أو مسرحية أو مسرحيات متعددة، لأن الشي في الاحتفالية لا ينظر إليه في سكونيته ولكن في حركيته، وبهذا فإن المسرحية ليست هي النص، فالبذرة بالأساس هي مشروع سنابل وللوصول رلى هذه الصورة، فلابد من المرور من فعل أو أفعال متعددة هي الزرع والسقي والتعهد.. فالمسرح عمل ترکیبي، أساس النص الأدبي(13).
– الاحتفاظ بالجمهور طوال الاحتفال المسرحي – على إحساس واحد وأن يظل سجين نفسية واحدة، حالة تبتدئ بسيطة ثم تنتهي مركبة.
– الاحتفاظ بالجمهور طوال الاحتفال المسرحي – على أحساس واحد وأن يظل سجين نفسية واحدة، حالة تبتدي بسيطة ثم تنتهي بالفاجعة المرتقبة أو بالحل السعيد، ويريدون له أن يتشبع بتناقضات الواقعية وأن يقف على المفارقات التي تطبع وجوده الذاتي أو الاجتماعي، إن الخط الذي يسير فيه الحدث – في المسرح الاحتفالي – هو خط منكسر، الشيء الذي يحرر العمل الإبداعي من الجبرية المزدوجة، جبرية السقوط الفاجع وجبرية الحل السعيد، فلا حل ولا نهاية في المسرح الاحتفالي فالحفل ينتهي – وهذا شيء طبيعي – ولكن ما يمثله هذا الحفل لا يمكن أن ينتهي.
أن تكون هناك مسافات بين من يتفرج وبين ما يتفرج عليه هذه المسافة تختفي كليا في المسرح الاحتفالي، ذلك لأنه لا فرق بين الانا والآخر، بين الذات والموضوع، الشيء الذي يجعل المضحك لا يضحك والفرجة لا تكون فرجة، والموسي لا يؤسي أن يكرر نفسه، وذلك داخل زمنين مختلفين:
 كما يرفضون أن يكون الشيء الأساسي في المسرح هو الكلمة بل الفعل لأن الكلمة غالبا ما اتفق عند حد الوصف ولا تتعداه الى الفعل، الكلمة تصف. عوالم، ولكن تمسرح يصنع هذه العوالم، الكلمة تقف بك عند باب المتخيل ولكن المسرح – كفعل – يدخل بك إلى الوهمي والحلمي والماورائي، وإن ما يميز المسرح الاحتفالي عن غيره من المسارح الأخرى هو نفس الشي أو الأشياء التي تميز الحياة عن الموت، فالسمة الأساسية في هذا المسرح هو أنه فن حي يتحرك ويمشي ويتأثر بلحظة الاحتفال ويوثر فيها، يعبر ويحاور، ويتجدد بتجدد الزمن والمناخ والطقس والظروف، فهو يتحدث عن الفعل بالفعل، ويترجم الحدث بالحدث، ويشخص الحياة بالحياة وبهذا كان في جوهره فعلا داخل فعل وحياة داخل حياة، وأحداث داخل أحداث، الشي الذي يجعله أكثر تركيبية من الواقع الواقعي وأكثر حقيقة منه.
– ويرفضون أيضا اعتبار تحطيم الجدار الرابع وهو تجديد على مستوى الشكل فقط، في حين أن هذا الفعل هو استجابة موضوعية لقناعات فكرية مفادها: إن الفن هو الحياة في صورتها المركزة والمكثفة، فهو شيء داخل في لحمتها ونسيجها، ومن هنا نبعث ضرورة ردم الهوة التي ظلت الزمن طويل – منتصبة بين الفن والحياة، بين الواقعي والوهمي، الحقيقة والتمثيل.
– وكذلك الشأن بالنسبة لما هو قار وثابت كاللوحة/الصورة حيث وأصبح الاهتمام مركزا على الفعل، فعل رسم برسم ونرسم ويرسمون…
– نفس الشيء بالنسبة لفعل الإبداع، حيث يرفضون أن يكون فعلا فرديا ومختلفا، بل جماعيا على شكل تظاهرة شعبية عامة، يحضرها الجميع ويساهم فيها الجميع.
– نفس الأمر بالنسبة للمبدع، حيث يرفضون الصفاة التي تجعل منه ساحرا وعرافا كالغموض والتقنع.
– إنهم يرفضون الانتظار في المسرح ويعوضونه بالاحتفال لأن الأول إحساس بالشلل وغياب للفعل وترقب في نفس الآن أن يحدث شيء في ألا يعطى الممثل شخصيته، ولكن يعلمه كيف يبحث عن شخصيته أو عن شخصياته المختلفة إن التمثيل حياة، ولا أحد يمكن أن يعيش بدلا عن الآخرين.
إن التمثيل وفق (الموديل) يجعل المتعدد يصبح في صيغة المفرد، إنه يختصر كل الأبعاد داخل بعد واحد، فالمخرج – عندما يقول المثل – افعل كما أفعل فهو يتحول إلى موديل) وبهذا فقد يحدث أن يتعدد الممثلون والشخصيات ولكن (الموديل) يبقي واحدا، كما أن المسرحيات قد تتغير، ولكن الموديل يبقى ثابتا كما كان، إن الشخصية المسرحية هي صيرورة بالأساس، في حين أن الموديل) كينونة ساكنة.
في المسرح التقليدي يقال للممثل: اشتغل وكان الجمهور أمامك غير موجود، لكن الاحتفالية حاولت إخراجه من هذه الظلمة لتقول له: اشتغل دائما وفي ذهنك أنك أمام الجمهور، وأن كل الأزمان مهما اختلفت وتباعدت- فلا بد أن نصوص كلها في (الأنا) وأن كل الأمكنة لا بد أن تكون مختصرة (هنا).
– إنهم يرفضون فناء الممثل في الدور وليس العكس(14) .
وكذلك الشأن بالنسبة للأدوار، فهم يرفضون أي توزيع لها إذا لم يكن على هذا الأساس: إن البحث عن عناصر الاتفاق بين الممثل والدور بعد خطأ لأنه لو اعتمدنا هذه العملية قاعدة فإنه لا بد في النهاية أن ينتفي الفرق بين التمثيل واللاتمثيل لأن الممثل ساعتها يكون له دور واحد، هو دوره في الحياة، هذا الدور الذي سيتكرر مع كل الأعمال والشخصيات المختلفة والصحيح إذا، هو أن يبحث عن عناصر الاختلاف وكلما كان التباين شديدا فإن التركيب في النهاية يأتي بشخصية جديدة، لا هي بالممثل تماما، ولا هي ما كتب المؤلف ولا ما تصور المخرج.
إن الشخصية المسرحية لا يمكن أن تتكرر مرتين، لأن الإنسان – كما قال كير کارد – (فرد فريد لا يمكن تكراره) وبهذا كان التمييز والجدة عنصران أساسيان في الشخصية لأنه لا أحد يمكن أن يكرر غيره، المسرحي هو إعادة متجددة لفعل الكتابة، هذا الفعل الذي يقف عند معين، ولكن يتجاوز ذاته باستمرار وأن تجديد الاحتفال – كحدث متغير يدور حول محور ثابت يتطلب بالتأكيد تجديد الأدوات والملحقات المرتبطة بهذا الحدث، ومن بين هذه الملحقات نجد الديكور والملابس والإضاءة.
4- معادات الطبيعة: وذلك لأن المسرح الاحتفالي لا ينسخ الواقع الطبيعي ولكنه يركب واقعا مسرحيا جديدا هذا الواقع الجديد هو بالأساس واقع مركب بشكل كيميائي دقيق- يعتمد هذا التركيب في كلياته وجزئیاته- على المزج بين الأجواء المختلفة، مزج الواقع بالحلم وإغراق الحقيقي في الأسطوري، وإدخال الوهمي في طلب اليومي، والخلط بين التمثيل واللاتمثيل الشيء الذي يجعلنا نعيش كمساهمين في الحفل المسرحي، داخل أجواء شفافة، نعرفها كعناصر أساسية، ولكننا نجهلها كتركيبات لهذه العناصر الأولوية المنتزعة من الواقع الطبيعي. هذه الأجواء التي ليست طبيعية، لا بد أن تعرض في ديكور غير طبيعي وذلك حتى يتم التوافق والتجانس بين الفضاء العام لهذا الواقع المسرحي والوحدات الأساسية التي تكونه وتشكله.
5- العمل على تحرير العين من كل ما هو عادي ومألوف وذلك حتى لا يعود الجمهور يقف عند حد رؤيته للعالم بل يتحداها إلى اكتشافه من جديد ولهذا فالديكور كتركيب لقطة “سينوغرافية مختلفة، لا يمكن أن تنقطع عن عملية التركيب هذه، ولهذا أيضا كانت عملية التركيب، تركيب الديكور شينا داخلا في نسيج العملية الإبداعية فالستار لا ينزل ثم يرتفع لنجعل الجمهور فجأة أمام عربة أو سفينة، لأن المهم، هو أن يحضر هذا الجمهور عملية بناء العربية أو السفينة، وكذلك الشأن بالنسبة للملابس فهم يسعون إلى أن يظهر وها مع من يلبسوها.
إنهم يحرصون على إظهارها مع من يلبسها كحقیقتين منفصلتين عن بعضهما في المقام الأول ثم يعملون على إظهارها في المقام الثاني كعملية ارتداء. أما بالنسبة للإضاءة، فالمهم فيها هو أن يرى الضوء من غير أن يرى من يصنعه ويوزعه، يرى ضوء النهار وإشراق الفجر من غير أن يعرف الجمهور كيف يحدث هذا الاحتفالية لا تؤكد على الإنارة بقدر ما تؤكد على الفعل، هذا الفعل الذي تجعله مكشوفا وظاهرا، الشيء الذي يجعل المسرحية تتخلى عن طابعها السحري لتصبح فعلا مركبا يساهم فيه عمال عديدون – الإضاءة المسرحية في الاحتفالية لا تنحصر في الصندوق السحري، وإنما تتوزع على حلقات الحدث الموزعة في جسم المسرح(15). أما بالنسبة للماكياج فالمسرح الاحتفالي لا يسعى إلى التزيين لأنه يسويه، بل يسعى من خلاله إلى أن يكشف للجمهور عن كل مظاهر الزيف والتمويه سواء كانت في ذاته أو فيما حوله من المظاهر والمفاهيم المختلفة(16). أما بالنسبة للأكسيسوار فشيء تحصر الاحتفالية تجاوزه وقيامه كنص مسرحي له دلالة معبرة في الفعل الذي يقوم به الممثل(17).
الكتابة بمفهومها التقليدي لأن ثقل الانتظار ظل غائبا فيها، فلا حد في هذه المسرحية يشعر بالقلق وبتململ فوق مقعده حتى كانت مسرحية (في انتظار غودو) هذه المسرحية كتب القلق بالقلق والفراغ والعبث، وكذلك الأمر بالنسبة للمسرح الاحتفالي، فهو لا يسطر كلمات تقرأ أو تسمع ولكنه يحيي حفلا يعاش.
اللغة بمفهومهما التقليدي (الفصحي أو العامية أو المزج بينهما) ويؤكد على اللغة الأكثر تعبيرا وبعدا وعمقا، إنها اللغة الشعرية الدرامية ولتكن هذه الخاصية عامية أو فصحى، لأن الأساس هو جوهر الكلام وروحه، هذا الجوهر الكامن في الشعر، وذلك باعتباره سلطان الكلام(18).
ومهما لكن من أمر، فإن أستاذي عبد الكريم برشيد قد دفعني لقراءة الفلسفة وعلم الاجتماع، فأصبحت مدمنا على القراءة مند أن كنت تلميذا في الخمسيات، وكانت هذه المدينة المنتمية تعج بالفلسفة الماركسية، بالكتب الجديدة الأتية منه الرباط من طرف الطلبة، لذا شربت منه هذا الكأس الفلسفي وأشكر الدكتور إبراهيم الهنائي، ومحمد السويري والنجاري، والتمسماني الذين علمونا كيف نكتب.

الهوامش:
(1)- عبد الكريم برشيد، حدود الكائن والممكن، ص 122.
(2)- عبد الرحمان بن زيدان، من قضايا المسرح المغربي، صوت مكناس 1978، ص 16.
(3)- يوسف إدريس، نحو مسرح عربي، بيروت، 1974، ص 467.
(4)- د علي الراعي، المسرح في اوطن العربي، الكويت، 1980، ص 14.
(5)- يوسف إدريس، نحو مسرح عربي، بيروت، 1974، ص 34.
(6)- الحياة المسرحية، ع 13، السنة 80، ص 134.
(7)- عبد الرحمان بن زيدان، من قضايا المسرح الغربي، صوت مكناس، 1978، ص 23.
(8)- ألف عامر عام على المسرح العربي ترجمة توفيق المؤذن.
(9)- عبد الكريم برشيد، المسرح الاحتفالي، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع، ط 1، 1990/1989، ص 17.
(10)- عبد الكريم برشيد، المسرح الاحتفالي، الدار الجماهرية للنشر والتوزيع، ط 1 / 89-90.
(11)- ص 52 29 – عبد الكريم برشيد المسرح الاحتفالي الدار الجماهرية للنشر والتوزيع ط/۱ 89 – 90 ص 62
(12)- الموضوع د – عبد الكريم برشيد المسرح الاحتفالي الدار الجماهرية للنشر والتوزيع ط 1 /89-90 ص 120.
(13)- د – عبد الكريم برشيد، المسرح الاحتفالي، ص 109-113.
(14)- عبد الكريم برشيد، المسرح الاحتفالي، ص 71.
(15)- عبد الكريم برشيد، المسرح الاحتفالي، ص 134-131.
(16)- نفس المرجع، ص 344.
(17)- نفس المرجع.
(18)- عبد الكريم برشيد، المسرح الاحتفالي، ص 186.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى