لورنس العرب

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
في الفيلم البريطاني – الأكثر من رائع – “لورانس العرب” المأخوذ عن قصة بطله الحقيقية (أعمدة الحكمة السبعة)، والذي أبدع فيه الأبطال حتى قدم كل منهم أكثر مما ينتظر، وتفوق المعظم على ما تملك نفسه من مقدرت وإمكانات؛ ربما تكون مادة الفيلم التاريخية هي الباعث الحثيث الذي دفع كل واحد من الأبطال أن يقدم أجود وأفضل ما عنده؛ أو ربما ظن كل في نفسه أن أداءه التمثيلي هو نوع من التمسح في البطولة التاريخية التي تمس صاحبها بشيء من البطولة ولو لم يكن بطلا؛ فالحديث عن الأبطال لا شك بعض بطولة ، والحديث عن العظماء شيء من العظمة.. وكما قيل:
تشبهوا بالرجال إن لم تكون مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
أبدع كل من [بيتر أوتول (لورانس)، وعمر الشريف (الشريف على)، وأنتوني كوين (عودة أبو طي)، وأليك غينيس (الأمير فيصل)]، وكذلك السيناريست والإخراج والتصوير الذي تم معظمه في المنطقة العربية.
يبدأ الفيلم بمشهد بسيط لحديث لبعض انطباعات الضباط البريطانيين القدامى عن شخصية لورنس، والتي توحي من خلال حديثهم أنه لم يكن ذو تقدير ملحوظ لا على المستوى الرسمي ولا على المستوى الوظيفي من القادة الذي خدم معهم، حتى وفاته أيضا لم تكن ذات شأن كانت في حادث دراجة نارية، مما يعكس أنه حتى بعد أن أدى مهامه لم يحظ بتقدير ملحوظ من القيادة البريطانية (السياسية أو العسكرية)؛ لكنه كان عند العرب عظيما فاتحا.. ولست أعلم إلى الآن ما الفرق وما السبب، إلا أن يكون هو الفرق ذاته بين حجم العقلية العربية المهولة والعقلية الإنجليزية المغرقة في الواقعية؟!!
(لورانس ) هذا الضابط البريطاني المغمور في الوسط العسكري البريطاني، غير أنه كان يتمتع بثقافة تاريخية وجغرافية للمنطقة العربية والشخصية العربية التي برع في احتوائها فيما لم يستطع ذلك غيره حتى من العرب أنفسهم ؛ يعاني هذا الضابط حسب إيحاءاته الجسدية (لغة الجسد) كثيرا من الضعف النفسي والتهميس الاجتماعي والازدراء القيادي، لكنه يقنع أن بداخله طاقة كامنة، وعبقرية فذة، وطموحا بلا حدود يفتقد كل ذلك فقط للخريطة الجغرافية السياسية التي يسطيع أن يعكس على تفاصيها إبداعاته، ويرسم على خطوطها خططه وفصاحته العقلية والعسكرية.
ثم تواتيه هذه الفرصة التي يختاره فيها أحد رؤسائه (درايدن) الذي رأى فيه شيئا ما، ليكون مبعوث الامبراطورية البريطانية للمنطقة العربية؛ ليرى ما يمكن أن تقدمه بريطانيا للعرب للتخلص من العثمانيين الأتراك، الذين يحكمون المنطقة العربية آنذاك تحت مظلة الخلافة الإسلامية، وما يمكن أن تجنيه بريطانيا لقاء هذه المساعدة .. لم يكن هذا الضابط الصغير المغمور مكلفا أو محملا بأجندة عسكرية أو سياسية واضحة إنما فقط ليرى ماذا يريد العرب، وما يمكن أن يقدمه الإنجليز كخطوة أولى تحدد حجم نفوذهم في منطقة شبه الجزيرة العربية وما حولها من الشام (سورية وفلسطين والأردن ولبنان)؛ وهكذا يجني الغرب من بلادنا خيرات عظيمة بأثمان بهيظة!!.
وحين يضع هذا الرجل قدمه في المنطقة؛ يصور المخرج الحال العربية تصويرا غريبا لا أظنه يبعد عن الحقيقة آنها شيئا، ولم يغير المد التاريخي كثيرا منها حتى الآن، وإن تبدلت مظاهر المدينة شيئا ما فأعلت البنيان، وطاولت الأبراج السحب، ولبست الرجال الحرير، ونبذت وراءها الشاة والبعير.. لكن روح الجاهلية القبلية لا تزال سارية في النفوس لم تفارقها، وإن استطال بها الزمان وتغير شكل المكان، وتحورت صورة الإنسان العربي، لكنني لا أزال أراه كما هو تبعا للغرب مسيدا لهم وإن أعلن بلسان قوله غير ذلك فالعبرة بالحال لا بالمقال.
وكأن هذه البلاد حينها لم تعرف يوما روح الحضارة ولا ريحها، ولم تحكم أكثر من نصف العالم، ولم تتربع على سدته أكثر من عشرة قرون، ولم يظهر بين ظهرانيها منذ ألف وأربعمائة عام تقريبا نبيا أنقض كل مظاهر العصبية والقبلية البادية، وأرسى دعائم الأخوة ، ونبذ التناحر والتباغض والتدابر والتشاحن.. وكأن لم ينزل فيهم كتابا يخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم الحكمة ويعلمهم مالم يكونوا يعلمون!!.
وكأن لم تشيد هناك المدن، وتبسط نظم الحضارة، وتشرع هناك القوانين التي علمت الأرض العدل والسواسية والحرية والحقوق والقيم، وأقامت الحدود وهذبت النفوس وأرست دعائم الأسر والمجتمع، وسنت القوانين والشرائع ، وحفظت الأرواح والأبدان والأنساب والعقول والأديان، وعلمت الإنسانية التعايش والتعارف والبناء الحضاري وأرغمت أنوف الجبابرة والطغاة والبغاة.
قدم لورنس على مشهد بسيط، لكنه عميق يعكس في بساطته قراءة وملخصا للحال العربية آنذاك، هذا المشهد الذي يقتل فيه علي الحارثي (بني حارث) الدليل الحازمي (بني حازم) المرافق للورانس على شربة ماء حين وجده يملأ جرابه أو قربته من بئر تابعة لقبيلته الحارثية؛ هكذا أصبح حال العرب الذين نزل فيهم “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) “[آل عمران]، ولكن لم تنطبق عليهم الآية بقدر ما انطبقت عليهم غيرها ” أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)”[الحديد].
وقد صدق القرآن عليهم حقائقه إذ قال لهم “لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم” أي وصفكم، فإلم تكن الأخوة والألفة والاعتصام كما أراد الله، فلا شك أنها ستكون (القسوة ) بعد طول الأمد ثم الفسق المترتب على القسوة.
في مشهد آخر مع المبدع (أنتوني كوين ــ عودة أبوطي) زعيم قبلية الحويطات المعروفة بالشراسة القتالية وشدة البأس والنفرة، لكنها على الجانب الآخر في السرقة والنهب وقطع الطريق وتقديم مصلحة القبليلة فوق كل شيئ، يفاوض لورنس عودة الزعيم أن يزحف معهم إلى العقبة لمهاجمة الأتراك، وذلك بعد تكرار نفس المشهد إذ يحاول عودة أن يمنعهم عن الماء (البئر) التابعة لقبيلته ولو ترتب على ذلك سفكا لكثير من الدماء، فيتدخل (لورانس) مطمئنا ومهدئا داعيا للسلم بين القبائل، فيرضح العرب.. وكأنه يقول – وليس بمخطئ – إن العرب لا ينقادون أبدا لأنفسهم أو لبني جلدتهم أنفة وكبرا، لكنهم ــ ولا يزالوا ــ يرضخون طائعين للغرب ولو كان ذلك حلفا على إخوانهم كما نرى ورأينا في العراق وسورية واليمن ولبنان وليبيا.
يحاول لورانس الداهية أن يقنع عودة الشرس الانقياد، العنت المراس أن ينضم إليه ومن معه لمهاجمة الأتراك في العقبة ويعده بالذهب بدلا أن يكون خادما للـأتراك، وحين يرفض عودة الانضمام وينتفض غاضبا لوصفة بخادم الأتراك، يعرض عليه لورنس أن ينضم ل(العرب)، فيستنكر عودة ثانية (من العرب)؟ أنا لا أعرف قبيلة العرب، أنا أعرف الحويطات، عجيلي، روالة، بني صخر، حتى قبيلة الحارث أسمع عنهم، لكن لم أسمع عن قبيلة العرب، منهتى الاستهانة والتحقير واللانتمائية ؛ فيكون الجواب من لورنس لاذعا وأشد وقعا فيقول :”قبيلة من العبيد يخدمون الأتراك”.. هكذا الخبث البريطاني الذي يٌمنّي العرب في غياباتهم وجهلهم بالحرية والمملكة، فيصف انضواءهم تحت راية الخلافة الإسلامية بالعبودية .. فأي تدليس وتزييف للحقائق، وأي حمق في العقول هذا الذي يستقبل الزيف ويؤمن به، بل ويؤمن أن الذئاب هم الرعاة، وأن النجاة مع الهلاك؟!! яндекс
وللحديث بقية ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى