ملاحظات حول البنية المتناقضة للمدينة الاستعمارية
د. إيهاب بسيسو | فلسطين
يستدعي الاستيطان تحقيق سياسات متعددة من الاضطهاد تعتمد بشكل متباين على المصادرة والإبادة ونفي الحقوق التاريخية والوطنية والانسانية،
ومن أجل نفي الحقوق التاريخية والوطنية والانسانية، وطمسها وتجاهلها في السياق المعرفي والتاريخ يستدعي ذلك صناعة ايدلوجيا الإقصاء والإلغاء والتفوق والكراهية والتي تشكل جميعها العصب المركزي للفكر الاستعماري القديم والمعاصر،
حيث تعتمد ايدلوجيا الإقصاء على تفوق القوة الاستعمارية التي تضمن توفير الغطاء العسكري للاستيطان وايدلوجيا الإقصاء والكراهية، الساعية إلى تحقيق أنماط متعددة من الإبادة…
المُحصِّلة: مجتمع استعماري استيطاني يحاول خلق مساحة إحلالية في الجغرافيا ورواية بديلة للتاريخ، توفر لهذا المجتمع المُصنَّع وفق رؤية استعمارية إقصائية مقومات الحياة والاستمرار …
النتيجة: فشل ذريع في تحقيق الهدف الاستعماري رغم كل ملامح “النجاح المؤقت” للوظيفة الاستعمارية للمجتمع الاستيطاني …
فقياس فرص النجاح لمشاريع الهيمنة والقوة الاستعمارية العابرة للحدود أو استطانية التكوين يعتمد على جملة من العوامل المختلفة منها عامل الزمن والأمن والاقتصاد والتي ما أن تصل إلى ذروة “النجاح” الاستعماري حتى تبدأ في التقلص والانهيار التدريجي مع تحولها من فرص حياتية جاذبة لمزيد من الأوهام الاستعمارية إلى تحدٍ سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي يتطلب المزيد من الحماية التي تتحول إلى حالة متعاظمة من العبء الاستراتيجي للقوة الاستعمارية وحلفائها المتعددين …
المدينة الاستعمارية، سواء قامت على أنقاض مدينة سابقة تم احتلالها وتدميرها وتغيير وظيفتها الحيوية في عالم ما قبل الحرب الاستعمارية، أو تم صناعتها من توليفة القوة وايدلوجيا الإقصاء والإبادة، لا تستطيع تحقيق الاستمرارية الوظيفية للمدن في سياق متابعة تطور الوظيفة المَدينية خصوصاً في عصر الحداثة وما بعد الحداثة …
فالمدينة الاستعمارية تتناقض تدريجياً خلال المسار الزمني لصعود وهبوط المدن من خلال تفاعلها الإلزامي مع مفاهيم عدة منها العصرنة والفردانية والتعددية المبنية على كوزموبولوتانية مجتمعات ما بعد حقبة الاستعمار الكلاسيكي، والحقوق الانسانية والثقافية والعقائدية والتراثية، مما يدفع المدينة الاستعمارية إلى الانهيار التدريجي والحتمي في محيط أوسع يعتمد على علاقات القوة المبنية على عوامل الاقتصاد والمعرفة وحقوق الانسان …
في المقابل ولكي تواصل المدينة الاستعمارية حماية ذاتها من التفكك المجتمعي القائم على رؤية عسكرية استعمارية ضيقة، تتناقض مع التراكم التاريخي للمكان بأبعاده الهوياتية والاجتماعية، تسعى المدينة الاستعمارية إلى الانغلاق وراء الجدران والحواجز وتكثيف دور ايدلوجيا الإقصاء والكراهية عبر وسائل الاتصال المختلفة،
وهذا بدوره يساهم في التقلص الوظيفي للمدينة الاستعمارية مع التطور البشري في صناعة المجتمعات الحديثة …
إن انحسار المدينة الاستعمارية في بعض نماذج معاصرة سواء من خلال إنتاج المستوطنة الكولونيالية أو المدينة الجديدة القائمة على علاقات السوق والمنفعة الاقتصادية، لا تستطيع مواجهة العامل الديموغرافي المتسارع ولا تستطيع اللجوء إلى خيار الإبادة الشاملة كأحد فصول الحروب الدموية …
حيث تُعلمنا مجازر الإبادة في التاريخ خصوصاً خلال القرن العشرين، أن كل المحاولات السياسية الفاشية والنازية والاستعمارية لخلق مجتمعات وظيفية تتمتع بالنقاء العرقي أو الايديولوجي كان مصيرها الفشل …
وبالتالي فإن القدرة على صون الحق في المقاومة من خلال جعل الثقافة الوطنية كمفهوم انساني ووطني يهتم برصد التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونقدها وتوظيفها في العمل الإبداعي في مختلف المجالات بهدف خلق فضاءات فكرية لمقاومة الاستعمار والهيمنة، يجعلنا أكثر وضوحاً مع الذات وأكثر انتباهاً لقوة الثقافة في السياسة، الثقافة القادرة على صون البنية المجتمعية من الانهيار في مستنقعات الاستهلاك الاستعماري والفوضى …
ملاحظة أخيرة:
إغلاق مؤسسات لحقوق الانسان في الضفة الغربية في فلسطين المحتلة من قبل قوات الاستعمار الاسرائيلي، ما هي إلا صورة فجة من سياسات القمع والاضطهاد التي تلجأ إليها عقلية “المدينة الاستعمارية” لحماية نفسها من الانهيار الحتمي، لتجد نفسها تكرس صورتها القمعية الاستبداية الاستعمارية والتي تضعها في فخ التناقض المفاهيمي والتطبيقي لحق الانسان في مقاومة الاضطهاد والاستعمار وصون حقوقه من مختلف محاولات الإلغاء والإبادة …
ينطبق هذا على جرائم القتل والاغتيال كما حدث مع الصحفية شيرين أبو عاقلة في ١١ أيار ٢٠٢٢ بالقرب من مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين وما حدث مؤخراً في من عدوان على غزة والبلدة القديمة في نابلس وحملات الاعتقالات المتواصلة في مختلف مدن وقرى ومخيمات فلسطين المحتلة.