المغالطات المنطقية وأثرها في الشعر العربي (5)

أ.د. يوسف حطّيني | شاعر وأكاديمي – جامعة الإمارات

الفصل الرّابع: على شَفا….

وإنّيَ لاحِبٌ بالظلم سهلٌ ومنحدِرٌ لصافي القلبِ زَلْقُ
الجواهري

(1)
في حلقة بعنوان “كلّ شي تمام ” من حلقات مسلسل “حكايا المرايا” للفنان ياسر العظمة يعود أبو صالح إلى الضيعة بعد غياب، ويحاور ابنه؛ ليطمئن على أحوال الأهل والضيعة، فيجري بينهما حوار يمكن تلخيصه على النحو التالي:
ـ لقد انكسرت عصا الفأس يا أبي.
ـ وكيف انكسرت؟
ـ انكسرت بينما كنا نحفر قبراً لبقرتنا الحلوب.
ـ وكيف ماتت البقرة؟
ـ ماتت محروقة؛ لأنها كانت مربوطة قرب بيدر القمح الذي احترق.
ـ ولماذا احترق البيدر؟
ـ بسبب سيجارة رماها أخي الصغير عبود دون أن ينتبه.
ـ ومنذ متى يدخّن عبّود السجائر؟
ـ منذ ماتت أمي، كل إخوتي صاروا يدخنون.
ـ وما سبب موت أمك؟
ـ ماتت حزناً على أختي نظمية التي مات زوجها.
ـ وكيف مات؟
ـ كرّ عليه الجرار من أعلى المرتفع، وقد أصبح الجرار غير ذي نفع بعد أن استدَنّا مبلغاً كبيراً من المختار، ثم بعنا الأرض لتسديده.
ـ ولماذا استدنتم مبلغاً كبيراً من المختار؟
ـ لنذفعه ديّةً إلى بيت الخشاب الذين قتل أخي ناظمٌ ابنَهم”…
وقد آثرنا اختصاراً للحوار أن نحذف ردود أفعال الأب على الأحداث المتوالية التي عصفت به أخبارُها بشكل متتابع؛ لأنّ ما يهمنا هنا هو التتابع المتسارع لهذه الأخبار التي تبدأ صغيرة ثم تكبر وتعظم، حتى لكأنّ “صالح” وضع والده في أعلى منحدرٍ زلق، ثم دفعه دفعة صغيرة؛ ليجد الأب نفسه في حضيض منزلقٍ إخباريٍّ حرمه فأسه وبقرته وبيدره وزوجته وزوج ابنته وأرضه…
أسوق هذه البداية لشرح مغالطة منطقية تسمّى مغالطة المنحدر الزلق (SlipperySlope)، توسّطاً لعرض تجلياتها في الشعر، وهي مغالطة تقوم على “أن يرفض الشخص فكرة ما، دون دليل يقيني، بناء على افتراض سلسلة من العواقب، أو النتائج السيئة، والتي ستؤدي في النهاية لنتيجة فادحة “، وتُعرض فيها الأحداث عرضاً متتابعاً متلازماً، في حين أنها لا تفترض التتابع والتلازم، ويسمّي بعضهم هذه المغالطة بمغالطة أنف الجمل (Camel’s Nose ). ويورد الأستاذ عادل مصطفى المثال التالي على هذه المغالطة:
قال البدوي: “إذا تركت الجمل يدس أنفه في خيمتي في هذه الليلة الباردة فإنه يوشك بعد ذلك أن يدسّ رأسه كلّه، ثم لا يلبث أن يدس رقبته، وسرعان ما أجد الجمل برمّته، وقد اقتحم عليّ الخيمة “.
ويوضّح الأستاذ عادل هذه المغالطة بقوله: “أن فعلاً ما، ضئيلاً أو تافهاً بحد ذاته، سوف يجرّ وراءه سلسلة محتومة من العواقب، تؤدي في نهاية المطاف إلى نتيجة كارثية “.
ولا نتفق مع الأستاذ عادل، الذي ندين له بالكثير في صناعة كتابنا هذا، في أن نتيجة هذه المغالطة ستكون كارثية بالضرورة؛ إذ يمكن أن تكون على العكس من ذلك تماماً، فثمة وسائط دعائية تعتمد المغالطة ذاتها، وهي تتحدث عن كيفية تكوين الثروات من غير جهد يُذكر.
ويجرّد الأستاذ رشيد الراضي هذه المغالطة على النحو التالي:
• وقوع الحدث ج.
• إذن لا شك أن الحدث د سيقع.
• وقد يضاف إلى ذلك: وما دام الحدث د قد وقع، فلا شك أن الحدث ن سيقع …

(2)
وقد لاحظت أنّ هذه المغالطة عندما تكون في حلّة أدبية، نثرية أو شعرية، يكثر في معظمها اللجوء إلى الأدوات اللغوية التي تفيد التتابع والاحتمال، إذ يكثر استخدام الأداتين (الفاء وثم) للتعاقب الذي يتطلبه العرض.
ونستذكر هنا بيتين شهيرين للشاعر أحمد شوقي، يدلّان على مقدرة عجيبة في ابتكار الأفكار، وكيفية تقديمها، يقول فيهما:
نظرة فابتسامةٌ فسلامٌ/ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
فوصالٌ يكون منه دواءٌ/ أو فراقٌ يكون منه الداءُ
يفترض الشاعر هنا أنّ المراحل الست التي يقترحها للمغامرة العشقية متتابعة ومتلازمة، فكأنّ كل نظرة تتبعها ابتسامة، وكأن كل ابتسامة يتبعها سلام، وكأن كلّ سلام يتبعه كلام، وكأنّ كل كلام يتبعه موعد، وكأنّ كل موعد يتبعه لقاء.
هكذا، في حضرة الشعر، يصور أحمد شوقي هذا التتابع كأنه تتابع حتمي، فيعطي الشعر زخماً وسرعةً، قبل أن ينتبه في البيت الذي يليه (وقد أضيف إلى القصيدة لاحقاً) إلى أنّ ثمة احتمالات “منطقية” تترجح بين الهجر والوصال.
ولعلّنا نستطيع أن نمثّل التداعيات المتلاحقة للنظرة الأولى على النحو التالي:

نظرة
ابتسامة
ابتسامة
سلام
سلام
كلام
كلام
موعد
موعد
لقاء

بقليل من التأمّل نستطيع ببساطة أن نكتشف أن مغالطة المنحدر الزلق التي يتنباها الشاعر طريقة لصوغ المقدمات والنهايات محكومة بمغالطات متكررة، تقوم على التعميم؛ فالخاص الذي يمكن أن يحدث بين كل مقدمة ونتيجة يبدو في البيت كأنه قاعدة عامة، وهذا التخصيص الذي يجعله الشاعر تعميماً يقدَّم في كلّ مرة؛ ليقود إلى نتيجة بعيدة كل البعد عن المقدمة الأولى.
ومن مثل ذلك ما نراه عند محمّد مهدي الجواهري الذي يفترض التتابع المثالي في لقاء العاشقين، عندما يصوّر حسناء رآها في مصيف فارنا على البحر الأسود؛ إذ يستطيع بخياله الفذّ ولغته الآسرة أن يرسم أجمل لوحة تصويرية ذات أجزاء متتابعة لعاشقة تغفو على ذراع عاشقها:

يا مزيجاً من ألفِ كونٍ ترفَّـقْ

إنَّ كـــوناً على ذراعيــكَ أغفى
دفعَ الصَّدْرَ دفعةً أعجـبَ النّهـ

دينِ منهُ طيبُ المُقــــــــــامِ فرفّا
الشّهيانِ لُملِما ، فاستدارا

فاستثارا ، فاستضرَيَا ، فاستخفَا
وثنى طيّةً فضمّر كشحاً

ورأى فسحةً فدوّر خلفا

إنه سيناريو مثالي للقاء رومانسي لا يخدشه عارض، وما أكثر العوارض التي يمكن أن تخدش هذا السيناريو في الحياة، وتودي بهذا التراكم السببي، وتقوده إلى طريق آخر.
تتناقل كتب الأدب حادثة طريفة تتعلق بموت الإمام محمد عبده الذي تناوب على رثائه لفيف من الشعراء، هم الشيخ أحمد أبو خطوة، وحسن عاصم بك، وحسن عبد الرازق باشا الكبير، وقاسم أمين، وحفني ناصف، وحافظ إبراهيم.
وتأتي الطرافة من أن الموت راح يتخطّف هؤلاء حسب ترتيب تناوبهم على رثاء محمد عبده، فمات أبو خطوة، ثم حسن عاصم، ثم حسن عبد الرازق، ثم قاسم أمين، وحين مرض حافظ إبراهيم بعث إليه حفني ناصف مداعباً بقصيدة يطمئنه فيها، ويؤكد له ـ ضمن المنحدر الزلق الذي استنتجه من موت الذين سبقوه ـ أن دورَه في الموت لم يحن بعد:

أتَذْكُرُ إذ كُنّا على القَبْرِ سِتَّةً

نُعَدِّدُ آثارَ الإمامِ ونَنْدُبُ
وقفنا بترْتيبٍ وقد دبَّ بيننا

مماتٌ على وَفْقِ الرِّثاءِ مُرَتَّبُ
أبو خطْوةٍ ولَّى وقَفَّاه عاصمٌ

وجاءَ لعبدالرازقِ الموتُ يطلبُ
فلبَّى وغابتْ بَعْدَهُ شمسُ قاسمٍ

وعمّا قريبٍ نجمُ مَحْيايَ يغْرُبُ
فلا تخشَ هُلْكاً ما حَيِيتُ وإن أمتْ

فما أنت إلا خائفٌ يترَقَّبُ
فخاطرْ وقعْ تحت القِطارِ ولا تخفْ

ونمْ تحت بيتَ الوقفِ وهو مُخَرَبُ
وخُضْ لُجَجَ الهيْجاءِ أعزلَ آمناً

فإن المنايا منك تجري وتهربُ

وحين شفي حافظ إبرهيم استمرأ اللعب مع القدر، مطمئناً إلى الترتيب غير الملزم لملك الموت الذي يقبض أرواح البشر، فبعث ببعض أبيات يداعب فيها حفني يقول له:

أيا حِفْني جزاك الله خيراً

بأحسنِ ما يكونُ لك الجزاءُ
فقد طمأنتني وأزحتَ عني

هموما ثم وافاني الشفاءُ
دعوتُ الله أن يبقيك حيا

تُعَمَّرُ في الحياة ولا تُساءُ
وما هذا لحبٍ فيك لكن

بقاؤك إنما هو لي بقاءُ

لقد وضع حفني مقدمة، صاغها في نفسه على الشكل التالي:
مات الشيخ أحمد أبو خطوة، فتبعه حسن عاصم بك.
مات حسن عاصم بك، فتبعه حسن عبد الرازق.
مات حسن عبد الرازق، فتبعه قاسم أمين.
واستنتج بناء على تلك المقدمة نتيجتين قد لا تكونان صحيحتين بالضرورة، وهي:
مات قاسم أمين، وسيتبعه حفني ناصيف.
حين يموت حفني ناصيف، سيتبعه حافظ إبراهيم.
وتشاء الأقدار أن يتوفى حفني ناصف، فيكتب حافظ إبراهيم قصيدة، لا دعابة فيها، مستسلماً للترتيب الذي لا فكاك منه، بعد أن صار الحيّ الوحيد بين هؤلاء، تلك القصيدة التي يرثي فيها حفني، وبقية رفاقه، منتظراً الموت الذي زارهم بذلك التتالي العجيب. قال حافظ:

آذَنَتْ شمسُ حياتي بالمغيبِ

ودنَا المَنْهَلُ يا نفسي فطيبي
قد مضَى حفني وهذا يومُنا

يتَدانَى فاستتيبي وأنيبي
أذكُري الموتَ لدى النَّوْمِ ولا

تغْفُلي أن تذكري عند الهُبوب
واذكري الوحشةَ في القبْرِ فلا

مؤنسٌ فيه سوى تقوى القلوبِ
قد وقفْنا ستةً نبكي على

عالمِ المَشْرقِ في يومٍ عصيبِ
وقف الخمسةُ قبلي فمضوْا

هكذا قبلي.. وإني عن قريبِ
وَرَدُوا الحوضَ تِباعاً فقضوْا

باتفاقِ في مناياهمْ عجيبِ
أنا مُذْ بانُوا وولّى عهدُهُمْ

حاضرُ اللوْعَةِ موصولُ النَّحيبِ

إنّ هذا التتابع الذي توقعه الشاعران هو تتابع لم يكن مسلّماً به، فصدقية بعض المقدمات التي جاءت بنتائج أمضاها القدر، لا يعني صدقية ما بعدها.

(3)
وثمة كثير من الأمثلة التي تقدّم نتائج افتراضية لمقدّمات غير ملزمة بها، وقد كثر ذلك في الشعر العربي، وخاصة الحديث والمعاصر الذي يتعامل بحذر مع أي تطوّر يمسّ الحياة العامة، محذّراً من نتائج كارثية قد لا تكون، ومتجاهلاً أو مبخّساً فضل التطور، ناظراً إليه بعين الريبة. ومن ذلك مثلاً ما نلاحظه من تحذير الأدباء والدعاة نتيجة إقبال الناس على استخدام الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، على نحو ما نجد في قصيدة تقول في بعض أبياتها:

وجدتُ النتّ جامعة البلايا

وداعية إلى قطف الخطايا
غزا كل الشعوب وحلّ فيها

وصيرهم لفتنته مطايا
بيوت للقُرَان بها دويٌ

كصوت النّحل دوى في الخلايا
بيوتٌ عُمّرت بالذكر دهراً

قد امتلأت مزاميراً ونايا
محا منها الفضائل والمبادي

وغيّر ما لديها من سجايا
فكم من جاهل أضحى فقيهاً

يرجّح في المسائل والقضايا
رأيتُ الهابطين غدَوْا نجوماً

تتابعهم ملايين البرايا

إنّ النظر في النص السابق يوحي بأنّ من أدخل النت إلى بيته إنما يضع نفسه على شفا جرف هارٍ، فالنتّ يجمع البلايا، فيقطف الخطايا، ويغزو البيوت فيقضي على صوت القرآن، ويحل الطرب مكان الذكر، ويمحو الفضائل، ويغيّر السجايا، ويجعل الجاهلين علماء، والهابطين نجوماً… إلخ
ولم أورد كاملَ القصيدة التي تحتوي على منزلقات أخرى يحذر الشاعر منها، كتخريب البيوت العامرة، والتأثير على تربية الأطفال والناشئة من مواقع البغاء والدعارة. وحتى يدفع الشاعر عن نفسه صفة التحيّز الواضحة، فإنه يشير ـ دون ان يفصّل ـ إلى أنّ للشبكة العنكبوتية (بعض) الفوائد التي لا تقارن بأضرارها:
فإن قلتم وجدنا فيه نفعاً/ نعم تجدون في بعض الزوايا
هناك منافع شتّى ولكن/ لظى الأضرار أحرقت المزايا
ويمكن بغير عناء أن نستخرج بعض المغالطات التي تفترض سلسلة من التلازمات غير الضرورية في النص السابق، فدخول الإنترنت قد لا يجمع البلايا، وقد لا يقطف الخطايا، وقد لا يقضي على صوت القرآن حين يدخل (يغزو) البيوت، وقد لا يحلّ الطرب بدل الذّكر، وقد لا يمحو الفضائل، وقد يكون فضاء مناسباً لكتّاب حقيقيين لم يجدوا منبراً غيره.
ولست هنا لتعداد فوائد الشبكة العنكبوتية التي صارت محركاً أساسياً لحياتنا اليومية، ولكنني أشير إلى أنّ الارتياب وسوء الظنّ بالجديد يقود إلى تلك المغالطة التي تنطلق من تجاهل جانب واضح من الفوائد. وإذا كان سوء الظنّ يقود إلى مغالطة من هذا النوع، فإنّ حسن الظن يقود إلى مثل تلك المغالطة؛ وقد غصّت كتب الأدب بأمثلة من المغالطات التي تقوم على حسن الظن بالمتلقي، واستدراجه إلى حيث يريد مُنشئ المغالطة القائمة على التتابع غير المعلّل؛ ويمكن هنا أن نشير إلى حادثة طريفة قاد فيها الشاعر أبو دلامة الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفاح إلى منحدر زلق حقق من خلاله بغيته في العطايا المتتالية التي لم يكن ليحصّلها بطريقة أخرى، يقول صاحب نوادر الخلفاء:
“وروي أن أبو دلامة الشاعر كان واقفاً بين يدي السفاح في بعض الأيام فقال: سلني حاجتك؟ فقال له أبو دلامة: أريد كلب صيد.
فقال: أعطوه إياه.
فقال: ودابة أتصيد عليها.
فقال: أعطوه دابة.
فقال: وغلاماً يقود الكلب والصيد.
فقال: أعطوه غلاماً.
فقال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه.
فقال: أعطوه جارية.
فقال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال ولا بد لهم من دار يسكنونها.
فقال: أعطوه داراً تجمعهم.
ثم قال: وإن تكن لهم الدار فمن أين يعيشون؟ قال: قد أقطعتك عشرة ضياع عامرة وعشرة غامرة من فيافي بني إسرائيل.
قال: وما معنى الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: ما لا نبات فيها.
قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين مائة ضيعة غامرة من فيافي بني سعد.
فضحك منه وقال: أعطوه كلها عامرة “.
واضح من هذه الحيلة التي تبنى على التتابع السببي أنها تقود إلى النتيجة المتوخاة عن طريق الثقة بعطاء الخليفة الذي لا يريد أن تهتزّ صورته، بوصفه منبع الجود والكرم؛ وليس من شأن البحث التعليق على الأموال التي هُدرت من بيت مال المسلمين في غير موضعها المستحق على مدى التاريخ، ولكنّ غاية هذا المثال تبيان قدرة المتلقي/ السفّاح على قطع الطريق على النتيجة المرجوّة في أي مفصل من مفاصل هذه الحجج الواهية، للبرهنة على عدم الترابط الحتمي بين المقدمة والنتيجة.

(4)
ومن ذلك أيضاً ما كان يدّعيه الشعراء من أحلام ينثرونها بين يدي ذوي السلطان لنيل عطاياهم، فيأتي الحلم على شكل طلبات متتابعة، على نحو ما جاء في العقد الفريد من أنّ ابن عبدل دخل على عبد الملك بن بشر بن مروان لما ولي الكوفة، “فقعد بين السماطين ثم قال: أيها الأمير، إنّي رأيت رؤيا فائذن لي في قصصها. فقال:
قل. فقال:

أغفيتُ قبل الصّبح نومَ مسهّدٍ

في ساعة ما كنت قبل أنامُها
فرأيت أنك رعتني بوليدةٍ

مفلوجةٍ حسن عليّ قيامُها
وببدرةٍ حُملتْ إليّ وبغلةٍ

شهباءَ ناجيةٍ يصرُّ لجامُها

قال له عبد الملك بن بشر بن مروان: كل شيء رأيت فهو عندي إلا البغلة، فإنها دهماء فارهة. قال: امرأتي طالق ثلاثاً إن كنت رأيتها إلّا دهماء، إلّا أني غلطت “.
هنا يدرك عبد المللك بن بشر “كذب” ابن عبدل، ويضع له شوكاً في طريق مغالطته؛ حتى لا تسير إلى نهاية سلسلتها غير المترابطة، لكنّ الحالم يعدّل على حلمه، بما يناسب استعطاءه.
وفي أغلب الحكايات فإن ذوي النفوذ كانوا يتظارفون على السائلين، ويفضحون نفاقهم، ولكنهم لم يكونوا يردونهم خائبين، ومن ذلك الحكاية التي يوردها صاحب العقد الفريد نفسه بعد هذه الحكاية مباشرة، وفيها يقول:
“قال البطين الشاعر: قدمت على ابن يحيى الأرميني فكتبت إليه:

رأيت في النوم أني راكب فرساً

ولي وصيفٌ وفي كفي دنانيرُ
فقال قومٌ لهم حذقٌ ومعرفةٌ

رأيت خيراً وللأحلام تعبيرُ
رؤياك فسر غداً عند الأمير تجد

تعبير ذاك وفي الفال التباشيرُ
فجئت مستبشراً مستشعراً فرحاً

وعند مثلك لي بالفعل تبشيرُ

(قال) فوقَّعَ لي في أسفلِ كتابي: أضغاثُ أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. ثم أمرَ لي بكلّ شيءٍ ذكرته في أبياتي، ورأيته في منامي ”
وقد رأينا في الحكايتين السابقتين استغلالاً لخصلة الكرم (أو صورة الكرم النموذجي) التي يتحلّى بها أصحاب النفوذ من الخلفاء والسلاطين الذين استنزفوا بيت المال، كي يحافظوا على تلك الصورة، مهما انزلقت بهم طلبات السائلين وأحلامهم .

(5)
وقد تتخفى مغالطة المنحدر الزلق في أشكال مختلفة، وربما تحتاج أحياناً بعض الاجتهاد لاكتشافها، ومن ذلك ما نراه عند الشاعر السوداني إدريس جمّاع الذي جعل حظه في مهبّ الريح عن طريق تراتبية من سوء الحظ التي تدعوه إلى استخدام أسلوب التعجب في النهاية. يقول إدريس:

إنّ حظّي كدقيقٍ

فوقَ شوكٍ نثروهُ
ثمّ قالوا لحُفاةٍ

يومَ ريح ٍ اِجمعوهُ
صعُبَ الأمرُ عليهمْ

قلتُ يا قوم ِ اتركوهُ
إنّ من أشقاهُ ربِّي

كيفَ أنتم تسعدوهُ ؟

ومن ذلك أيضاً ما نراه عند الشافعي الذي ينصح بالصمت على حساب الكلام، وما ذلك إلا لأن الكلام منحدر زلق يورد صاحبه المهالك، فاللسان يلدغ صاحبه أولاً، ثم يودي به في المقابر ثانياً. قال الشافعي:

اِحفَظ لِسانَكَ أَيُّها الإِنسانُ

لا يَلدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعبانُ
كَم في المَقابِرِ مِن قَتيلِ لِسانِهِ

كانَت تَهابُ لِقاءَهُ الأَقرانُ

وقد يقول قائل: ربما لم يقصد الشافعي من حفظ اللسان صمته، وهنا نستطيع أن نستعين بديوان الشافعي مرة أخرى؛ لنبيّن أن حفظ اللسان عنده هو الصمت، لأنه أصونَ من الكلام للنفس، واحفظ للعرض، كما يظهر ذلك في قوله:

وَجَدتُ سُكوتي مَتجَراً فَلَزِمتُهُ

إِذا لَم أَجِد رِبحاً فَلَستُ بِخاسِرِ
وَما الصَمتُ إِلّا في الرِجالِ مُتَاجِرٌ

وَتاجِرُهُ يَعلو عَلى كُلِّ تاجِرِ

(6)
كما يتخفى هذا النوع من المغالطات أحياناً بمجموعة من الأحداث التراتبية التي تغري خصم صاحب النص، فيلجأ إليها، أو يتحدّاه كاتب النص أن يلجأ إليها، ليقوم متلقي رسالة النص بمجموعة من الأفعال التي لا يجني منها شيئاً، ولعلنا نشير هنا إلى نص لسميح القاسم، يتحدى العدو المحتلّ، ليقوم بكل ما لديه من قمع تراتبي، يزداد ويكبر ككرة الثلج، من أجل أن يبلغه الشاعر أن نهايةَ مُنزَلقِهِ هي عدم المساومة. يقول:

ربما تسلبني آخر شبر من ترابي
ربما تطعم للسجن شبابي
من أثاث.. وأوان.. وخوابِ
ربما تحرق أشعاري وكتبي
ربما تطعم لحمي للكلابِ
ربما تبقى على قريتنا كابوس رعب
يا عدو الشمس لكن.. لن أساومْ
وإلى آخر نبض في عروقي.. سأقاومْ

وعلى الرغم من أنّ قصيدة “لص في منزل شاعر” للشاعر محمد البردّوني نص واقعي؛ فإنه يحيل على مغالطة يخرج منها اللص خاسراً، وينسجها الشاعر في قالب ظريف:

شكرا، دخلت بلا إثاره

وبلا طفور أو غراره
لمّا أغرت خنقت في

رجليك ضوضاء الإغاره
لم تسلب الطين السّكون

ولم ترع نوم الحجاره
كالطّيف جئت بلا خطى

وبلا صدى وبلا إشاره

غير أن الشاعر هنا يتدخل في المسار الطبيعي، معتمداً مبدأ تفريغ الذروة: لقد قمتَ أيّها اللص بكل ما يجب من الحيطة والحذر، ولم تجنِ شيئاً، بل إنك خرجت خاسراً حين نسيت علبة سجائرك؛ وإذا كان الدخول بلا إثارة، يؤدي إلى عدم تخويف حجارة البيت، والخطو الهادئ لا يستثر صاحب البيت، فإن تتمة الحكاية التي تَعِدُ بغلّةٍ وفيرة للص، انقلبت حين حرف الشاعر المنحدر الطبيعي عن مساره إذ قال:

ماذا وجدت سوى الفراغ

هرّة تشتمّ فاره
ولهاث صعلوك الحروف

يصوغ، من دمه العباره
يا لصّ، عفوا إن رجعت

بدون ربح، أو خساره
لم تلقَ إلا خيبة

ونسيت صندوق السجاره

ويبدو لي أنّ كشف تجليات مغالطة المنحدر الزلق في الشعر أوسع من أن تحدّ بمجموعة من الأنماط ؛ ذلك أن الشعراء تفننوا في افتراع أشكال جديدة، قادرة على أغواء المتلقي، وعلى التاكيد له أن المنطق الذي يحكم الحوارات العقلية ليس له أهمية كبيرة عند الشعراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى