رب الخورنق والسدير
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
هذا صنف من الناس تلعب الطوارق برأسه، ومتغيرات الزمان، فينتشي حتى يجد نفسه على حال الشاعر الجاهلي الملقب ب (المنخل اليشكري) الذي يقول:
ولقد شربت من المدامة بالصغير وبالكبير
فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير..
والخورنق والسدير: هما قصران للملك النعمان بن المنذر، والشويهة: هي الشاة الواضحة الهزال من الجوع والقلة..
لكن شاعرنا المنخل رغم ما صنعت الخمر برأسه حتى قال ما قال، فإنه كان صاحب إفاقة بعدها وعقل وشعر، حتى نقل لنا التاريخ خبره.
أما الصنف المقصود فإنه على حال من النشوة المتلبسة غير المفارقة، وقد حمله زبد السيل فطفا رابيا زابدا ظانا أنه فوق طبقات السحاب، وعلى سبحات الغيم.. وقد رمت به فسحات الزمان المتقلب على حين غفلة من الدهر فألقته في أحد المواقع المسئولة الإدارية السلطوية، فراح يرغي ويزبد، ويوعد ويرجف، ويصول ويجول، ويدبج من خيالاته المريضة بطولات وفتوحات.. وراح يرد من حوله المرجفون في المدينة ليغروه بما يفعل، ويملوا له فيما يقول، فيدعي حكمة سقراط وفلسفة الغزالي وعقل ابن حزم وطب جالينوس .. وفصاحة أبي تمام ، وشاعرية المتنبي.. فلا يقلب كفه، ولا يخاطب نفسه، ولا ينظر إلا في عطفيه، يصعر خده، ويمشي في الأرض مرحا.. غره الغرور، وأنساه البطر حقيقة نفسه، ووزن مقداره.
وما أشبه صاحب هذه النفس بالنفس التي وصفها ابن زيدون في رسالته لابن عبدوس غريمه في حب ولادة حين قال مخاطبا إياه:
” أما بعد ، أيها المصاب بعقله ، المورط بجهله ، البين سقطه ، الفاحش غلطه ، العاثر في ذيل اغتراره ، الاعمى عن شمس نهاره ،الساقط سقوط الذباب على الشراب ، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب ، فان العجب أكبر ، ومعرفة المرء نفسه اصوب”.. ثم يعدد أوصافه ساخرا، فيقول:
”ولا شك أنها قلتك اذ لم تضن بك، وملتك اذ لم تغر عليك ، فإنها اعذرت في السفارة لك ، وما قصرت في النيابة عنك ، زاعمة ان المروءة لفظ انت معناه ، والانسانية اسم انت جسمه وهيولاه ، قاطعة انك انفردت بالجمال، واستاثرت بالكمال ، واستعليت في مراتب الجلال، واستوليت على محاسن الخلال ، حتى خلت ان يوسف ـ عليه السلام ـ حاسنك فغضضت منه، وان امراة العزيز رأتك فسلت عنه، وأن قارون أصاب بعض ما كنزت ، وكسرى حمل غاشيتك، وقيصر رعى ماشيتك ، والسكندر قتل دارا في طاعتك، وأردشير جاهد ملوك الطوائف لخروجهم عن جماعتك، والضحاك استدعى مسالمتك”..
ولقد رأينا حمالات السيل هذه معاودة كل حين حين يقذف تياره، فتخال نفسه وهي رابية فوق قمة الزبد أنها ذات وزن، وأن النواظر ترقب خيالتها من قريب ومن بعيد.. وما تظن أن هذا الترقب هو لهدوء السيل وسكون هديره، حتى يعلم كل امرئ حقيقة نفسه وغاية حظه من حمالات الحوادث، وأن زبد السيل معلوم نهاية أمره فلا ينشغل الناس أنفسهم به، فيحط به ركامات بعضها فوق بعض عند أحد السفوح حتى يطأه المارة بأقدامهم ، ثم لا يكون شيء أو بعض شيء.
والمعلوم أنه لابد لهذا الزبد أن يطمي حتى يميز الخبيث من الطيب، والغث من الثمين، والقشرة من الأصيل.. ولولا دناءة هذا مع عرف طيب معدن هذا ..
فلولا اشتعال النار فيما حاورت
ما كان يعرف طيب دهن العود
ولله در الإمام الشافعي حين يعزي نفسه، ويسلي أمثاله فيقول:
تَرى الرَجُلَ النَحيفَ فَتَزدَريهِ
وَفي أَثوابِهِ أَسَدٌ مُزيرُ
وَيُعجِبُكَ الطَريرُ فَتَبتَليهِ
فَيُخلِفُ ظّنَّكَ الرَجُلُ الطَريرُ
فَما عِظَمُ الرِجالِ لَهُم بِفَخرٍ
وَلَكِن فَخرُهُم كَرَمٌ وَخَيرُ
بُغاثُ الطَيرِ أَكثَرُها فِراخاً
وَاُمُّ الصَقرِ مِقلاةٌ نَزورُ
ضِعافُ الطَيرِ أَطوَلُها جُسوماً
وَلَم تَطُلِ البُزاةُ وَلا الصُقورُ
ضِعافُ الأُسدِ أَكثرُها زَئيراً
وَأَصرَمُها اللَواتي لا تَزيرُ