أقنعة قرية “عبد الحفيظ” المخيفة!
د. رضا عبد الرحيم | شاعر وناقد مصري
قام الشعر الحر بالثورة على الصعيد الشكلى فيما يضم الوزن والقافية مستبدلا بذلك تعدد التفعيلات بالتفعيلة الوحدة كوحدة أساسية فى بناء القصيدة.. وبدلا من القافية الواحدة عدة قوافى محررا بذلك النص الشعرى من روتينية النغم،لكن ثورته هذه لم تقتصر على الصعيد الشكلى فقط أول بمعنى البناء الهندسى للقصيدة فحسب، بل امتدت إلى مضمونها، فتغيرت الموضوعات القديمة المتعارفة فى الشعر العربى من هجاء ومدح ورثاء وغزل، إلى أفكار إنسانية واقعية وتشخيص للهموم الإنسانية[1].
وإن الشاعر المعاصر يأبى أن يرى فى العمل الشعرى مجرد وثيقة نفسية أو اجتماعية لحياته أو لشخصيته،ويرى أنه إذا كان حقا كذلك لكان عملا هزيلا.يقول أدونيس:”ولعل أهزل الأثار الشعرية ..هى غالبا التى لا تكشف إلا عن عقد الشاعر أو ظروفه الاجتماعية الشخصية”..أما الأشعار الشعرية المكتنزة فإنها تستمتع بوجود مستقل عن صاحبها.”إن لها حياتها الخاصة..وبهذا المعنى يصبح الباحثون عن السيرة الشخصية للشعراء فى شعرهم فحسب متجنين على الصدق، لأنهم جعلوا أساسهم الوحيد هو الصدق الفنى، الذى له منطقه الخاص”.
وتتمثل القصيدة المكتنزة أقوى ما تتمثل فى الشعر المعاصر،خصوصا فيما يعرف بقصيدة”القناع”..وفى قصيدة القناع يعمد الشاعر إلى خلق وجود مستقل عن ذاته،وبذلك يبعد عن حدود الغنائية والرومانسية التى تردى أكثر الشعر العربى فيها..فالانفعالات الأولى لم تُعد تشكل القصيدة ومضمونها،بل هى الوسيلة إلى الخلق الفنى المستقل،لذا فإن القصيدة فى مثل هذه الحالة عالم مستقل عن الشاعر،وإن كان هو مبدعها.[2]
يأت عنوان الديوان- وهو كما نعلم جميعا أول عتبات النص – قرية سورها الخوف، وجاء بمفرده قرية نكرة للتعميم، فهو يخبرنا من البداية أنها قرية ما، وليس له ثمة أى علاقة بها، وهو ما أشرنا له فى صدر الدراسة من محاولة الشاعر خلق وجود مستقل للشعر عن ذاته.. وجاء بالخوف ككلمة معرفة، لعمومية اللفظ وعمومية المعنى المقصود منه أيضا.
ونحاول معا الكشف عن ملامح هذه القرية، التى ارتسمها الشاعر فى مخيلته،قبل الشروع فى كتابة قصائده ..،ومن الوهلة الأولى نظن أن مقصده قرية ساحلية بسيطه تشى كلمات الشاعر بذلك قائلا: إذا ضحك البحر شدوا إليك الرحال.. وإن يعبس البحر فالأرض واسعة للعصافير. ولأن القرى الساحلية أقرب فى ملامحها إلى المدن فنجده يصبغها بصفات المدينة التى لا تنام يقول: لا تنام المدينة..لكنها – حين ينتصف الليل – تخرج للبحر عارية.. لكن فى الحقيقة مقصده قرية المنشأ (ربما من ريف أو صعيد مصر) فبيئته الأصلية بيئة بكر تشى مفرداته بذلك: الأحساب، الأنساب، الشيوخ، طاحونه، الحقول، الحظائر.. تعرف قريته الفضيلة والعيب والخوف-ربما يقصد أن الخوف بداخله حمله معه من قريته إلى هذه القرية الساحلية-
يقول: وأنا…،..،قادم من بلاد الحياء، من بلاد الفضيلة والعيب..،……….قادم مفعم بالخجل، شارب لبن الخوف، والعذبلة. وهذا الصدام الحضارى بين بيئتين إحداهما منغلقة تحرم كل شىء، وأخرى منفتحة،وتصوير هذا الصدام الذى يصل إلى صراع نفسى مرير ..الذى نجده يقف حائرا إلى أى جانب ينتصر!!
فيقول: المدينة فى الليل كامرأة الحلم..ناعمة..مبهمة..يقصد هنا “مستباحة العرض والشرف ” إلى أن يصل إلى الوازع الدينى الذى يرده إلى صوابه بعد سمع المؤذن: حين قال المؤذن:”خير من النوم أن تذهبوا للصلاة”.
وهو ما يجعله يرتد سريعا إلى ذكريات قريته الريفية حيث البراءة فيتذكر دروبها،وقصص شيوخها،وما عرف بها من خصال طيبة –يذكر بها نفسه كنوع من التطهر- يقول:فارسا كنت وأصحاب الفضيلة يعرفونك،فارسا كنت وأشياخ القبيلة يألفونك..ثم يقوم بتأنيب نفسه وما أحدثته المدينة فيه قائلا: فارس كنت.. وها أنت.. على سور المدينة، يحتويك الصمت..والنسيان.. والدم والضغينة،إلى أن يصل إلى الاعتراف الكامل قائلا: صرت نهبا للحواة..والروايات المهينة.وفى رحلة الذكريات يرتد كليا إلى قريته الريفية البريئة فيأنس بمشاهد لعب الأطفال، وحيوانتهم الأليفة فى قصيدة “شوارع المساء”.. ويبحث عن شخصية “المسحراتى” المرتبطة بالشهر الفضيل فى قصيدة “العالم الجديد” فيشعر بالاغتراب.. اغتراب الفكرة.. الحاضر/ الماضى، فيذكره بالاسم: كان اسمه عطية.. الذى غيرته الحياة بالارتحال والسفر فجأ لكل فرد بالقرية “بطبلة” ليقوم بدوره فى الحياة فيقول على لسان عطيه: وجدتهم لا يشغلون بالهم بهذه الأمور، ويعجبون من حكاية السحور، هناك كل واحد يدق طبلته، وينتقى على هواه ليلته.
ومع كل هذه الذكريات الطيبة البريئة إلا أن هذه القرية لم تخل من نقائض وعيوب أخلاقية،تجعلها رغم سياج الخوف “مستباحة أيضا”شأنها فى ذلك شأن القرية الساحلية تمام،إلا ان الأمور تجرى بها بشكل مستتر وتحت مسميات أخرى تبدو طيبة ولكنها خبيثة ومخيفة أيضا !!
فها هو يحدثنا عن بعض تفاليد وعادات قريته الريفية التى رضع من أثدائها الخوف،ففى قصيدة”حتى متى” وقصيدة “وبعد عام” يتحدث عن زواج العم بزوجة أخيه الراحل ،واستحسان وتقبل المجتمع الريفى لهذه التقاليد لحماية الأبناء فيقول فى قصيدته الأولى: أو ليس من حق الصغار يلمهم بيت..ويرعاهم أب؟! ويخبرنا فى قصيدته الثانية قائلا: غيروا الطلاء،وغافلت إطار صورة الجدار..صورة لعمهم،فوق ركبتية..أخوهم لأمهم.
وفى قصيدة “الشاهد” يكشف عن المبالغة فى رسم الحزن الزائف على الوجوه قائلا: بعد عناء رسمت بين العينين سحابة حزن، وأنا أعترف الآن.. حقا ما أجمل أن يأتلق الحزن.. بوجه امرأة عاشت للحب عشية أمس!!
إنه النفاق المجتمعى فى أجل صوره وخصوصا فى المناسبات، فإذا كانت أخته تزور قبره بعد ليلة حب (يوم رحيله)؛لتظهر للمجتمع مدى حزنها على الراحل،فها هو صديقه وغريمه أيضا يحضر إلى القبر لا لشىء إلا ليتيقن من موته!!
ثم يعترف أن قريته تلك بسورها المكون من الخوف هائشة ..ضعيفة البنيان وأن الخوف لن يضمن لها البقاء أو الخلود ويتنبأ بسقوطها وانهيارها فنجده فى قصيدة “قرية لم تمت بعد “يحدث قريته قائلا: قرية سورها الخوف تحيا طويلا.. ولكنه الموت منتظر.. والجراد.. ونخلاتها العاليات يحاصرها النمل.. عامان – عشرة – عشرون عاما.. وتسقط فى الليل جدرانها الأربعة!!
الإحالات والمراجع والمصادر:
[1]عبد السلام صحراوى، الشعر الحر وبناء القصيدة عند نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، الجزائر 2011، ص 4
[2]عز الدين إسماعيل، مفهوم الشعر فى كتابات الشعراء المحدثين، القاهرة 2018،ص ص50-51