الحاجة نظمية مزهر وكتيبة النساء في مخيم الدهيشة
عيسى قراقع | فلسطين
الأم الفلسطينية تنام بعين واحدة، وتبقى الأخرى صاحية، عين تجمع الرضى والطمأنينة والدعاء وتغفو في سكينتها الوادعة، وعين تحلق فوق أولادها وبناتها النائمين، تمسد أحلامهم وتنظر في وجوههم مبتسمين هادئين صاعدين الى حياتهم القادمة.
رحلت الحاجة نظمية مزهر أم خالد يوم 15/8/2022 عن عمر يناهز التسعين عاما، وهي من سكان مخيم الدهيشة للاجئين، والدة الأسير ثائر مزهر الذي يقبع في سجون الاحتلال قيد الاعتقال الإداري، وهو والد الشهيد اركان الذي استشهد قبل اربع سنوات برصاص الاحتلال الإسرائيلي، وكان قد ابعد زوجها المناضل المرحوم حلمي مزهر الى الأردن في العام 1970، اعتقل أبناؤها الخمسة في سجون الاحتلال، واستشهد حفيداها في غضون خمسة اشهر وهما الطفلين اركان وساجد.
رحلت الحاجة نظيمة مزهر قائدة الكتيبة النسائية الأولى في مخيم الدهيشة في سنوات السبعينات والثمانينات، لم يكتب عنها المؤرخون ولا الروائيون والمتنافسون على جائزة البوكر للرواية العربية، ربما عجزوا ان يجمعوا بين المرأة والاسطورة، وقد يكون الخيال الأدبي غير قادر ان يستوعب الطبيعة النسائية في فلسطين، وربما لم يستيقظ الراوي بعد منتصف الليل ليرى امرأة تجري في الشوارع والازقة تواجه وتتصدى لاقتحامات ومداهمات جنود الاحتلال وحملات الاعتقال للشبان في كل بيت وحارة، وربما هذا المشهد اكبر من النص عندما تمتلئ الصفحات بالدم وبغبار الحجارة.
لم يصدق الراوي ان ضابط المخابرات الإسرائيلي المدعو (كريم) كان يخشى في تلك السنوات من دخول مخيم الدهيشة، هناك كتيبة نسائية تنتظره على بوابات المخيم، تنقض عليه وعلى جنوده، وقد اعترف اكثر من مرة أنه يخشى اقتحام المخيم لأن فيه الحاجة نظمية مزهر وكتيبتها النسائية، تهاجم الجنود وتحرر الفتيان المعتقلين من بين أيديهم، كتيبة لا تخشى الرصاص والضرب، لا تعرف الخوف، كتيبة قائدتها امرأة تسمى نظمية مزهر واعضاؤها ام عطا مناع وام ماهر فراج، غضب لاجئات لازلن يحملن كابوس النكبة وكوارث التشرد واللجوء وبشاعة الاقتلاع من المكان.
تفاجأ الكاتب الإسرائيلي (ديفيد غروسمان) الذي التقى الحاجة نظمية ام خالد عندما ابلغته ان الانتفاضة قادمة، فكتب: شعرت بالاشتعال من كلمات امرأة تحرس الفجر في المخيم، وبعد سنوات قليلة انفجرت الانتفاضة الأولى وتحققت تلك النبوءة.
لم يصدق قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الذي زار مخيم الدهيشة عام 2000 والتقى ام خالد وكتيبتها في أزقة المخيم، رأى المسيح مصلوبا في الشوارع تحت خيام اللاجئين، المسيح لازال يخوض معركة الخلاص ويبحث عن لغة السلام بين زخات الرصاص واعدامات الشبان ومخاضات النساء يلدن على الرصيف.
الحاجة أم خالد من قرية خلدة المهجرة الواقعة الى الجنوب من مدينة الرملة في فلسطين والتي احتلت عام 1948 على يد القوات الصهيونية، دمرت القرية وشرد أهلها كالآلاف من اللاجئين وكانت رحلة حافلة بالرعب والكوارث الإنسانية، ولم يستوعب المخيم سرديات المطرودين والمقموعين، واستمرت النكبة، آلاف الأسرى والشهداء، التدمير والنهب والاستيطان، لازالوا يلاحقون الحاجة نظمية مزهر، يعتقدون ان قرية خلدة لم تختف عن سطح الأرض، ويعتقدون أنها تنظم رحلات عودة الى القرى المهجرة سرا تزرع البساتين وتعيد بناء البيوت والذكريات.
الكتيبة النسائية توسعت وانضمت لها عشرات النساء، المواجهات تتصاعد ليليا في مخيم الدهيشة، الصراع الذي يجري في الشوارع هو صراع على الإرادة والذاكرة، لا زال اللاجئون خارج السيطرة كما يقول جنرالات الاحتلال، حولوا خيامهم الى أماكن للتضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام والى استقبال المحررين وتوديع الشهداء، المخيم يزحف نحو الحواجز العسكرية، يحمل جروحه وذخيرته الإنسانية والوطنية ويرفض ان يعيش في الاستثناء، يرفض المكان المؤقت الذي يسمى مخيم، وما دام الاحتلال مؤقت حسب أعراف القانون الدولي، فليستمر الاشتباك حتى يزول المؤقت وتكون القاعدة هي العودة في الحياة .
كتب الأسرى القابعون في سجون الاحتلال رسالتهم الى روح الحاجة نظمية مزهر والى أعضاء الكتيبة النسائية خلال استعدادهم للإضراب عن الطعام ومواجهة سياسة القمع التي يتعرضون لها، قالوا لها: سنكون أوفياء الى كل الأمهات الصابرات الرائعات الصامدات، لكل خنساء فلسطينية في كل مدينة ومخيم وقرية، للمنتظرات شروق شمس الحرية وزوال الاحتلال، للنساء اللواتي قضين اعمارهن على بوابات السجون وفي الحافلات، لأمهاتنا الأحياء منهن والراحلات.
رحلت أم خالد قائدة كتيبة النساء في مخيم الدهيشة، وعلى الراوي ان يكتب التاريخ بلغة الفلسطينيات، الحاضر يحبل بالماضي ويلد المستقبل في سرير النساء، وعلى الراوي ان يدرك أن الثورات انثوية في المعنى تجمع بين خصوبة الأرض وتعاليم السماء.
الاحتلال الاسرائيلي يتهم نظمية مزهر أنها قابلت حنظلة في إحدى ليالي المخيم، وهي الوحيدة التي رأت وجهه وحملت ألوانه ورسمت باشواك قلبها صور اولادها يعانقون الغيم ، ومنذ ذلك الوقت يصطاد الجنود الاطفال والفراشات.
ام خالد مزهر عبرت الزمن الخشن واسست دولة الواقع ،هي الام الفلسطينية التي تملك خريطة للارض وأخرى للفضاء، حليبها مطر احيانا وجوعها طوفان ينفجر في أحشاء الوقت،تلملم الجغرافيا والناس،قدم في المنفى وقدم في المخيم،قضت عمرها بين المقابر والسجون،حياة مكتملة كنشيد الوطن او العلم ، تتدفق في كل شرايين العالم، تبسط ايديها وتصافح الشهداء بيد خضراء.