بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية (10)

علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية

يومٌ ملثَّمٌ  في  رأس شارعٍ  أصلع !!

                                 

 

بدأت قصة (علاء عبد الحسين) ، الحارس النهاريّ لمبنى جريدة (التآخي)، حارسنا في حقل الأحزان، داخل أسوار الطموح، وانتهت في مكبّ للنفايات!  

تكشف حكايته شيئاً من معاناة هؤلاء الناس، الذين يعملون في الصحافة في مهنٍ خدميةٍ ساندةٍ لعمل الإعلاميين، ولا يمكن الإستغناء عنهم، لكنَّهم لا يُقيَّمون التقويم المناسب، ولا يُعطون الأجور  التي تتناسب مع ما يقدّمونه من خدماتٍ.

والأكثر إيلاماً أنّهم حتى لو أرادوا تغيير مصيرهم، فلا يمكنهم ذلك إلّا بحدودٍ. 

بثّ لي علاء عبد الحسين شيئاً من همومه، صبيحة يومٍ مُلثمٍ من أيامنا الفوضوية الكالحة، دعتنا فيه دائرة الإعلام المنّحلة ـ بعد حلّ وزارة الإعلام من سلطة الإئتلاف ـ  إلى تسلم خمسين بالمئة من راتبي شهري آب، وأيلول بعد إعادتنا إلى الخدمة وضمّنا إلى وزارة الثقافة أسوةً بمنتسبي وزارة التصنيع العسكري. 

إبتدأ  صباحنا يوم السبت الموافق ٢٠٠٤/١٠/٢ م في شارع حيفا الذي سُمّي بهذا الإسم نسبةً إلى مدينة حيفا  الفلسطينية، في زمن حكومة البعث الثانية، وإنسجاماً مع موجة التيار القومي، فصارت تسميّات بعض المدن، والشوارع، والساحات بأسماء الدول، والمدن العربية كحيّ تونس وحي الجزائر، وحي القاهرة ، وشارع فلسطين، وشارع المغرب، وساحة عدن، وساحة صنعاء. 

بدأت شهرة شارع حيفا بالصعود مطلع الثمانينيات حين أنشئ مجمع البنايات السكني الأنيق بعماراته العالية، وقد أبدع المهندسون المعماريون العراقيون في إضفاء لمسةٍ جماليةٍ عليها، فصار الحصول على شقةٍ فيها حلماً من الأحلام. 

يربط هذا الشارع منطقتي الصالحية والعطيفية، وتتّصل به ثلاثة من الجسور التي تصل الكرخ  بالرصافة : وهي جسور باب المعظم، والشهداء، و الأحرار، وأبرز مبنىً على جانبه الغربي   هو مركز الفنون ذلك التحفة المعمارية، الذي صار بعد نيسان ٢٠٠٣ م مقراً لوزارة الثقافة بعد أخذ بناية وزارة الإعلام المنحلّة، واتخاذها مقرّاً لمجلس محافظة بغداد. 

في طرف الشارع يوجد مبنى دائرة الإذاعة، والتلفزيون التي صارت في ما بعد (شبكة الإعلام العراقي). 

كان من المقرّر أن نتسلّم رواتبنا في  مقرّ نقابة الصحفيّين في شارع المغرب، لكننّا حين وصلنا بعد عناء أبلغونا بتغيير مكان الصرف إلى مقر جريدة (المدى) في شارع السعدون  ربّما لدواعٍ أمنيةٍ .

ارتبط الخوف، والقلق من المصير المجهول بشارع حيفا لكثرة الإغتيالات، والتفجيرات، والعمليات العسكرية التي كان الشارع مسرحها، وبجدارةٍ وإنَّه طريقٌ مكتظٌ بالأخطار، فما أن تمرّ دوريّة أمريكيّة حتّى تحبس الأنفاس خشية من أيّ صوت قويّ حتّى لو كان صوت انفجار إطار سيارة، لأنّ مايتّبعه أشدّ، وأدهى. 

في هذا الشارع الأصلع من الرحمة حبست أنفاسي مع الحارس علاء عبد الحسين الذي كنت أحرسه، ويحرسني تفنيدا للقول الشهير ( فاقد الشيء لا يعطيه) ! 

قطعتْ سيارة الميكروباص ( الكيا) مسافة مئة متر بأربعين دقيقة ؛ للسير الوئيد الموؤد. 

أوقف السيارة أربعة صبية بملابس مدنية، كان الأوّل يحمل بيده اليمنى رمانةً يدويةً، أمّا الثاني، فيكشف ذراعه عن وشم لحيوان مفترس.! 

كانوا قد نصبوا سيطرةً  طارئةً،  ويفتّشون السيّارات سيارةً إثر سيارة.. طلبوا هويّاتنا، فتحيّرنا أيّ هوية نبرز لأننا لا نعرف الجهة التي يمثّلونها، كما لا نعرف عما، وعمَّن يبحثون؟ 

أخرج الثالث ورقةً من جيبه، وراح يطابق  هوياتنا بما عنده من أسماء ، ثم أعادها إلينا بلطف، مع الإعتذار من التأخير، ونطق الرابع بإكمال السير.

أحسّ علاء بحيرتي، فقال : ربما يبحثون عن مقاتلين عربٍ من الذين جاءوا لقتال الأمريكان ! 

قلت: وكيف تفسر وجود رمّانة (قنبلة يدوية) بيد أحدهم ؟ 

ردَّ : لا أدري ، وأردف :لكنَّ هيئاتهم لا توحي بالثقة! 

سائق السيارة انفتحت قريحته، ليبدّد ملل السير الوئيد، فحكى عن مقطع من حياته.. قال إنه هرب من العراق عام ١٩٩٩ م، وحكم عليه بالحبس في لبنان سبعة أشهر لدخوله غير الشرعي، ثم تزوّج  بفتاةٍ لبنانيةٍ،  فمُنح على ضوئها الجنسية اللبنانية من الدرجة الثالثة، ورزق بطفلتين، وعمل خيّاطاً ماهراً، دخله الشهري لا يقل عن ٨٥٠ دولاراً. 

 وبرغم حياته المستقرّة، والهادئة في بيروت، إلّا أنه فضَّل العودة إلى العراق، بعد سقوط النظام، ولخَّص تجربته بالقول: (إن زبالة العراق عندي أفضل من كلّ مدن العالم). 

كان علاء متحمساً للحياة، ولتحسين وضعه المعيشي، قال : إنَّ شقيقيه تطوعا في الشرطة الإتحادية، وهما حالياً يتدرّبان في دورةٍ تأهيليةٍ في الأردن، وراتب كلّ واحدٍ منهما ثلاث مئة دولار شهرياً. 

أردف، وقد بدتْ عليه علامات الفخر : إنّي يا أبا الحسن غير مقتنع بعملي حارساً في الجريدة، ثمّ أخرج صورةً حديثةً تجمعه بضابط أمريكي أشقر زار جريدة (التآخي) قبل أيام ، والتقى بعض المحرّرين، وقبل خروجه أبدى إعجابه بهيأة علاء ، الشاب الرياضي الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، وهتف  الضابط: wanderful (رائع) !، ثم صوَّر معه صورةً، وأخرج ورقةً كتب عليها توصيةً لقبوله في دورةٍ تحت إشراف أمريكي كضابط ٍ في الحرس الوطني! 

وصلنا إلى شارع السعدون، ودخلنا المبنى الأنيق لجريدة المدى، والخطّ الجميل لإسم الجريدة الذي يُقال إنّه من تصميم الشاعر، والفنان صادق الصائغ. 

لم يطل بنا المقام، فتسلّمنا استحقاقاتنا، وخرجنا، وقد هتف بنا الجوع، تذكرتُ جملةً كنتُ قد قرأتها مطلع الشباب لأحد الحكماء تقول : (ما أضعف صوت الضمير، حين تصيح المعدة !) . 

دلفنا إلى أقرب مطعمٍ شعبي، وسط حالة من الترقّب الحذر من انفجار عبوة ناسفة، أو إطلاق نار عشوائي ، وكان الشارع خالياً الّا من بعض المارّة العابرين أمثالنا، بعد أن كان مقصداً للشباب، والأجانب، ويعجّ بالحياة. 

طلبتُ وعلاء  لحما مقطَّعاً مشويّاً يسمّى باللغة العربية الفصيحة ( لحم سفود)، وباللهجة العراقية بـ(التكّة) بناءً على نصيحة من عامل مطعم ٍتعرّفتُ إليه قبل نحو خمس سنوات في آخر خدمة احتياط لي في العسكرية في معسكر التاجي شمالي بغداد قبل (التحرير) إذ قال لي: إنَّ الطعام الوحيد الذي لا يمكن الغشّ فيه هو اللحم المقطّع المشوي ( التكة) ! سألته وقتها : وهل تربحون فيه؟ 

قال: لا ، إنَّما نحصل على ثمن الكلفة فقط ! 

قلت: وما الذي تستفيدونه ؟ 

رد: لا نريد أن نخسر زبوناً ! 

قبل دفع ثمن ما أكلناه، وكان يعادل دولاراً، ونصف  الدولار لنصف نفر، طارت لذّة هذه الوجبة لوجود قطعة من الفحم التصقت بقطعة من اللحم اختلطت باللقمة في فمي، وصرت أمضغ الفحم الذي ذكرني بطحين الحصة التموينية في التسعينيات الذي كان خبزه يحوي حبيبات الحصى، والرمل ! 

تساءلتُ  : لماذا تكون سعادتنا مثلومة!؟ 

استمرّ علاء في طريق العودة بسرد حكايته، قال : إنَّه سيكشف لي سرّاً .. وأضاف: لقد كنت سجيناً سياسياً في قضية عقوبتها الإعدام، ولكنّ أهلي دفعوا رشاوى وصلت إلى عشرة ملايين دينار، فحكمت بالسجن لمدّة سنتين فقط، بتمييز لجنةٍ خاصة ٍ من ديوان الرئاسة . 

ذهب علاء عبد الحسين إلى بيته في شرقي بغداد في مدينة الصدر / حي الجوادر ، وعدت بسيارة النقل العام، وجلستُ قرب رجل دهشت لحديثه بصوته الجهوري عن عمله شرطياً في الوقت الذي كان مجرد الحديث عند الحلاق عن  نية الشخص التطوّع في الجيش، أو الشرطة كفيلاً بقتله ! 

نصحه الجالس في المقعد المقابل أن يكفّ عن هذا الحديث، ويحافظ على نفسه ، فردّ عليه بحزم : حالي كحال الناس، هل أنا أحسن منهم ! مضيفاً  : لعلمك، لقد نجوت من أربعة تفجيرات استهدفتْ مديرية الشرطة! 

علّق رجل ( قل  لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا). 

بعد أيام من هذا اليوم الملثّم، ناداني علاء مبتسماً.. قال : أحببت أن ابلغك بنبأ سار : أني سأترك حراسة الجريدة،  وإن كان يعز عليَّ فراقكم ! 

سألته: إلى أين؟ 

قال: لقد اقترب حلمي  من التحقّق، فقد نجحت في الاختبار الذي أجري لي للقبول في دورة لتخريج الحرس الوطني، ولم يبق على موعد سفري إلى عمّان، ثم إلى بلجيكا سوى أيام، وأضاف: إن مدة الدورة ستة أشهر، أعود بعدها برتبة ملازمٍ أولٍ. 

شعرت بغصّةٍ، فمثل هذه الأخبار تشعرني بالقلق، أكثر مما تشعرني بشيءٍ آخر. 

في يوم السبت الموافق ٢٠٠٤/١٠/١٦م  لم أجد علاء في باب الجريدة، لكن جاء رجل أشيب يسأل عنه.. سألني:هل داوم ولدي علاء عندكم الخميس؟ 

أجبته: لا يا حاجّ. 

قال : أنه لم يعد إلى البيت منذ يوم الخميس ٢٠٠٤/١٠/١٤ م 

وقد قلقنا عليه كثيراً. 

هدّأت من روعه  قليلاً، لكنّي لم أخدعه بالأمل، فانصرف، وفي صدره لوعةٌ. 

بعد يومين وصلنا الخبر الأليم.. فقبل أربعة أيام من استعداد علاء عبد الحسين  للسفر إلى بلجيكا، وفي صباح الخميس، وبينما كان أمام بيته،  داهمته جماعة ملثّمة، واقتادته إلى جهةٍ مجهولةٍ، وبعد ثلاثة أيام من البحث عنه وجد أهله جثته في مكبّ للنفايات، وعليها أثار تعذيب، وقيل أنهم أحصوا عدد الإطلاقات النارية التي ثقبت رأسه، فوجدوها ثلاث عشرة طلقة . 

غير أن الجريدة التي كان يحرسها لم تذكره، ولو بلافتة نعي، وعيّنوا حارساً  مدنياً بدله مشترطين عليه أن تكون ملابسه عسكرية! 

لكنَّ ما يؤسفني حقّاً، أنّي لم أحصل على صورته الأخيرة التي تجمعه بالضابط الأمريكي، وهما يضحكان ! 

( السيرة مستمرةٌ ، شكراً لمن صبر معي.. يتبع)

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى