المفرزة التي لاحقت المشاهير (7)

من حقيبة مذكرات الكاتبة وفاء كمال الخشن | لبنان

كان رأسي أشبه بطائرة معطلة من شدة الهول وفداحته المرتقبة في لبنان. فكل شيء ينذر بالخراب ..حيث كانت دبابات الجيش السوري تطبق على قصر “بعبدا” الذي كان يتحصن به الجنرال عون رافضاً كل الحلول. لكنه استسلم فيما بعد وترك جنوده.

كان أهلي في لبنان وطلبوا مني البقاء مع شقيقي الطبيب في منزلنا في سوريا وعدم السفر إليهم في تلك الظروف. وقد منحني طلبهم الفرصة للحديث على الهاتف مع ” الماغوط ” لأنني كنتُ أشعر بالحرج حينما أتحدثُ مع رجل،  بسبب عيونهم التي تلاحقني وتتقابل كلما لفظت كلمة، مما يجعلني أبتلع نصف عباراتي وأغصُّ بمعظمها. (ومازال هذا الخوف والحرج من الرد على الهاتف) يلاحقني حتى اليوم.

رفعتُ السماعة ووضعت إصبعي عند الرقم الأول وأنا أرتجف وأتمتم: متسائلة هل أقول له أستاذ محمد, أم شاعرنا أم سيد محمد أم أبوشام أم مسيو.

ـ لا..لا (شو.. مسيو ..موحلوة …طيب أستاذي ..لا ..لا ليش أستاذي ؟ خلاص: مرحبا وبس) . طلبتُ الرقم .فشعرت بحشرجة بحنجرتي جعلَتْ “الألو” تخرج من حلقي مرتجفة ..أجابني الماغوط بنفسه في الحال :

ـ أهلاً( وَفوءتي ) .

لم ألحق أن ألفظ تلك الـ”مرحبا” ..تعجبت فهو يناديني لأول مرة (وفوءتي) وليس آنسة وفاء.. ماذا يعني ذلك؟ هل هو تدليع أم رفع للكلفة بيننا أم أبوة ..أم ..ياخرابي !!..)؟ .

 في الحقيقة كان مجرى الحديث أبوياً . لكنَّ أولئك الرجال قد شوهوا تفكيري بأغنياتهم الزرقاء, في حين كان ثمة نحيب يتكاثر في خلايا دمي ..لم أصادف رجلاً نزيهاً يوماً حتى أحسن التفكير في نوايا أحدهم. قلت: أردتُ الاطمئنان عليكَ فقد أخبرتني “سلافة” أنك مريض قال :

ـ وعكة طارئة وستزول.

– سلامتك..قريباً سأزوركم وأتابع دروس سلافة ..كن بخير .

ـ طيب بنتي شكرا لاتصالك .

ـ بنتي (بنتي!!) خاطبت نفسي، وأغلقتُّ السًّماعة وأنا أتمتم: صحيح هو مسن ..من المؤكد لو كان لديه المزيد من الأولاد لكان أحدهم بنفس سني.. عادي إذن ليناديني ابنتي ..وما المانع؟ هززت رأسي كمن تحاول تنبيه نفسها وقلت: وفاء ما بك ؟ أفيقي من غفلتك ..إنه بسن والدك. غدا سأذهب وأعطي الدرس لسلافة ولن أكلِّمَه مطلقا ًحتى يدعوني بنفسه للحوار.

انقضى يوم آخر وذهبت كي أُدَرِّسَ سلافة وكنت عصبية جداً . خصوصاً أنني كنت أحاول حشو رأسها بنظرية ” لافوازييه ” التي كنتُ لا أحفظ منها سوى عبارة (المادة لا تفنى ولا تخلق من العدم) . لكنني حاولتُ صرف نظر سلافة عن قانون لافوازيه باستخدام عبارات أدبية مثيرة كالحديث عن إعدام لافوازيه،  وعن العبارة التي قيلت في قاعة المحكمة (لسنا بحاجة لعلماء بل بحاجة إلى عدالة) .

كانت سلافة تستمتع بالحديث لذا تخجل أن تواجهني بفشلي بالتدريس. لكنها تقول : لا أحب الفيزياء ولا الكيمياء يا  (مس) وفاء. خاطبْتُ نفسي قائلة: (يلعن أبو الفيزياء على أبو الكيمياء ليتَك تقرأين ما يجول في رأسي في هذه اللحظة.  فأية ورطة ورَّطْتُ نفسي بها حينما قلت لوالدك: إنني أفهم الكيمياء؟. ألم تكن الكيمياء التحليلية سبب رسوبي في السنة الثالثة صيدلة؟ .. هلأ صرت بدي أعمل حالي لافوازييه؟) .

في هذه اللحظة سمعت ُوقع خطوات الماغوط تصدر من آخر الصالة المنعزل. يبدو أنه سحب بعض الأشياء وغادر دون أن يراني أو يعيرني أي اهتمام. تُرى هل كان يتنصت على حوارنا الذي تجاوز الكيمياء الدراسية إلى كيمياء الحياة والوجود والموت!؟ هل تنبه أنني لا أفقه شيئاً بالكيمياء … وهل… وهل؟ مئات الأسئلة  كانت تطوف في رأسي، قطعها بدخوله المفاجئ . وقف في منتصف المسافة بيني وبين سلافة.

ووضع يده اليمنى على كتفها, ودس اليسرى بشعري، وحك فروة رأسي بأبوة وحنان. شعرت بسعادة لا توصف، فتلك الأصابع التي أَنجزت أجمل القصائد وأروعها تتوغل في شعري وتشعل الجنون في أطرافي.

تمتمتُ: الحمد لله انني قد (سشورت) شعري قبل زيارتي لهم. أي إحساس مقزز كان سيشعر به لو تركت شعري عكشاً على طبيعته؟ لقد غمرني بالحنان والدفء للحظات وقال: هل تحبين الأرضي شوكي؟ استغربت سؤاله، وتذكرت في الحال تشبيه الموسيقار عبد الوهاب للأرضي شوكي براقصة “الستريبرز”  التي تخلع ثيابها قطعة قطعة.

 فأجبته: لا..لا.. أحب السفرجل كل عضة بغصة. لم يبدِ أية ردة فعل، وكأنه لم يفهم قصدي. لكنْ لمَ عليه أن يفهم قصدي؟ ولمَ عليَّ أن أفهم قصده؟ أنا مجرد مُدَرّسة مؤقتة لحين إنهاء الحوار معه.

 كل تداعيات تلك الأفكار قطعتها تلك الفتاة السمينة التي يبدو أنها كانت نادلة أو مربية أوضيفة قريبة، جاءت تحمل صينية مليئة بالأرضي شوكي المغطى بالصنوبر واللحم. وكان البخار يتصاعد منه باتجاه أنفي, كنتُ جائعة جداً, فقلت: نأكل الأرضي شوكي. لمً لا نأكل ؟ . وليذهب الحوار للجحيم … فللشعر ربٌّ يحميه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى