زمن زاك الجهنمي
د. مصعب قاسم عزاوي | العراق
زاك هو مسمى التدليل الذي يقارب به زبانية مارك تسوكربوغ أو زوكربرغ مالك شركة Meta المالكة لمنصات فيسبوك وواتس آب وإنستغرام، والعديد من حزم البرمجيات ومنصات الذكاء الاصطناعي غير المعلنة التي تعمل لتشغيل الملايين من التطبيقات والعناصر الرقمية والقوالب والهياكل الأولية لتصميم التطبيقات الإلكترونية والحاسوبية للهواتف المحمولة التي يستخدمها المليارات من بني البشر يومياً.
والترجمة الحرفية لمعنى كنية زاك باللغة الألمانية أي كلمة «تسوكربرغ» هي جبل السكر، والذي وفق واقع الحال الراهن لا بد من تحويره ليصبح جبل جهنم أو أي من ذاك القبيل.
وتقوم آلية عمل وسائل التواصل الاجتماعي وتقاناتها عموماً، وشبكات زاك وزبانيته وشركاه خصوصاً، على مبدأمقايضة الخدمات التي يحصل عليها البشر المستفيدون من خدمات وسائل التواصل الاجتماعي تلك بكل بياناتهم الخاصة، دون أن يلتفت البشر إلى نتائج تلك المقايضة الخبيثة المواربة، والتي لخص حجمها ومفاعيلها المهولة الباحثون من مرتزقة زاك وشركاه، والذين لا يريدون التفكر بأن هناك أي عقابيل لنتائج أبحاثهم اللاأخلاقية، والتي كان مفادها بأن أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تديرها شبكات فيسبوك وملحقاتها أصبحت قادرة بالاستناد إلى عدد محدود من نقرات الإعجاب التي يقوم بها الفرد على تلك المنصات لا تتجاوز المئتي نقرة اكتشاف تكوينه النفسي والعقلي و طبيعة معتقداته والتنبؤ بسلوكاته وتصرفاته وما سوف يقوم به في المستقبلين القريب والبعيد بشكل يفوق فهم الفرد لذاته وقدرته على استبصار وتخيل ما سوف يقوم به في قابل الأيام.
وخلاصة القدرة الشمشونية التي أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تتحلى بها تتمثل في أنها أصبحت قادرة ليس على التلاعب بعقل المتلقي لإقناعه بشراء هذا أو ذاك من المنتجات التي تعرض إعلانات لها فحسب، وإنما للتلاعب بإدراكه ووعيه لذاته ومفهومه للعالم من حوله، وتحوير آلية عمل عقله بالشكل الذي يتلاءم مع توجهات من يدفع أكثر لزاك وشركاه ومن كان على شاكلته من أباطرة الشركات التقانية العولمية مثل غوغل وأمازون ومايكروسوفت وآبل، وإن كانت الأخيرة أقل إيغالاً بشكل طفيف في الانغماس في عملية الاستغلال الشيطاني لقدرات الذكاء الاصطناعي لتحويل البشر من كائنات عاقلة إلى فئران تجارب يمكن توجيه بوصلتها الإدراكية بأي اتجاه يتسق مع أهداف برمجيات الذكاء الاصطناعي الفائقة التي تعمل لهدف واحد أساساً هو تحقيق ما يطلب منها القيام به ما دام مرتبطاً بهدف تحقيق زيادة العائد المالي للشركة التي تستخدمها.
وقد يكون من الطفولية الخالصة، وأقرب إلى نهج دفن الرأس في الرمل أن يجادل أي فرد بأنه منيع حصين من أي تداخل في آلية عمل عقله، ووعيه أو لا وعيه، وأن تقنيات الذكاء الاصطناعي غير قادرة على تحوير إدراكه وفهمه وطموحاته وأحلامه وطريقة تفكيره وإعادة صياغة منهجه في الحياة لأنه أقوى من أن تتغلب عليه، وهي التقنيات التي منذ ما يقارب العقدين من الزمان تمكنت من التفوق على أكثر البشر ذكاءفي كل المهارات الرياضية الفائقة، وغلبت أبطال العالم في الشطرنج والألعاب الأخرى الأكثر تعقيداً منها، لتصل قدراتها في العام 2014 إلى درجة تبجح زاك وشركاه من الفاسدين المفسدين جهاراً نهاراً بقدرتهم على تخليق مزاج اكتئابي أو شمقي مبتهج في مستخدميها بالشكل الذي تريده فقط من خلال التلاعب بما يرد إلى نواظرهم خلال تصفحهم على منصة فيسبوك. ولا بد لكل عاقل من استبطان الحقيقة بأن التقدم الخارق لتقنيات الذكاء الاصطناعي بين العام 2014واللحظة الراهنة لا بد أن يكون قد أنتج قدرات هائلة تفوق بدرجات عملاقة مستوى التلاعب بمزاج المستخدمين على الرغم من الخطورة العميقة لذلك، والتي قد تؤدي عند من يعانون من الاكتئاب سريرياً عند زيادة عمق معاناتهم النفسية إلى دخولهم في اكتئاب عميق قد يؤدي بالكثير منهم إلى استبطان الأفكار الانتحارية أو القيام بها كما يؤكد ذلك كل الأطباء النفسيين في عموم أرجاء الأرضين.
ولكن أحد أهم إنجازات زاك الشيطانية ومن كانوا على شاكلته يتمثل في تخليق «فقاعة معرفية إدراكية» يعيش فيها الفرد المستخدم، والتي لا يقدم فيها لزاك للمستخدم سوى ما يروق له ويتفق مع معتقداته وأهوائه وآرائه، بحيث يزيد ذلك من تعلقه بالمنصة، ويقلل إلى درجة صفرية احتمال نفوره منها أو ابتعاده عنها، وهو ما يعني عملياً إغلاق أي باب للاستماع إلى أي حجة منطقية من أي طرف آخر يمكن أن توحي لعقل الفرد بخطل معتقداته وآرائه وأهوائه، وهي التي يتم تقويتها وتعزيزها من خلال التقائه بآخرين يحملون نفس معتقداته وميولاته، و هو ما لا بد أن يؤدي في المآل الأخير إلى نمط من التمترس والانغلاق الفكري في فضاء تلك «الفقاعة المعرفية الإدراكية»، والتي بعد فترة من تعزيز الانخراط بها سوف يصبح من الصعب الخروج منها، وفق آليات عمل الدماغ البشري التي تميل دائماً للسعي فيما اعتادت على القيام به سالفاً نظراً لأن السَرْيَ في ما تم الاعتياد عليه يتكئ على بنى تشريحية في الدماغ المتوسط والأدنى تستهلك طاقة أقل بكثير من البنى الدماغية الأخرى في القشرة ما قبل الجبهية، والتي لا بد من الاتكاء عليها عند التفكر المنطقي و الحوار الرشيد، و المحاججة العقلانية والاجتهاد لفرز الغث عن السمين. وذلك واقع بيولوجي في عمل آليات الدماغ البشري أفرزته سيرورة تطور بني البشر على امتداد رحلتهم التطورية الطويلة والتي كان أحد أهم مرتكزاتها توفير الطاقة خاصة وأن الدماغ يستهلك ما يقارب 20% من الوارد الطاقي في أبدان البشر، وهم الذين كانوا خلال الغالبية شبه المطلقة من رحلتهم التطورية التي امتدت على سبعة ملايين من السنين جنساً حيوانياً يجاهد أفراده القليلون للبقاء على قيد الحياة، وتأمين قوتهم،فهم الكائنات الحيوانية التي لم تتحل بأنياب قاطعة أو مخالب حادة تقيها عسف العصور الجليدية السالفة، وتؤمن لها حصة أكبر من وارد الطاقة في هرم السلسلة الغذائية في العالم الطبيعي.
والحقيقة أن الوقوع في مصيدة «الفقاعة الإدراكية المعرفية» على شبكات التواصل الاجتماعي لا بد أن يؤدي إلى التطرف والانغلاق ورفض أي حوار مع الآخر ليقين مطلق بخطأ ذاك «الآخر الخصيم المبين»،وعواره، وزلل أفكاره، والاعتقاد الكلياني بصلاحية وصدقية ما يجول في خاطرالذات من أفكار تم استقاؤها من شركائها وأقرانها في نفس الفقاعة الإدراكية المعرفية، وهم الذين سوف تقوم تقنيات الذكاء الاصطناعي بتشكيل أدوات وتقنيات اختراقية حاذقة لكينوناتهم النفسية العقلية العنوان العريض لها «البصريات النفسية»، وباللغة الإنجليزية Psychographics، والتي جوهرها تقديم بنى صوتية مرئية تحتوي على موسيقا وألوان وأشكالوكلاممنتقى بعناية بقدرات الذكاء الاصطناعي يتسق مع طريقة عمل أدمغة الطرائد الذين تم وقوعهم بإرادتهم في تلابيب فقاعتهم الإدراكية المعرفية، بحيث يمكن توجيههم في اللحظات الحاسمة بالشكل الذي يريده المتحكمون بشبكات التواصل الاجتماعي وفقاعاتها سواء كانوا مالكين لها أو من خلال استعدادهم للدفع أكثر في سوق بازاري رقيع وثقته المديرة السابقة في شبكة فيسبوك بريتاني كايزر Brittany Kaiser في كتابها المعنون بـ «Targeted» ويعني باللغة العربية «مستهدف»، وحكت فيه قصة البازار بين حزب الديموقراطيين والمحافظين في الولايات المتحدة إبان الانتخابات في العام 2016، والتي أبدى المحافظون إبانها استعدادهم للدفع أكثر لزاك وشركاه، وكان بنتيجتها وصول المتوحش دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة. والحقيقة أنه لولا تداخل البشر بلحم ودم خارج وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الملونين من السود واللاتينيين والأقليات من جحافل المقهورين في نظام الولايات المتحدة العنصري بامتياز، واستخدامهم للطرائق التقليدية التي يتقنها بنو البشر بالتواصل وجهاً لوجه، والحديث فيما بينهم باللغة المقولة لفظاً، وبلغة الجسد، وبإيحاءات أصواتهم، وما هي مؤمنة به، لكانت النتيجة أيضاً انتخاب ترامب في العام 2020، وعدم فوز بايدن الذي كان يعتبر أقل الشَرَّين بالنسبة لأولئك المجتهدين الذين لولا جهودهم لكان من المستحيل تصعد بايدن، نظراً لأن المحافظين كانوا أيضاً على استعداد للدفع أكثر فيما يبدو ظاهرياً بأنه حملات إعلانية على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك وإنستغرام وواتس آب المملوكة من زاك وشركاه، والتي لا بد أن يتم تحويرها لإرضاء «زبائنه»لتتم وفق الطرائق الفائقة لتقنيات الذكاء الاصطناعي فتصبح أدوات فائقة للعادة في قدرتها على تحوير إدراك ووعي وميولات واتجاهات مستخدمي شبكاته الغارقين كل منهم في فقاعته الإدراكية المعرفية بحيث يصبح من السهل توجيه أي منهم بالاتجاه الذي يتسق مع «رضى عملاء وزبائن زاك وشركاه» بشكل لا يختلف عن الأسلوب الذي يوجه بهسائس الحمار حماره وإن كان في حالة الشيطان زاك و شركاه يتم بشكل أكثر قبحاً وشناعة في نهجه ومفاعيله.
والحقيقة أنه بسبب تراجع البشر عن تنظيم أنفسهم بالأشكال التقليدية التي اعتادوا استخدامها على سيرورة رحلة تطورهم الطويلة، من خلال الحديث والحوار والنقاش والاتفاق فيما بينهم وجهاً لوجه، واتكائهم بدلاً عن ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي للقيام بتلك المهمة، أصبح من الممكن خنق أي فكرة أو مبادرة اجتماعية لا تتفق مع أهداف تحقيق رضى عملاء شبكات وسائل التواصل الاجتماعي راهناً، وزيادة عوائدها المالية ممن هم على استعداد للدفع أكثر، وذلك عبر حظر وصول تلك الفكرة أو المبادرة الجمعية إلى أي شخص سوى منتجها على شبكات التواصل الاجتماعي، و دون أن يدري صاحب الفكرة أو المبادرة الاجتماعية بذلك،وهو الواقع البائس الذي لا يدركه جل مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي والذي أثبتته نتائج أبحاث الباحث الأكاديمي Stuart Russell أستاذ الذكاء الاصطناعي في كاليفورنيا والمملكة المتحدة في عدة أوراق بحثية وفي كتابه الأخير Human Compatible، وكذلك الباحث المرموق Ramesh Srinivasan أستاذ الذكاء الاصطناعي في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس ورئيس مختبر الثقافات الرقمية فيها في كتابه المعنون بـ «Beyond the Valley»، ويعني باللغة العربية «ما بعد الوادي»، ويعني به وادي السيليكون في كاليفورنيا حيث المقر الرئيسي لشركة زاك وشركاه وما كان على شاكلته وخاصة شركة غوغل؛ وهو ما ترتب عنه بحسب الباحثين السابقين أيضاً تصويت الشعب البريطاني لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وتصعد البربري الوحشي جائير بولسينارو رئيساً للبرازيل والذي يعد مسؤولاً عن الإعدام المنظم لغابات الأمازون في جريمة تعني حرفياً إعدام رئة كوكب الأرض ومصدر الأكسجين الذي يتنفسه جل بنو البشر، والعديد من مظاهر تصعد المتطرفين الفاشيين في غير موضع من أرجاء الأرضيين بالسبل الديموقراطية ومن خلال صناديق الاقتراع التي تسوس وسائل التواصل الاجتماعي المقترعين فيها كما يسوق الراعي دابته في طريقها وإلى موئلها الذي يشتهيه حتى لو كان ذلك إلى حتفها ذبحاً و سلخاً.
ومن المظاهر المرعبة المعاصرة راهناً في لحظة كتابة هذي السطور، عودة ابن طاغية الفلبين ماركوس الأب الذي تم خلعه في ثورة شعبية في العام 1986، إلى سدة الحكم في الفليبين ومن خلال صناديق الاقتراع بأغلبية شبه مطلقة من الأصوات، وذلك النهج السائد في روسيا من المزاج المتطرف الذي أصبح يرى في أبناء عمومتهم من الأوكرانيين أشد وألد الأعداء الذين لا بد من كسر شأفتهم و نحرهم، وذاك المزاج القتالي في أوكرانيا والذي أصبح فيه الجيران و أبناء العمومة الروس شياطيناً لا يمكن لأي في أوكرانيا التفوه بأي كلمة عن وجوب فتح أقنية الحوار معهم لأجل إيجاد حل دبلوماسي للأزمة الكارثية التي تكاد تحول الحرب الروسية الغاشمة على أوكرانيا إلى حرب نووية شاملة تذهب بكوكب الأرض بأسره، وهي احتمال أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق لا يمنعه إلا «صبر وروية» مجرم شمولي سفاح مثل فلاديمير بوتين، يشهد على جرائمه الشعب السوري الذبيح بحرابه و أسلحته و عديد مرتزقته ومافياته بأشكال لا حصر لها.
ولكيلا يجادل غارق في لج فقاعته الإدراكية المعرفية بأن كل البشر يستخدمون تلك المنصات وأنه لا مناص من استخدامها، وأن لا مهرب منها، فلا بد من تذكيره بأن وسائل التواصل الاجتماعي لم تحل فعلياً على نمط حيوات بني البشر إلا خلال بضع السنوات الأخيرة، وكان قبلها البشر يعيشون وينتجون ويتواصلون، ولم تكن حيواتهم متوقفة أو معدومة لعدم وجودها.
وللأسف الشديد فإن الخيار الوحيد الذي لا بد أن ينافح عنه كل عاقل لا زال يرغب بالنظر إلى نفسه إنساناً حراً عاقلاً قادراً على اتخاذ قراراتهالعقلية بنفسه دون إيماء أو توجيه له كالدابة بقدرات الذكاء الاصطناعي، وبما يتفق مع إرادات وخطط زاك وشركاه، ومن هم على استعداد للدفع أكثر لهم، فإن الخيار الواحد الأوحد لحفظ كينونته الإنسانية وعقله هو «المقاطعة الكليانية» بأقصى ما هو متاح لكل أشكال وسائل وشبكات التواصل الاجتماعي، ومحاولة الاتكاء على وسائل التواصل الطبيعي بين البشر من حوار وحديث ونقاش وتواصل مباشر وجهاً لوجه بشكل يبقي الباب مفتوحاً للبشر للاجتهاد في الحشد والتنظيم بأشكالهما التقليدية التي لم يعرف البشر سواها قبل حلول شياطين وسائل التواصل الاجتماعي، والتي ليس سواها من مدخل لأجل تحقيق إراداتهم الجمعية بالشكل الذي يتفق مع مصالحهم الحقة غير المزيفة الإيهامية والمختلقة والمنحوتة بقوى الذكاء الاصطناعي،وفي كواليس زاك الشيطاني الفاسد المفسد ومن كان على شاكلته من الأقوياء الأثرياء الذين لا يرون أي حق البشر من المستضعفين المفقرين المقهورين في أصقاع المعمورة سوى التحول إلى قطيع من الخراف والنعاج التي لا تهش و لا تنش ولا هَمَّ لها في حيواتها سوى الأكل و الشراب والتكاثر، وانتظار فرصة حظها السعيد حين تعطف مالكيها وساستها بالتهامهم لحماً و رميهم عظماً هشيمياً متعفناً حتى في نقي عظمه لا تجرؤ أن تقربه حتى آكلات الرمم سوى زاك وجوقته من أسياد زمنه الشيطاني الذي يبدو أن جل بني البشر يسيرون معصوبي الأعين والعقول إلى بوابة جهمنه التي لا عودة منها؛ ولات حين مناص للغافلين أو المتغافلين.
نتفهّم جيدا المقصد “الإنساني الإيجابي” من هذا التقرير – وهذا ليس بجديد حقيقة – ولكنه للأسف الشديد تقرير “ملفلف” كيفما اتفق ومليء بالأخطاء المفهومية الفادحة هذا فضلا عن الأخطاء الكارثية في لغته العربية وفي ترجمة المصطلحات الأجنبية