وقفات مع الزيارة الأربعينية الحسينية

بقلم: مصطفى محسن اللواتي

   العالم وهو يحتفي هذه الأيام بأربعينية الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب(ع)، ليشاهد تلك المسيرة المليونية وهي تزحف نحو مشهده في كربلاء، من كل أصقاع العالم، متوجهة نحو ضريحه تسلِّم عليه، وتستنشق من تراب كربلاء روح العزة والكرامة، والتي استُشْهد الحسين لأجلها.

   مجرد وجود الزائر في أرض-أيّاً كانت الأرض- سواءً أشهدت ملحمة تاريخية؟، أو ضمت جسدا لشخص عظيم من عظماء التاريخ، كفيلة بأن تأخذ ذهنه ليستلهم من تلك الذكرى ما يبعث في نفسه الحماس والطاقة، وما يفيده في حاضره.

     والبشرية تشهد عبر مختلف الديانات السماوية والمناسك، والمعتقدات الأرضية غير السماوية زيارات مليونية منظمة ومنتظمها لرموزهاومعابدها وأماكن طقوسها.

   فالهندوسية وهي شعيرة أرضية لديها أكبر تجمع طقوسي أرضي على مستوى العالم في عصرنا الراهن، وهو المنسك المعروف باسم “كومبه ميلا” والذي يكون ٤ مرات في ١٢ سنة في مدينة “الله أباد” حيث نهر “الجانج” حيث تتجاوز أعداد الزائرين الهندوس ١٠٠ مليون يأتون للاغتسال والتطهر في هذا النهر المقدس في عقيدهم، إضافة إلى عدد كبير من الزيارات والمسيرات لقبور ومعابد وأماكن مقدسة في معتقدهم.

    وكذلك نرى (البوذيين) يهبّون لزيارة عدة أماكن يعتقدون أن (بوذا) مرّ فيها بحدث مهم كولادته أو نزول الإلهام عليه أو وفاته، وتقع معظم هذه الأماكن في شبه القارة الهندية كالنيبال والهند حيث يقطعون آلاف الكيلومترات في سبيل أداء واجب الزيارة وفق معتقدهم هذا.

   أما المسيحيون (النصارى) فليس لهم حج وفق المصطلح نفسه المتعارف عليه عقيدة وشريعة كما هو معروف عند المسلمين، إنما لهم زيارات ربما أشهرها لبيت لحم حيث كنيسة المهد، وكنيسة القيامة بالقدس حيث يعتقدون أن نبينا عيسى(ع) صُلب فيها، (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) وأيضا يزورون الفاتيكان بالملايين.

    واليهود – وفق اعتقادهم – أيضا يقومون بزيارات دينية عدة مرات، وربما أشهر هذه الزيارات إلى القدس، والوقوف للصلاة عند (حائط البراق) وهو تراث إسلامي خالص، غير أنه يسمونه بـ(حائط المبكى)، ويروجون زورا وبهتانا أنه جزءً من هيكل سليمان، وبديلا عنه وعن المعبد، لذا لا زالت محاولاتهم مستمرة لهدم المسجد الأقصى لأنه يقع -حسب زعمهم- فوق المعبد والهيكل، كما إنهم حين يصلون للقدس أو كما يسمونها المدينة المقدسة أورشليم، فإنهم يسلمون عليها.

    وما حجُّ المسلم لأشرف بقعة في الأرض، لمكة المكرمة لأداء فريضة الحج وسنة العمرة، ومروره بتلك المشاعر العظيمة بدءًا من عرفة، ومرورا بالمزدلفة ومنى، وانتهاءً ببيت الله الحرام، إلا مسيرة عبادة، ومسيرة ذكريات، ومسيرة استنشاق لتاريخ مرت البشرية عبره بمنزلقات مصيرية خرجت منها أقوى وأنضج، ومسيرة استعادة لقصص أنبياء عاشوا لله، وللإنسانية، قدموا في حياتهم كل غالٍ ورخيص، فما وهنوا، ولا استكانوا، فكانوا الأعلين.

   و وجود المسلم في المدينة المنورة، حيث مقام سيد الخلق محمد (ص) يجعل المسلم يعيش جواً خاصا من الارتباط بنبيه الأكرم (ص)، ويستحضر داخله ذلك الحنين والشوق للقاء هذا الإنسان العظيم، والاستلهام من سيرته التي صرح القرآن الكريم أنها هي الأسوة الحسنة التي يجب اتباعها.

   إن وجود المسلم على أرض كربلاء، في يوم العاشر من محرم، وفي يوم أربعينيته في العشرين من صفر، ما هو إلا امتداد لذكريات تلك المسيرة التاريخية التي قدم خلالها العظماء أرواحهم، وضحوا بكل أسرهم وما ملكوه، كي تعيش البشرية بكرامتها، وبعزتها، وكي تستطيع من إعمار الأرض كما أراد لها الله، لا كما أراد الطغاة من البشر، حيث الاستغلال،والظلم،والفقر،والجهل والذلة والاستعباد.

     وما الحسين إلا امتداد لمسيرة جده المصطفى (ص)حينما قال فيه رسول الله (ص) حسبما ورد في الصحاح وفي مختلف كتب الحديث من الفريقين: “حسين مني، وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط”.(١)

   ومجرد التفكير أنه كيف أصبح رسول الله (ص) من الحسين(ع) وهو جد الحسين سينقلنا التفكير إلى وجود رابط معنوي روحي، وامتداد مناقبي رسالي بين مسيرة رسول الله (ص) في دعوته، ومسيرة الحسين (ع) في ثورته العظيمة.

    ما يمكن ملاحظته في زيارة الحسين(ع) عدة أمور، نحاول أن نمر عليها في محطات سريعة:

      إن زيارته (ع) تتضمن”سلاما” على الحسين(ع)، فلا تكاد تسأل زائرا: لماذا تذهب إلا ويرد عليك لأسلم على أبي عبد الله الحسين.

     وما أجملها من رسالة، وما أعظمها من تحية، أن تعيش علاقة السلام مع رجل ضحى لأجل أمة جده رسول الله(ص)، أن تقول له: إني “سلم لمن سالمكم”، أي إنني على خطك، وعلى نهجك، وعلى هذا الطريق الذي مشيت فيه، أعيش التصالح معك، ومع نفسي، أعيش جذوة القرآن في داخلي كما عشتها وجدك المصطفى (ص)، وأعيش رفض الظلم، وأعيش حب الإنسان لأحرره من كل ظلم وضيم لحق به من طغاة عصره، كما فعلت حينما حررت أمة جدك(ص) من ظلم يزيد بن معاوية.

     فحسين حسب مفاهيم الزيارة هو السلام، وأراد السلام للإنسان، ومن يزره ينشد السلام، وإن تطلب هذا السلام أن يُؤخذ ويطلب بالدماء والثورات.

    المحطة الأخرى التي يمكن التوقف عندها في زيارة الحسين مفهوم العزة والكرامة… وهو المفهوم الأبرز الذي يلخص كل قصة كربلاء.

   الحسين بدأ أول نداءات ثورته المباركة في المدينة المنورة، مع الوليد بن عتبة (والي) يزيد هناك، فقال له من ضمن حوار: “إن يزيد فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله”.(٢)

   فكانت عزته، ودينه، ومبادؤه، وشموخه، وكبرياءه، وانحداره من سلالة أطهر الخلق (ص)، وتربيته في حجر جده المصطفى (ص)، وحضن أمه فاطمة الزهراء(ع)، وأبيه علي(ع) كل هذا ما كان ليسمح له أن يقبل بمبايعة مثل هذا الشخص.

لذا أطلقها مدوية “ألا وإن الدعي ابن الدعي، قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله، وحجور طابت، وحجور طهرت، ونفوس أبيّة، وأنوف حميّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام”.(٣)

    ومن تلك المفاهيم كان مفهوم الحرية الذي عبر عنه الحسين بن علي حين قال للجيش الأموي أثناء احتدام القتال، ذلك الجيش الذي -وخلافا لعادات العرب- اخذ يهاجم مخيم الحسين(ع) حيث النساء والاطفال فقط، فصاح فيهم الحسين:

“يا آل أبي سفيان..

إن لم يكن لكم دين..

وكنتم لا تخافون المعاد..

فكونوا أحرارا في دنياكم..

وارجعوا إلى أحسابكم

إن كنتم عُرُبا كما تزعمون”.

      ومفهوم الحرية لدى الحسين(ع) مختلف تماما عما عهدناه في أيامنا هذه، فكسر القيود، وتحرر منها، ومفاهيم حقوق الإنسان التي تطالب بكل انواع التفسخ والتحلل من القيم والمباديء، ومن الأديان وتعاليمها، كلها مفاهيم اصطبغت بصبغة خارج إطار الدين، بل وخارج الفطرة والإنسانية، لذا حينما صرخ الحسين “كونوا أحرارا في دنياكم” لم يقلها بعيدة عما قبلها وعما بعدها، بل هي جملة متكاملة استهلها بقوله: “ان لم يكن لكم دين…وكنتم لا تخافون المعاد…”

     فالدين هو منظومة القيم والمباديء والاخلاق التي يمثلها، وهي تأتي فوق الحريات المزعومة، وفوق الانحلال والتفسخ، لذا فالحسين قيّد الحرية بما يتناسب مع الديانات وقيمها.

     تلك القيم التي تسمو بصاحبها، وترتقي بالأمم، قيم لا تقبل أن يداس صاحبها، ولا ترضى له ذلا واستعبادا، ولا تقبل له بما لا يليق، وبما لا يرتقي به.

     الحسين(ع) شخّص في كلمة صغيرة واضحة أن إنسانا بلا قيم لا يحمل شيئا من الإنسانية، سيكون كارثة على واقعه، فلا هو يتصالح مع محيطه، ولا مع نفسه، ولن يكون هناك سقف لانحلاله ولا لقسوته ولا لإجرامه.

   من هنا، فالحرية عنده(ع) تبدأ باحترام هذه القيم، وتبني تلك الأخلاق، واعتناق تلكم المباديء.

   فكان طلبه منهم:ما دمتم لا تتبنون قيما ومباديء (إن لم يكن لكم دين).

وما دام لا رادع أخرويّ يردعكم (وكنتم لا تخافون المعاد).

      فلا أقل أن تحرروا عقولكم، وتراجعوا تاريخكم، ولتحكموا قيمكم ومبادئكم التي توارثتموها خارج إطار دينكم، ولا تكن حياتكم وحرياتكم منزوعة من أية ضوابط، وأية مقيدات، لأن هذا المفهوم للحرية لا وجود له، بل هو نزعة شيطانية ستقود المجتمعات للدمار.

    إن الزيارة الأريعينية تتجدد كل عام بصور خلابة من الكرم والسخاء، وبكثير من الحب لكل ما يمت للحسين بصلة، وأعداد مليونية هائلة، وهذا كله يفرض على الفعاليات الثقافية والدينية مسؤولية استثمارها بأفضل الأشكال، وأحسن السبل، لتصب في إعمار الأرض، وفي حب الإنسان، وفي رقي المجتمعات، وفي إنشاء اجيال ترى في الحسين تضحيته وفداءه لغيره، وترى في تلك التضحية إحياءً للحياة نفسها.

المصادر:

١- صحيح مسلم، سنن الترمذي، سنن إبن ماجه، مسند أحمد، مستدرك الحاكم وغيرها كثير.

٢- الفتوح لابن أعثم، مقتل الحسين للخوارزمي، بحار الأنوار للمجلسي.

٣- إثبات الوصية للمسعودي، 

٤- الفتوح لابن اعثم، مقتل الحسين للخوارزمي، اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس (طبع أيضا بعنوان الملهوف على قتلى الطفوف).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى