زيارة الأربعينية.. حاجةٌ بشريَّةٌ روحيّةٌ
د. محمد الواضح | أكاديمي من العراق
لاتزالُ لغةُ الأرقامِ تُشكِّل بعدًا إبهاريًّا في المحافل المختلفة. كالتظاهرات والتشييع والأعياد والمهرجانات وغيرها من المناسبات، ويقاس على أساسها الأثر إعلامياأو اجتماعيا سياسيًّا او دينيًّا.
وبعيدًا عن فلسفة الأرقام وحضورها الكمي الذي قد يُعد استبيانا أداتيا تجريبيا للكشف والقراءة الأولية للمحصلات المبنية على الإحصائيات المراد تسويقها أو الإعلان عنها كنتائج لدراساتٍ قابلة للنجاح او النقض.
يبدو الأمرُ مختلفًا تمامًا مع (الزيارة الأربعينية) ذات الأعداد المليونية الضخمة في كل عام من أحيائها؛
إذ تحضر الحاجة الروحية والنفسية معطى أخلاقيا قيميا لدى الزائرين، على اختلاف درجات إيمانهم، بل المفارقة أنَّكَ قد تجدُ(واللهُ المزكيّ للأَنْفُس) اللاديني، ومن يعبدونَ اللّهَ على حرف، وغيرهم من امثلة التندُّر، بين صفوف القاصدين لزيارة الإمام الحسين (ع).
هؤلاء الذين تجذبهم الصورة الرمزية المرسومة للإمام في المتخيل الديني، وتجد مشاركات من ديانات ومذاهب أخرى. ولم تكن مشاركة هذه الجموع ذات المشارب المتعددة متأتية إلا من عميق الأثر للبعد الإنساني لقضية الطف، وشمولية الهدف الذي جعلها ثورة تصحيحية عالمية، تركت صداها ومقولاتها على خطابات القادة والثوار. لدرجة ان عدَّت دولةٌ ككندا هذا التجمُّع البشريّ وقفةً إنسانيةً تستحقُّ عظمَ هذه التضحية.
وهذه الحاجة الروحية لم تقف عند حدود الوفاء بوصاة النبي (ص) وآله (المودَّةُ لذي القربى) لاسيّما أن شخصيةً كالحسينِ ع تُعَدّ أسطورة الفداء والتضحية والعطاء في ميدان التسابق لتقديم القرابين الإلهية العظيمة التي يكاد يلخصها شاعر العرب الأكبر الجواهري في عينيته الرائدة بقوله:
ويامُطعِمَ المَوْتِ خَيْرَ البنين
من الآكلينَ إلى الرُّضَّعِ
الحسينُ فاقَ فكرةَ التجريبِ والامتحانِ الإلهي التي اُبتلي فيها إبراهيمَ بذِبحِ إسماعيله. الحسين فاقَ تضحيةَ يعقوبَ بيوسفيه، الحسينُ لم يَعتصمْ لَهُ وَلدٌ وراءَ جبلٍ من ماء. الحسينُ وعيالُهُ ذُبِحُوا بسيفٍ اسمُهُ الماء لذلك استحقَ أن يكون وارثًا للأنبياء.
حتى وإن ذهبت اليوم قراءاتٌ نحوَ القول باعتباطية الارقام المهولة وعدم قصديتها، فلا فرارَ من مواجهةٍ منصفةٍ وتبريرٍ عقليٍّ لنوعية الحاضرين، واختلاف ألوانِهم وأَلْسِنتِهم، شيوخِهم وشبابِهم وأطفالِهم رجالا ونساء، كلُّ واحدٍ فيهم يبحثُ عن حُسينِ نجواهُ وآهاهُ وشكواهُ. وحين تُعجزُك لغةُ الأقوامِ الوافدين لاتُعجزُك لغةُ قلوبِهم وإيماءاتِهم الوالهةُ بالحسين
حب الحسينِ شرطُ اللهِ على لسان نبيه (ص) وآله (أحبّ اللهُ مَنْ أحبَّ حسينًا…)لذا لاغرابة أن جعل أفئدةً من النَّاسِ تَهوي إليه.
فمثلما لمكّة المعظمة قبلتُها المباركة، تبقى كربلاءُ قبلةَ الحبِّ والولاءِ تدلفُ إليها القلوبُ من كل حدب وصوب. أوليسَ الدِّينُ إلا الحُبَّ!!