في إعجاز القرآن (٢)

د. زياد العوف |سورية

…كان هذا شأن العرب من المعاصرين للنبيّ ولحجّته المعجزة( القرآن) ،فكيف كان حال الذين أتَوا من بعده؟
لقد دارت عجلة الزمان فانتشر الإسلام وكتابه القرآن في بقاع الأرض كافّة، واستظلّت بهديه وتعاليمه أممٌ عديدة لم تكن العربية لغتَها ولا بيانُها بيانَها، لكنّها كانت في أمسّ الحاجة إلى تعلّم العربية- لغة القرآن- للوقوف على ما فيه من أحكام وتشريعات تتناول شتّى شؤون الحياة في ظلّ هذا الدين الجديد. وهذا لا يتأتّى دون فهم لغة القرآن وتمثّل معانيه.
وهكذا أخذتْ مسألة إعجاز القرآن منحىً آخرَ جديداً، أكثر اتّساعاً وأبعد شأواً وأعمق غوراً، ممّا كان عليه الحال مع العرب في فجر الدعوة.
فكيف كان ذلك؟
لم يكن إدراك الإعجاز والوقوف على مكامنه ومظاهره مطروحاً للبحث والفهم والمناقشة لدى العرب المعاصرين للوحي؛ فالقوم يتحلّون بذائقة لغوية فطرية وسليقة لسانية أصليّة نمّتها عنايتهم الفائقة باللغة وفنون القول فيها، وبخاصّة الشعر وما ينطوي عليه من بلاغة وبيان، وإلى ذلك يشير عمر بن الخطّاب، فيما ذكره ابن سلّام، حيث يقول:” كان الشعرُ علمَ قوم لم يكن لهم عِلمٌ أصحّ منه. “
لقد كان الأمرُ ، فيما يخصّ عرب الجاهلية، أمرَ إقرار أو إنكار، أمرَ إيمان أو جحود، أمرَ تصديق أو تكذيب ليس إلّا.
لكنّ الأمر لم يعد كذلك لدى الأقوام الأخرى المنضوية تحت راية الإسلام، بل لدى الأجيال الجديدة من العرب الذين فسدت سلائقهم واعتلّتْ فطرتهم لأسباب كثيرة لامجال للخوض فيها في هذا السياق المختصَر.
لقد أصبحوا يتساءلون عن هذا الإعجاز ذاته، وأين يتجلّى، وكيف يظهر، ماهي خصائصه ومقوّماته وعناصره؟ فكان لابدّ لهم من اتّخاذ البحث والعلم وسيلة لإدراك إعجاز القرآن وللوقوف على دقائقه وأسراره. فكان أنْ حلّتْ الذائقة المسلّحة بالعلم والمعرفة، أو لنقُل -الذائقة العلميّة- محلَّ الذائقة الفطرية.
لقد أصبح إعجاز القرآن موضوعاً علميّاً قائماً بذاته يلجأ المشتغلون فيه إلى إعمال العقل واستخدام المنطِق، واعتماد قواعد العلم ونظرياته ومناهجه بحثاً عن الإعجاز.
كان العصر العباسيّ بما شهِدهُ من رقيّ عقليّ وازدهار أدبيّ وعلميّ هو الوعاء الزمنيّ الذي احتوى هذا البحث العلميّ في إعجاز القرآن.
هذا..ويمكن إجمال مذاهب العلماء في مسألة الإعجاز آنذاك فيما يلي:
١- ذهب بعض العلماء إلى أنّ إعجاز القرآن يرجع إلى كونه حكايةً عن كلام الله القديم.
ما يدحض هذا المذهب أنّه يسحب صفة الإعجاز على غير القرآن من الكتب السماوية الأخرى، كالتوراة والإنجيل مثلاً، وهو ما لم تصرّح به هذه الكتب نفسُها. ناهيك عن أنّ هذا المذهب يستوجب إثبات صفة الإعجاز لكلّ كلمة مفرَدة، وهو ما لم يقلْ به أحد.
٢- يرى أنصار هذا المذهب أنّ الإعجاز كائن فيما تضمّنه القرآن من العلوم التي لم يكن للعرب عهد بها، وكذا الإخبار بالغيب. مثال ذلك:
” غُلبتٌ الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد ذلك سيغلبون، في بضع سنين”
وقد حدث ذلك فعلاً.
” لقد صدق اللهُ رسولَه الرؤيا بالحقّ؛ لتدخُلنَّ المسجدَ الحرام إن شاء الله آمنين، محلّقين رؤوسكم ومقصّرين، لا تخافون.”
ولقد تمّ ذلك أيضاً لدى فتح مكّة.
٣- ورأى فريق ثالث أنّ ما حفل به القرآن من سرد لأخبار الأقدمين وقصصهم وكتب رسلهم، يصحّ دليلاً على الإعجاز؛ إذ إنّ النبيّ كان رجلاّ أمّياً لا عهد له بالعلم والعلماء، ولم يكن ليعرف ذلك إلّا بوحي من الله.
ويستشهدون على ما ذهبوا إليه بما ورد في القرآن:
” وما كنتَ تتلو من كتاب قبله، ولا تخطّه بيمينك، إذاً لارتاب المبطلون”

” تلك أنباء الغيب، نوحيها إليك. ما كنتَ تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا.”
على أنّ الإخبار بالغيب وسرد أخبار الأمم الغابرة، ممّا لا عهد لغير أهل الكتاب به، يؤكّد نبوّة النبيّ كما يؤكّد نسبة القرآن إلى كلام الله، لكنّه لا يقوم دليلاً على الإعجاز؛ إذ ليس القرآن كلّه إخباراً بالغيب ولا سرداً لقصص الأقدمين. فماذا نصنع، والحال كذلك، بباقي آيات القرآن؟ علماً بأنّ الإعجاز يقع في السورة الواحدة منه، بما في ذلك قصار السور. جاء في القرآن:
” أم يقولون افتراه، قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله، إنْ كنتم صادقين.” يونس، ٣٨.

٤- ما عُرِفَ بمذهب ( الصَّرفة) كما نادى به فريق من علماء الكلام، وعلى رأسهم( النَّظَّام) أستاذ الجاحظ، وخلاصته أنّ الله قد صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم على ذلك.
وهو مذهب باطل، كما هو واضح؛ إذ إنّه ينفي صفة الإعجاز عن القرآن وينسبها إلى قدرة الله على ثني المشركين والجاحدين عن الإتيان بمثل القرآن. فضلاً عن أنّ العرب لم يكونوا مصروفين عن ذلك قبل الوحي، فلماذا لم يأتوا، إذن، بمثل القرآن، وهم أهل الفصاحة والبلاغة؟
ولماذا أيضاً أصيبوا بالدهشة والحيرة والعجز لمّا سمعوه، كما رأينا من أمر( الوليد بن المغيرة)، إنْ لم يكن القرآن معجزاً يبعث على ذلك كلّه؟
٥- ورأى آخرون أنّ إعجاز القرآن يتجلّى في خلوّه من التناقض، مع طوله ونزوله منجّماً.
وآفة هذا الرأي، كما هو واضح، أنّه يناقض واقع كون الإعجاز واقعاً بأيٍّ من سور القرآن مهما كانت قصيرة، في حين قد يتحقّق هذا الأمر- أي الخلوّ من التناقض- بمقدار السورة من كلام البشر نثراً أو شعراً.

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ” عالم الثقافة” فضاء ثقافيّ وفكريّ رحب تلتقي فيه الأقلام الجادّة والآراء الناضجة في حوار عقلي حرّ…
    مع شكري وتقديري لكلّ القائمين عليها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى