تزييف العلم في الولايات المتحدة

سعيد مضيه | مترجم وكاتب فلسطيني

الكاتبة الراحلة باربارا إهرينرايتش قامت بتعرية أحد نماذج الخداع والتزييف الجارية في الولايات المتحدة. كيف يتم مسخ مفهوم علمي الى النقيض، التفكير الإيجابي في علم النفس يسخر لإشاعة الخنوع وقبول الإجحاف، وذلك في كتابها “جوانب براقة”، الذي عرضته سونالي كولهاتكر على موقعها “أذر ووردز” (كلمات أخرى) في 19 أيلول الجاري، بمناسبة رحيل الكاتبة هذا الشهر عن واحد وثمانين عاما. فكرة التفكير الإيجابي، كما حللتها الراحلة إهرنرايتش، “نمت لأن الشركات الاحتكارية احتاجت طريقة للتعامل مع الكساد الذي بدأ حقا في ثمانينات القرن الماضي، بيزنيس يبعث رسالة الى جماهير الموظفين المستغنى عنهم يحثهم على الخنوع لتعاستهم:’انكم في ضائقة، لكنها حقا فرصة لكم؛ فهي شيئ عظيم ؛ عليكم ان تنظروا إليها بإيجابية، ولا تتذمروا‘. سونالي كولهاتكر مقدمة برنامج “انهضوا مع سونالي” الذي تعرضه إذاعة وتلفزيون “الكلام الحر”. نشر المقال على موقع “كلمات أخر” في 19 أيلول الجاري. جاء في مقال سونالي كولهاتكر: اشتهرت الكاتبة الراحلة بكتابها “نيكل أند دايمد”، الصادر عام 2001، وكان الأكثر مبيعا لدى صدوره. أظهر الكتاب أن الناس المجدّين، ببساطة، لا تُقبل طروحاتهم في أميركا.
غير أن باربارا إهرينرايتش قدمت إسهاما عظيما بجدارة للعدالة الاقتصادية، في كتابها “جوانب براقة”، شهّرت بما أسمته “عبادة التفكير الإيجابي” لأنه “يضع وجها باسما على واقع اللامساواة وعلى اميركا المتهالكة‘”.
صدر كتاب “جوانب براقة”عام 2009، في الفترة ما بين الكساد العظيم وحركة “احتلوا وول ستريت”، والذي لفتت الكاتبة الانتباه فيه للانقسام الاقتصادي الحاد بين أغنى شرائح المجتمع الأميركي،”الواحد بالمائة” وال 99 بالمائة بقية فئات المجتمع.
الحقيقة أن التفكير الإيجابي موضوع جد هام في علم النفس الإيجابي، بل أن علم النفس الإيجابي ذاته انطلقت بذوره الأولى من التفكير الإيجابي او الواقعي تحديدا. علم النفس الإيجابي هو تيار حديث جدا في علم النفس انطلق على يدي سيليجمان رئيس الرابطة الأميركية لعلم النفس. يركز العلم على أوجه القوة في الإنسان بدلا من أوجه القصور وعلى الفرص بدلا من الأخطار وعلى تعزيز الإمكانات بدل التوقف عند المعيقات. يعزز الاقتدار الذاتي لدى الفرد والمجموع، بعكس الوظيفة السلبية التي تكرسها الميديا الرئيسة بالولايات المتحدة. وجد العلامة في علم النفس الاجتماعي، الدكتور مصطفى حجازي، في التفكير الإيجابي الترياق الناجع لأمراض نفسية وذهنية متوارثة في المجتمعات العربية والإسلامية عن قرون الهدر الاجتماعي في ظل الأنظمة الاستبدادية، وذلك” من ضمن حركة الإصلاح المعرفي وعلم النفس المعرفي اللذين أصبحا يحتلان مركز النجومية في توجهات علم النفس المعاصرة”، حسب تعبير الدكتور مصطفى حجازي في كتابه “الإنسان المهدور”[ص329]. الوعي، وليس الخنوع والرضى بالإجحاف، يأتي في مقدمة التفكير الإيجابي، وعي بالإمكانات والقدرات والفرص، فهو يدفع للتحرك والتدبر حتى في الوضعيات التي تبدو بدون مخارج. “إنه المحرك الهام للدافعية والعزم والتصدي والإقدام ومجابهة التحديات، وابتداع الوسائل الأرقى والأكثر تعقيدا ، والتي بدونها لا يمكن للمرء إنجاز أي شيء حتى لو استطاع إلى ذلك سبيلا”. [المصدر، ص331]. يضيف: “والعديد من الكفاءات المحددة للاقتدار الإنساني تشتق من اقتدار الجماعات التي ينتمي إليها الفرد ويعيش وسطها. فإدراك المرء لإمكانات واقتدار محيطه الإنساني يعزز كثيرا من قدرته الذاتية على المجابهة والفعل. ويطلق لديه فاعلية عالية للمثابرة والاستمرار[332]. الوعي بموضوعية التغير الدائب، وبتحول الأشياء يزيد من قدرة المرء على المبادرة ومقاومة الشدائد والتغلب على الخوف من التغيير. تلك هي سمة العصر.
بعد الوعي كعامل أساس في التفكير الإيجابي، تأتي اليقظة الذهنية نقيضا للخمول والبلادة اللذين تروج لهما الميديا الرئيسة بالولايات المتحدة. “اليقظة الذهنية تفتح آفاق الرؤية والوعي بالتحولات والتغيرات والاحتمالات تتيح وحدها التعامل الناجع مع الوضعية المضادة للثبات والقطعية”[333] . اليقظة الذهنية تفتح المجال أمام مقوم آخر من مقومات التفكير الإيجابي، ما يتمثل في المرونة والتلاؤمية على مستوى النشاط الذهني خصوصا، والنمو عموما. تعرف التلاؤمية (المرونة الذهنية والسلوكية) بأنها القدرة على تدبير الأمور في الظروف الصعبة أو المهددة أو حتى في حالات المحن بمقاربة فعالة وناجعة.
يتوسع الباحث حجازي في شروحاته للتفكير الإيجابي في معالجة الرضوض والاختلالات النفسية، مثل الاكتئاب، الناجمة عن عقود وقرون متتالية من القهر والهدر اللذين تواصلا مع نظم الاستبداد في المجتمعات العربية والإسلامية، فيقول، “من أهم مقومات الحياة الطيبة حب الشخص لحياته والوفاق مع ذاته ومع الدنيا والناس. وفي التقدير أن كل إنسان مهدور لديه فرصة طيبة كي يجد من ضمنها وسيلة أو أكثر للتعامل مع شرطه الوجودي الخاص به. ليس هناك حلول جاهزة ؛ إنما أدوات للتوظيف بأساليب وكيفيات نوعية تبعا لحالة كل شخص”[334].
نعود بعد هذا التوضيح الى عرض الكاتبة سونالي كولهاتكر، فتكتب: “كان لي شرف إجراء مقابلة مع الكاتبة الراحلة خلال تلك الفترة؛ اوضحت في المقابلة وجود صناعة ’مكتملة‘ يجري الترويج لها بالولايات المتحدة تتستر على مسئولية النظام الاقتصادي الرأسمالي وأرباب العمل؛ فكل ما يلاقيه المرء ثمرة شعور داخلي؛ بتغييره تنهال عليه النّعم!! صناعة مستثمَرة في الفكرة القائلة انك “بمجرد إن تفكر إيجابيا، إذا توقعت ان كل شيء سيبدو على ما يرام، إذا تفاءلت وابتهجت وانشرح صدرك فكل شيء سيغدو على ما يرام”. هي صناعة احتيال وتغرير بالفقراء والعاطلين عن العمل.
إهرينرايتش شفيت من مرض سرطان الثدي، وقالت انها شرعت التحري في إيديولوجيا التفكير الإيجابي، وهي مصابة بالمرض، حوالي ست سنوات قبل إصدار “جوانب براقة”، حين تاكد لها انها ظاهرة تنفرد بها الولايات المتحدة، تضفي غزلا إيجابيا على كل شيء. تعطيها اسم “صناعة”، شأن كل المهن زراعية كانت او حرفية او فكرية ، كناية عن حرفة او كار شائع الاستعمال.
طبقت الفكرة على اللامساواة الاقتصادية، واكتشفت صناعة مكتملة تقول للأميركيين المكافحين ان فقرهم مصدره تفكيرهم السلبي. وعدت ان بمقدورهم تبديل كل شيء إن هم ببساطة “تصوروا” الثروة، وتبنوا موقف “بالامكان العثور على العمل”، وابتغوا المال يتدفق المرغوب في حيواتهم.
أفكار سخيفة لا تنطلي حتى على السذج، حين يكتوون بنار البطالة والعوز؛ لولا أن في “مركز هذه الصناعة تعمل محفات ، ودعاة متحدثون لبقون، وملصقات ملهمة تلصق على جدران المكاتب”، حسب تعبير الكاتبة، وكذلك “كنائس ضخمة عديدة”، الى جانب وعاظ “إنجيل الثراء” بعدة ملايين الدولارات.” الكنائس الضخمة لا تبحث في الديانة المسيحية، هي تكرز كيف ستكون غنيا لآن الله أرادك غنيا، وأضافت أن العديد من هذه الكنائس ” لا تجد ولو صليبا واحدا على جدرانها”.
غير أن عبادة التفكير الإيجابي تملك في نهاية الأمر المزيد من الجذور العلمانية.”نمت لأن الشركات الاحتكارية احتاجت طريقة لمعالجة الكساد الذي بدأ حقا في ثمانينات القرن الماضي، “بيزنيس يبعث رسالة الى جماهير الموظفين المستغنى عنهم ’انكم في ضائقة ، لكنها حقا فرصة لكم؛ فهي شيئ عظيم ؛ عليكم ان تنظروا إليها بإيجابية، ولا تتذمروا‘”. بالطبع لا تحتجوا وتشتركوا في مظاهرات أو اعتصامات تزعج أرباب العمل!
في نهاية المطاف انطلت على الأميركيين الفكرة القائلة أن فقدان العمل بات علامة على ان ما هو أفضل قادم في الطريق وأن ” كل شيء يحدث لسبب” . التفكير الإيجابي هو البديل للنضال الإيجابي، بإلقاء اللوم على صاحب العمل ، او حتى على نظام العمل في اقتصاد الولايات المتحدة. فذلك “أمر خطر بالنسبة للوول ستريت والاحتكارات الأميركية”.
والغرض الأخر لتكثيف الدعاية للتفكير الإيجابي في الوسط العمالي، كما تقول الكاتبة، يتمثل في “ابتزاز المزيد من ساعات العمل من أولئك الذين نجوا من عملية تسريح العمال”. بعد كل شيء “يتوجب على من بقوا بالوظيفة ان يدركوا أنهم محظوظون بإيجاد عمل – حتى لو عنى ذلك المزيد من ساعات العمل، او العمل في أيام العطل ، ويتحملوا مسئوليات منهكة”.
تختتم سونيا مقالتها: “نحن مدينون للكاتبة الراحلة لأنها ألقت الضوء الساطع ليس فقط على بشاعة النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة ، بل وعلى التفكير الإيجابي، قناعا غامضا أو خلبا يخفي النظام الاقتصادي.أحيانا يتطلب التغيير الإيجابي أن يبدأ بشيء ما لا علاقة له بالتفكير الإيجابي. تختتم المقال بعبارة مأثورة عن الكاتبة الراحلة، حري أن يستلهمهل كل مناضل: “ربما لم تعش إهرينرايتش لترى أفكارها حول العدالة الاقتصادية قد تحققت بالكامل؛ ولكن، كما صرحت ذات مرة لمجلة نيويوركر،” ليست الفكرة اننا سوف نفوز في حياتنا …بل أن نموت ونحن نحاول”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى