الحضارة والفكر في الغرب الإسلامي بين مجد الماضي ورهان المستقبل

أجدور عبد اللطيف | المغرب

شهد التاريخ الطويل على صفحات ناصعة من فلتات التشييد والبناء الإنسانيين، وعلى سوابق مدهشة في العمارة والإختراعات والمنجزات التقنية التي غيرت الحياة على سطح هذا الكوكب المحظوظ بالإنسان، هذا الأخير الذي خاض رحلة تطوير خلاقة انتقلت به من مجرد كائن يسير على أربع غالب حاله، ويقتات على ما تصدفه يداه الخشنتان، وينام حيث يجن الليل على جسده القاسي المغبر، إلى كائن يحاكي الطبيعة ويطوعها.. لقد انطلقت هذه الرحلة من ملكات الملاحظة والربط والتحليل والتجريب حتى في صيغها الأولى اللاواعية وذلك في العقل الإنساني الجبار الذي أنتج إلى جانب كل تمثلات الحضارة المادية الجليلة فكرا إنسانيا لا يقل جلالا ولا جمالا.

اتخذت الحضارة الإسلامية منذ فجرها الفكر منطلقها ومنطقها، تجسد ذلك في وضوح لا يهادن من خلال الدعوة في أول كلمة يصدح بها الوحي إلى القراءة والمعرفة والتفكير، كما يعج الخطاب القرآني والنبوي بالدعوات الملحة المتواصلة إلى الإستثمار في الفكر من حيث هو الجسر الوحيد الموصل للنهضة الحضارية والقناة الحصرية المغذية للإنتاج الإنساني الخلاق تماشيا مع مبدأ خلافة الإنسان في الأرض.
ألهم هذا التوجه النبيل الإنسان المسلم وأذكى فيه روح السبق والإبداع والبحث وإعمال الفكر عبر رحلة الحضارة الإسلامية الجادة، والتي خلفت إرثا مجيدا على كل المستويات وشملت كل الرفع الجغرافية التي غمرها الإسلام مشيعا روح تمجيد المعرفة قبل كل شيء آخر.
استجاب المسلمون في الشرق كما في المغرب الإسلامي لهذا النداء منذ حلول الإسلام بهذا القطر الغني قبلا، وتواصل النسق الفكري في تحقيق الإكتشافات وتدوين البحوث في الفلسفة والفلك والطب وعلم الإجتماع والتاريخ والمنطق والفيزياء والكيمياء وغيرها كثير.. لقد انطلقت أسس التفكير الإسلامي الذي يعتبر الحكمة او المعلومة بلغة العصر ضالته بالمدينة المنورة، وتواصل نماءه مع توالي الدول والإمبراطوريات مع كل الاضطرابات السياسية التي شهدتها، فإن كل الحكام كانوا متشبعين بثقافة إكرام المفكرين وحثهم على المضي حزما وقدما، منذ الدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق انتهاء بالمغرب مع الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة.
لا ينكر منصف ما خلفته الدولة الرومانية بالمغرب من آثار حضارية خاصة في العمران وبعض مظاهر التمدن، لكن لا يماري كذلك نبيه في كون ما سطره التاريخ الإسلامي يتجاوز ذاك بمراحل، ولعل شرارة انبثاق العلم بالمغرب الإسلامي انطلقت من جامع القرويين وبعده جامع القيروان حيث قام بعدها عقبة بن نافع بتشييد مساجد وصروح عملت كمراكز علمية درس فيها الصحابة والتابعون، حتى رؤى ان عكرمة مولى ابن عباس عقد الحلقات فيها، وحذا موسى بن نصير حذو سابقين حيث ورد أنه أحضر سبع وعشرين فقيها لتعليم القرآن والتفسير وعلوم اللغة.. هذان الصرحان اللذان خرجا العديد ممن ما تزال منتجاتهم قيد الدراسة والتمحيص حتى اليوم، ولاحقا مع توسع الدولتين المرابطية فالموحدية ووصولها للأندلس واصلت الدولتان الإغداق على المفكرين بالمال والدعم الرمزي.

لعل اللائحة تطول غير أنه يمكن إيراد بعض الأعلام التي بصمت هذه الفترة كأحمد بن الجزار صاحب زاد المسافر وإسحاق بن عمران في الطب، وفي الجغرافيا ابن حزم والقاضي النعمان وغيرهم، وفي الفلسفة يكفي أن نذكر الغرب لنذكر ابن رشد، ونمفي أن نذكر هذا الإسم لنعرج على تهافت التهافت الذي شكل محطة فاصلة ومنعرجا هاما في تاريخ الفكر الإسلامي حتى اليوم، إذ أنه نقل من الفكر الإغريقي عددا من المبادئ الهامة التي شكلت وقودا دافعا للعصر الذهبي بالمغرب الإسلامي بعدها.
وما قيل في الفكر يسري على العمران ومظاهر التمدن ولعل الآثار بالمدن القديمة كفاس ومكناس والصويرة وتطوان والأندلس شاهدة على إتقان تصاميم البناء واعتماد مبادئ فيزيائية وجمالية غاية في الدقة، مع توفير مرافق ومواصلات على شاكلة ما نراه اليوم.
تستدعي المنجزات الحضارية التي خطها المسلمون في الغرب الإسلامي مزيدا من النبش والتنقيب، والدراسة والبحث لاستجلاء الفوائد واستلهام الطاقات الشابة للسير في سبيل الإنتاج الفكري الذي يعد الرافعة المباشرة للحضارات والمحرك الأمثل لعربتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى